333 - ـ فصل : استقامة الأمور باستقامة الباطن .
ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول و قد سمعنا و رأينا جماعة من الفطناء الكاملي العقل لعبت بهم الدنيا حتى صاروا كالمجانين فولوا الولايات فخرجوا إلى القتل و الضرب و الحبس و الشتم و ذهاب الدين و المباشرة للظلم كله لأجل دنيا تذهب سريعا .
و هي في مدة إقامتها معجونة بالنغص .
فيا أيها المرزوق عقلا لا تبخسه حقه و لا تطفئ نوره و اسمع ما نشير به و لا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه .
فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه و لم يمكنك تأديبه فيبلغ جاهلا فقيرا : .
( لا تسه عن أدب الصغ ... ير و لو شكا ألم التعب ) .
( و دع الكبير لشأنه ... كبر الكبير عن الأدب ) .
و اعلم أن زمان الإبتلاء ضيف قراه الصبر كما قال أحمد بن حنبل : [ إنما هو طعام دون طعام و لباس دون لباس و أنها أيام قلائل فلا تنظر إلى لذة المترفين و تلمح عواقبهم و لا تضق صدرا بضيق المعاش و علل الناقة بالحدو تسير : .
( طاول بها الليل مال النجم أم جنحا ... و ما طل النوم ضن الجفن أم سمحا ) .
( فإن تشكت فعللها المجرة من ... ضوء الصباح و عدها بالرواح ضحى ) .
و قد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية فردها ثم قال بعد سنة لأولاده : [ لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت ] .
و مر بشر على بئر فقال له صاحبه : أنا عطشان فقال : البئر الأخرى فمر عليها فقال له : الأخرى ثم قال : كذا تقطع الدنيا .
و دخلوا إلى بشر الحافي و ليس في داره حصير فقيل له : ألا بذا تؤذى ؟ فقال : هذا أمر ينقضي .
و كان لداود الطائي دار يأوي إليها فوقع سقف فانتقل إلى سقف إلى أن مات في الدهليز .
فهؤلاء الذين نظروا في عواقب الأمور و بعد هذا فلا أطالبك بهذه الرتبة بل أقول لك : إن حصل لك شيء من المباح لا من فيه و لا أذى و لا نلته بسؤال و لا من يد ظالم تعلم أن ماله حرام أو فيه شبهة فإفسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه و كن مقدرا للنفقة غير مبذر .
فإن الحلال لا يحتمل السرف و متى أسرفت إحتجت إلى التعرض للخلق و التناول من الأكدار .
و إن ضاق بك أمر فأصبر فإن ضعف الصبر فسل فاتح الأبواب فهو الكريم و عنده مفاتح الغيب .
و إياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق أو يتقرب إلى الأمراء و تستعطي أموالهم .
و أذكر طريق السلف : كان ابن سمعون له ثياب يجلس فيها للناس ثم يطويها إلى المجلس الآخر ورثها عن أبيه بقيت أربعين سنة .
و كانت ميمونة بنت شاقولة تعظ الناس و لها ثياب قد بقيت أربعين سنة .
و من صفا نظره و تهذب لفظه نفع وعظه و من كدر كدر عليه .
و الحالة العالية في هذا إقبال القلب على الله D و التوكل عليه و النظر إليه و إلتفات القلب عن الخلق .
فإن إحتجت فإسأله و إن ضعفت فإرغب إليه .
و متى ساكنت الأسباب إنقطعت عنه و متى إستقام باطنك إستقامت لك الأمور