350 - ـ فصل : في عدم الصبرعن المشتهى الهلاك .
لما جمعت كتابي المسمى بالمنتظم في تاريخ الملوك و الأمم إطلعت على سير الخلق من الملوك و الوزراء و العلماء و الأدباء و الفقهاء و المحدثين و الزهاد و غيرهم فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعبا أذهب أديانهم حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب .
فمن الأمراء من يقتل و يصادر و يقطع و يحبس بغير حق ثم ينخرط في سلك المعاصي كأن الأمر إليه أو قد جاءه الأمن من العقاب .
فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني و ينسي أنه قد قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } .
و قد انخرط جماعة ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي لتحصيل أغراضهم العاجلة فما نفعهم العلم .
و رأينا خلقا من المتزهدين خالفوا لنيل أغراضهم و هذا لأن الدنيا فخ و الناس كعصافير و العصفور يريد الحبة و ينسى الخنق .
قد نسي أكثر الخلق مآلهم ميلا إلى عاجل لذاتهم فأقبلوا يسامرون الهوى و لا يلتفتون إلى مشاورة العقل .
فلقد باعوا بلدة يسيرة خيرا كثيرا و إستحقوا بشهوات مرذولة عذابا عظيما .
فإذا نزل بأحدهم الموت قال : ليتني لم أكن ليتني كنت ترابا فيقال له : الآن ؟ .
فوا أسفي لفائت لا يمكن استدراكه و لمرتهن لا يصح فكاكه و لندم لا ينقطع زمانه و لمعذب عز عليه إيمانه بالله .
ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها و يعول عليها .
و لا يمكن قبول مشاورها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهي .
فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب و ابن عبد العزيز Bهما و في العلماء أحمد بن حنبل رحمة الله عليه و في الزهاد أويس القرني .
لقد أعطوا الجد حقه و فهموا مقصود الوجود .
و ما هلك الهالكون إلا لقلة الصبر عن المشتهى .
و ربما كان فيهم من لا يؤمن بالبعث و العقاب .
و ليس العجب من ذاك إنما العجب من مؤمن يوقن و لا ينفعه يقينه و يعقل العواقب و لا ينفعه عقله