353 - ـ فصل : ويل لمن عرف مرارة الجزاء ثم آثر لذة المعصية .
إعلم أن الجزاء بالمرصاد إن كانت حسنة أو كانت سيئة .
و من الإغترار أن يظن المذنب إذا لم ير عقوبة أنه قد سومح و ربما جاءت العقوبة بعد مدة .
و قل من فعل ذنبا إلا و قوبل عليه قال D : { من يعمل سوءا يجز به } .
هذا آدم عليه السلام أكل لقمة فقد عرفتم ما جرى عليه .
قال وهب بن منبه : [ أوحى الله تعالى إليه ألم أصنعك لنفسي و أحللتك داري و أسجدت لك ملائكتي فعصيت أمري و نسيت عهدي ؟ ] .
و عزتي لو ملأت الأرض كلهم مثلك يعبدون يسبحون في الليل و النهار ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين .
فنزع جبريل التاج عن رأسه و حل ميكائيل الإكليل عن جبينه و جذب بناصيته فأهبط .
فبكى آدم ثلاث مائة عام على جبل الهند تجري دموعه في أودية جبالها فنبتت بتلك المدامع أشجار طيبكم هذا .
و كذلك داود عليه السلام نظر نظرة فأوجبت عتابه و بكاءه الدائم حتى نبت العشب من دموعه .
و أما سليمان عليه السلام فإن قوما إختصموا إليه فكان هواه مع أحد الخصمين فعوقب و تغير في أعين الناس و كان يقول : [ أطعموني فلا يطعم ] .
و أما يعقوب عليه السلام فإنه يقال إنه ذبح عجلا بين يدي أمه فعوقب بفراق يوسف .
و أما يوسف عليه السلام فأخذ بالهم و كل واحد من إخوته ولد له إثنا عشر ولدا و نقص هو ولدا لتلك الهمة .
و أما أيوب عليه السلام فإنه قصر في الإنكار على ملك ظالم لأجل خيل كانت في ناحيته فابتلى .
و أما يونس عليه السلام فخرج عن قومه بغير إذن فالتقمه الحوت .
و أوحى الله D إلى أرميا : إن قومك تركوا الأمر الذي أكرمت به أباءهم و عزتي لأهيجن عليهم جنودا لا يرحمون بكائهم .
فقال : يا رب هم ولد خليلك إبراهيم و أمة صفيك موسى و قوم نبيك داود فأوحى الله تعالى إليه : إنما أكرمت إبراهيم و موسى و داود بطاعتي و لو عصوني لأنزلتهم منازل العاصين .
و نظر بعض العباد شخصا مستحسنا فقال له شيخه : ما هذا النظر ؟ ستجد غبه فنسى القرآن بعد أربعين سنة .
و قال آخر : قد عبت سخصا قد ذهب بعض أسنانه فانتثرت أسناني .
و نظرت إلى امرأة لا تحل فنظر إلى زوجتي من لا أريد .
و كان بعض العاقين ضرب أباه و سحبه إلى مكان فقال له الأب : حسبك إلى ههنا سحبت أبي .
و قال ابن سيرين : عيرت رجلا بالإفلاس فأفلست و مثل هذا كثير .
و من أعجب ما سمعت فيه عن الوزير ابن حصير الملقب بالنظام أن المقتفي غضب عليه و أمر بأن يؤخذ منه عشرة آلاف دينار .
فدخل عليه أهله محزونين و قالوا له : من أين لك عشرة آلاف دينار ؟ .
فقال : ما يؤخذ مني عشرة و لا خمسة و لا أربعة .
قالوا : من أين لك ؟ قال : إني ظلمت رجلا فألزمته ثلاثة آلاف فما يؤخذ مني أكثر منها .
فلما أدى ثلاثة آلاف دينار وقع الخليفة بإطلاقه و مسامحته في الباقي .
و أنا أقول عن نفسي : ما نزلت بي آفة أو غم أو ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى .
يمكننني أن أقول : هذا بالشيء الفلاني .
ربما تأولت في بعد فأرى العقوبة .
فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنوب فقل أن يسلم منه .
و ليجتهد في التوبة فقد روي في الحديث : [ ما من شيء أسرع لحاقا بشيء من حسنة حديثة لذنب قديم ] .
و مع التوبة يكون خائفا من المؤاخذة متوقعا لها فإن الله تعالى قد تاب على الأنبياء عليهم السلام .
و في حديث الشفاعة يقول آدم : ذنبي و يقول إبراهيم و موسى : ذنبي .
فإن قال قائل : قوله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } خبر فهو يقتضي ألا يجاوز عن مذنب وقد عرفنا قبول التوبة و الصفح عن الخاطئين .
فالجواب من وجهين : أحدهما : أن يحمل على من مات مصرا و لم يتب فإن التوبة تجب ما قبلها .
و الثاني : أنه على إطلاقه و هو الذي أختاره أنا و أستدل بالنقل و المعنى .
أما النقل فإنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : يا رسول الله أو نجازي بكل ما نعمل ؟ فقال : [ ألست تمرض ؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك البلاء ؟ فذلك ما تجزون به ] .
و أما المعنى فإن المؤمن إذا تاب و ندم كان أسفه على ذنبه في كل وقت أقوى من كل عقوبة .
فالويل لمن عرف مرارة الجزاء الدائم ثم آثر لذة المعصية لحظة