357 - ـ فصل : متى جرى ما لا نعرف حكمته فأنسبه إلى قصور علمك .
هذا فصل ملاحظته من أهم الأشياء .
ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله و يعلم أنه حكيم و مالك و أنه لا يعبث .
فإن خفيت عليه حكمة فعله نسب الجهل إلى نفسه و سلم للحكيم المالك فإذا طالبه العقل بحكمة الفعل قال : ما بانت لي فيجيب علي تسليم الأمر لمالكه .
و إن أقواما نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه فرأوها لو صدرت من مخلوق نسب فيها إلى ضد الحكمة فنسبوا الخالق إلى ذلك .
و هذا الكفر المحض و الجنون البارد .
و الواجب نسبة الجهل إلى النفوس لإغن العقول قاصرة مطالعة حكمته .
و أول من فعل ذلك إبليس فإنه قد رآه قد فضل طينا على نار و العقل يرى النار أفضل فعاب حكمته .
و عمت هذه المحنة خلقا ممن ينسب إلى العلم و كثير من العوام .
فكم قد رأينا عالما يعترض و عاميا يرد فيكفر و هذه محنة قد شملت أكثر الخلق .
يرون عالما يضيق عليه و فاسقا وسع عليه فيقولون هذا لا يليق بالحكمة .
و قد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات و الخراج و الجزية و الغنائم و الكفارات ليستغني بها الفقراء فإختص بذلك الظلمة .
و صانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها فجاع الفقير .
فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة و لا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء .
و قد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين في حبسهم الحقوق و ابتلاء الفقراء بصبرهم عن حظوظهم .
و أكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من إعتراض يخرج إلى الكفر فتخرج النفس كافرة .
فكم عامي يقول : فلان قد ابتلى و ما يستحق .
و معناه أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب و قد قال بعض الخلعاء : .
( أيا رب تخلق أقمار ليل ... و أغصان بان و كثبان رمل ) .
( و تنهى عبادك أن يعشقوا ... أيا حاكم العدل ذا حكم عدل ؟ ؟ ) .
و مثل هذا ينشده جماعة من العلماء و يستحسنونه و هو كفر محض .
و ما فهم هؤلاء سر النهي و لا معناه لأنه ما نهى عن العشق و إنما نهى عن العمل بمقتضى العشق من الأشياء المحرمة كالنظر و اللمس و الفعل القبيح .
و في الامتناع عن المشتهي دليل على الإيمان بوجود الناهي كصبر العطشان في رمضان عن الماء فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم .
و تسليم النفوس إلى القتل و الجهاد دليل على اليقين بالجزاء .
ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد فأين العقل المتأمل .
كلا لو تأمل و صبر قليلا لربح كثيرا .
و لو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء و العوام لطال .
و من أحسن الناس حالا في ذلك ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يوما و إشتد جوعه فجلس على الجسر و قد أمضه الجوع .
فمرت الخيل مزينة بالحرير و الديباج فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق غلام الخليفة .
فمرت جوار مستحسنات فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق .
فمر به رجل فرآه و عليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين فأخذهما و رمى بهما و قال : هذه لعلي بن بلتق و هذان لي ؟ .
نسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول و يعترض و يفعل أهل هذه المجاعة .
فيا معترضين و هم في غاية النقص على من لا عيب في فعله أنتم في البداية من ماء و طين و في الثاني من ماء مهين ثم تحملون الأنجاس على الدوام و لو حبس عنكم الهواء لصرتم جيفا .
و كم من رأى يراه حازمكم فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه .
ثم لمعاصي منكم زائدة في الحد .
فما فيكم إلا الإعتراض على المالك الحكيم ؟ .
و لو لم يكن في هذه البلاوي إلا أن يراد منا التسليم لكفى .
و لو أنه أنشأ الخلق ليدلوا على وجوده ثم أهلكهم و لم يعدهم كان ذلك له لأنه مالك لكنه بفضله و عد بالإعادة و الجزاء و البقاء الدائم في النعيم .
فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته فانسب إلى قصور علمك .
و قد ترى مقتولا ظلما و كم قد قتل و ظلم حتى قوبل ببعضه .
و قل أن يجري لأحد آفة إلا و يستحقها غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا و رأينا الجزاء وحده .
فسلم تسلم و إحذر كلمة إعتراض أو إضمار فربما أخرجتك من دائرة الإسلام