360 - ـ فصل : شبه في الزهد و بيانها .
رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة جارين على ما ألفوا من العادة .
و قد يخلص منهم فريقان : علماء و عباد .
فتأملت جمهور العلماء فرأيتم في تخليط منهم من يقتصر على علم معاملات الدنيا و يعرض عن معاملات الآخرة .
و إما لجهله بها أو لثقل أمرها عليه فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم و يتبع في الباقي العادات .
و ربما تخايل أنه يسامح في الخطايا لكونه عالما و قد نسي أن العلم حجة عليه .
و منهم من هو واقف مع صورة العلم غافل عن المقصود بالعلم و فيهم من يخالط السلطان فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب و الظلم و لا يمكنه الإنكار .
و ربما مدح هو و يتأذى السلطان بصحبته فيقول : لو لا أني على صواب ما جالسني هذا .
و يتأذى العوام فيقولون : لو لا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العلم .
و رأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم و ينسون أن اليهود من بني إسرائيل .
و أما الفريق الثاني و هم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير الجادة في أكثر عملهم قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتبا فيها دقائن قبيحة و أحاديث غير صحيحة و يأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة .
مثل كتب الحارث المحاسب ي و أبي عبد الله الترمذي و قوت القلوب لأبي طالب المكي و كتاب الإحياء لأبي حامد الطوسي .
فإذا فتح المبتدئ عينه و هم بسلوك الطريق بهذه الكتب حملته إلى الخطايا لأنهم قد بنوا على أحاديث محالة .
و يذمون الدنيا و لا يدرون ما المذموم منها .
فيتصور المبتدئ ذم ذات الدنيا فيهرب المنقطع إلى الجبل و ربما فاتته الجماعة و الجمعة و يقتصر على البلوط و الكمثري فيورثه القولنج .
و يقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع أو يأكل الباقلاء و العدس فيحدث له قراقر .
و إنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولا بالناقة ليصل .
ألا ترى للفطن من الأتراك يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه .
و ربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف و المتزهدين فبتبعهم المريد فيتأذى بذلك .
و متى رددنا ذلك المنقول و بينا خطأ فاعله قال الجهال : أترد على الزهاد ؟ .
و إنما ينبغي اتباع الصواب و لا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس .
فإنا نقول : قال أبو حنيفة ثم يخالفه الشافعي و إنما ينبغي أن يتبع الدليل .
قال المروذي ؟ : مدح أحمد بن حنبل النكاح فقلت له : قد قال إبراهيم بن أدهم فصاح و قال : وقعنا في بينات الطريق عليك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
و تكلم أحمد في الحارث المحاسبي و رد على سري السقطي حين قال : لما خلق الله الحروف وقف الألف و سجدت الباء فقال : نفروا الناس عنه فالحق لا ينبغي أن يحابى فإنه جد .
و إني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة و صار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم .
فيقال : قال أبو طالب المكي : [ كان من السلف من يزن قوته بكرية فينقص كل يوم ! ] .
و هذا شيء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه و إنما كانوا يأكلون دون الشبع .
فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهي عنه .
و يقول : قال داود الطائي لسفيان : [ إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت ؟ و كان ماؤه في دن ] .
و ما علم أن للنفس حظا و أن شرب الماء الحار يرهل المعدة و يؤذي و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبرد الماء .
و يقول آخر منهم : منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه .
و يقول آخر : أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي .
أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة ؟ .
و هذا ما نظر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن كان الورع حسنا و لكن لا على حمل المشاق الشديدة .
و هذا بشر الحافي يقول : لا أحدث لأني أشتهي أن أحدث و هذا تعليل لا يصلح لأن الإنسان مأمور بالنكاح و هو من أكبر المشتهي .
و كان بشر حافيا حتى قيل له الحافي و لو ستر أمره بنعلين كان أصلح .
و الحفاء يؤذي العين و ليس من أمر الدنيا في شيء فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نعلان .
و ما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم .
فقد كان [ رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك و يمزح و يختار المستحسنات و يسابق عائشة Bه و كان يأكل اللحم و يحب الحلوى و يستعذب له الماء ] .
و على هذا كان طريقه أصحابه فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة و كلها على غير الجادة .
و يحتجون بقول المحاسبي و المكي و لا يحتج أحد منهم بصحابي و لا تابعي و لا بإمام من أئمة الإسلام .
فإن رأوا عالما لبس ثوبا جميلا أو تزوج مستحسنة أو أفطر بالنهار أو ضحك عابوه .
فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم .
حتى أن بعضهم يقول : منذ ثمانين سنة ما اضطجعت .
و يقول آخر : حلفت لا أشرب الماء سنة .
و هؤلاء على غير الصواب فإن للنفس حقا .
فأما من ساء قصده ممن نافق و راءى لاجتلاب الدنيا و تقبيل الأيدي فلا كلام معه و هم جمهور المتصوفة فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة و ما معهم أحسن من السفلاطون و إنما رفع القدماء للفقر .
فهم في اللذات و جمع المال و أخذ الشبهات و استعمال الراحة و اللعب و مخالطة السلاطين .
و هؤلاء قد كشفوا القناع و باينوا زهد أوائلهم .
بلى : أعجب منهم من ينفق عليهم ! !