46 - ـ فصل : الانقطاع إلى الله .
كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريف الزهاد بإدامة الصوم و الصلاة .
و حببت إلي الخلوة فكنت أجد قلبا طيبا و كانت عين بصيرتي قوية الحدة تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة و تبادر الوقت في اغتنام الطاعات .
و لى نوع أنس و حلاوة مناجاة ! ! .
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي فأمالني إليه فمال الطبع ففقدت تلك الحلاوة .
ثم استمالني آخر فكنت أتقي مخالطته و مطاعمه لخوف الشبهات و كانت حالتي قريبة .
ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح فعدم ما كنت أجد من استنارة و سكينة .
و صارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله .
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس فيتوبون و يصلحون و أخرج مفلسا فيما بيني و بين حالي .
و كثر ضجيجي من مرضي و عجزت عن طب نفسي فلجأت إلى قبور الصالحين و توسلت في صلاحي فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهةمني ورد قلبي علي بعد نفور مني وأراني عيب ما كنت أوثره .
فأفقت من مرض غفلتي ! و قلت في مناجاة خلوتي : سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ و بأي لسان أنطق بمدحك ؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي و نبهتني من رقدتي و أصلحت حالي على كره من طبعي .
فما أربحني فيما سلب مني إذ كانت ثمرته اللجأ إليك ! .
و ما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي علىالخلوة بك .
و ما أغناني إذ أفقرتني إليك و ما آنسني إذ أوحشتني من خلقك .
آه على زمان ضاع في غير خدمتك ! أسفا لوقت مضى في غير طاعتك .
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل .
و إذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم .
و ما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض .
فالآن قد هبت نسائم العافية فأحسست بالألم فستدللت على الصحة فيا عظيم الإنعام تمم لي العافية .
آه من سكير لم يعلم قدر عربدته إلا في و قت الإفاقة ؟ .
لقد فتقت ما يصعب رتقه فوا أسفا على بضاعة ضاعت و على ملاح تعب في موج الشمال مصاعدا مدة ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الأول .
يا من يقرأ تحذيري من التخطيط فإني ـ و إن كنت خنت نفسي بالفعل ـ نصيح لإخوتي بالقول احذروا إخواني من الترخص فيما لايؤمن فساده .
فإن الشيطان يزين في أول مرتبة ثم يجر إلي النجاح فتلمحوا المآل و افهموا الحال .
و ربما أراكم الغاية الصالحة و كان في الطريق إليها نوع مخالفة فيكفي الإعتبار في تلك الحال بأبيكم { هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى } .
إنما تأمل آدم الغاية و هي الخلد و لكنه غلط في الطريق و هذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء .
يتأولون لقوالب المصالح فيستعجلون ضرر المفاسد مثاله أن يقول للعالم : ادخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم فيستعجل الداخل رؤية المنكرات و يتزلزل دينه .
وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم .
فمن لم يثق بدينه فليحذر من المصائد فإنها خفية .
و أسلم ما للجان العزلة خصوصا في زمان قد مات فيه المعروف و عاش المنكر و لم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة .
فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز و لم يقدر على جذبهم مما هم فيه .
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من نفع العلم قد صاروا كالشرطة .
فليس إلا العزلة عن الخلق و الإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة و لأن أنفع نفسي وحدي خير لي من أن أنفع غيري و اتضرر .
فالحذر الحذر من خوادع التأويلات و فواسد الفتاوى و الصبر الصبر على ما توجبه العزلة فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته فهان كل صعب و طاب كل مر و تيسر كل عسر و حصلت كل مطلوب .
و الله الموفق بفضله و لا حول و لا قوة إلا به