قوله : 187 - { أحل لكم } فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراما عليهم وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية وسيأتي والرفث : كناية عن الجماع قال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته وكذا قال الأزهري ومنه قول الشاعر : .
( ويرين من أنس الحديث زوانيا ... وبهن عن رفث الرجال نفار ) .
وقيل الرفث : أصله قول الفحش رفث وأرفث : إذا تكلم بالقبيح وليس هو المراد هنا وعدي الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء وجعل النساء لباسا للرجال والرجال لباسا لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه قال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة : لباس وفراش وإزار وقيل : إنما جعل كل واحد منهما لباسا للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس وقوله : { تختانون أنفسكم } أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم يقال : خان واختان بمعنى وهما من الخيانة قال القتيبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه انتهى وإنما سماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم وقوله : { فتاب عليكم } يحتمل معنيين : أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله : { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم } يعني خفف عنكم وكقوله : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله } يعني تخفيفا وهكذا قوله : { وعفا عنكم } يحتمل العفو من الذنب ويحتمل التوسعة والتسهيل وقوله : { وابتغوا } قيل هو الولد : أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل وقيل : المراد ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه قاله الزجاج وغيره وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة وقيل : ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني ولا دل عليه دليل آخر وقرأ الحسن البصري واتبعوا بالعين المهملة من الإتباع وقوله : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هو تشبيه بليغ والمراد هنا بالخيط الأبيض : هو المعترض في الأفق لا الذي هو كذنب السرحان فإن الفجر الكذاب الذي لا يحل شيئا ولا يحرمه والمراد بالخيط الأسود : سواد الليل والتبين : أن يمتاز أحدهما عن الآخر وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر وقوله : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فيه التصريح بأن اللصوم غاية هي الليل فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما وقوله : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } قيل : المراد بالمباشرة هنا الجماع وقيل : تشمل التقبيل واللمس إذا كانا لشهوة لا إذا كانا لغير شهوة فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم وعلى هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة والاعتكاف في اللغة : الملازمة يقال عكف على الشيء : إذا لازمه ومنه قول الشاعر : .
( وظل بنات الليل حولي عكفا ... عكوف البواكي حولهن صريع ) .
ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له : عاكف في المسجد ومعتكف فيه لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد والاعتكاف في الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد وللإعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث وقوله : { تلك حدود الله } أي هذه الأحكام حدود الله وأصل الحد المنع ومنه سمي البواب والسبحان حدادا وسميت الأوامر والنواهي حدود الله لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها وأن يخرج عنها ما هو منها ومن ذلك سميت الحدود حدودا لأنها تمنع أصحابها من العود ومعنى النهي عن قربانها النهي عن تعديها بالمخالفة لها وقيل : إن حدود الله هي محارمه فقط ومنها المباشرة من المعتكف والإفطار في رمضان لغير عذر وغير ذلك مما سبق النهي عنه ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح وقوله : { كذلك يبين الله آياته } أي كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق وقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب رسول الله A إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي A فنزلت هذه الآية : { أحل لكم ليلة الصيام } إلى قوله : { من الفجر } ففرحوا بها فرحا شديدا وأخرج البخاري أيضا من حديثه قال : لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } الآية وقد روي في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الناس أول ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام ثم قال : وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته ثم أتى رسول الله فقال : يا رسول إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي وذكر ما وقع منه فنزل قوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : إن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا النساء والطعام في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله A فأنزل الله { أحل لكم ليلة الصيام } الآية وأخرج ابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : الرفث الجماع وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر مثله وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هذا الجماع غير أن الله حيي كريم يكني بما شاء عما شاء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } قال : هن سكن لكم وأنتم سكن لهن وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { تختانون أنفسكم } قال : تظلمون أنفسكم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فالآن باشروهن } قال : انكحوهن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وابتغوا ما كتب الله لكم } قال : الولد وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة والضحاك مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { وابتغوا ما كتب الله لكم } قال : ليلة القدر وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مثله وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال : { وابتغوا } الرخصة التي كتب الله لكم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال : أنزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل { من الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله { من الفجر } فعلموا أنه يعني الليل والنهار وفي الصحيحين وغيرهما [ عن عدي بن حاتم أنه جعل تحت وسادة خيطين أبيض وأسود وجعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود فغدا على رسول الله A فأخبره فقال : إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل ] وفي رواية في البخاري وغيره إنه [ قال له : إنك لعريض القفا ] وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم : [ أنه ضحك منه ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قال : كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : [ إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { تلك حدود الله } قال : يعني طاعة الله وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : { حدود الله } معصية الله : يعني المباشرة في الاعتكاف وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنها الجماع وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير في قوله : { كذلك } يعني هكذا يبين الله