وقوله : 9 - { ربنا إنك جامع الناس } أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم { ليوم } هو يوم القيامة أي لحساب يوم أو لجزاء يوم على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه قوله : { لا ريب فيه } أي : في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب والجزاء وقد تقدم تفسير الريب وجملة قوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } للتعليل لمضمون ما قبلها : أي أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه وخلفه يخالف الألوهية كما أنها تنافيه وتباينه .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما نؤمن به ونعمل به والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال في قوله : { منه آيات محكمات } قال : الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات { قل تعالوا } والآيتان بعدها وفي رواية عنه أخرجها عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { آيات محكمات } قال : من هنا { قل تعالوا } إلى ثلاث آيات ومن هنا { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } إلى ثلاث آيات بعدها وأقول : رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه فإن تعيين ثلاث آيات أو عشر أو مائة من جميع آيات القرآن ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى على قوله المنقول عنه قريبا من أن المحكمات ناسخه وحلاله إلخ فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام وأخرج عبد بن حميد عنه قال : المحكمات : الحلال والحرام وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدمنا في أول هذا البحث وأخرج ابن جرير ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } يعني أهل الشك فيحملون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم ويلبسون فلبس الله عليهم { وما يعلم تأويله إلا الله } قال : تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود { زيغ } قال : شك وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت : [ تلا رسول الله A { هو الذي أنزل عليك الكتاب } إلى قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } إلى قوله : { أولو الألباب } قالت : قال رسول الله A : إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى فاحذروهم ] وفي لفظ [ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ] هذا لفظ البخاري ولفظ ابن جرير وغيره [ فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم ] وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي أمامة عن النبي A في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } قال : هم الخوارج وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي A قال : [ كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن على سبعة أحرف : زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا ] وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفا وأخرج الطبراني عن عمر بن أبي سلمة أن النبي A قال لعبد الله بن مسعود فذكر نحوه وأخرج البخاري في التاريخ عن علي مرفوعا بإسناد ضعيف نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود نحوه وأخرج ابن جرير وأبو يعلى عن أبي هريرة أن رسول الله A قال : [ نزل القرآن على سبعة أحرف والمراء في القرآن كفر ما عرفتم فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ] وإسناده صحيح وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة مرفوعا وفيه [ واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن طاوس قال : كان ابن عباس يقرأها { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال في قراءة عبد الله : وإن حقيقة تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي الشعثاء وأبي نهيك قال : إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون : آمنا به كل من عند ربنا } فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا وأخرج ابن جرير عن عروة قال : الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون : آمنا به كل من عند ربنا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر بن عبد العزيز نحوه وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي قال : كتاب الله ما استبان فاعمل به وما اشتبه عليك فآمن به وكله إلى عالمه وأخرج أيضا عن ابن مسعود قال : إن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم فتمسكوا به وما اشتبه عليكم فذروه وأخرج أيضا عن معاذ نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : تفسير القرآن على أربعة وجوه : تفسير يعلمه العلماء وتفسير يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام وتفسير تعرفه العرب بلغتها وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله من ادعى علمه فهو كذاب وأخرج ابن جرير عنه قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به وتفسير تفسره العرب وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : أنا ممن يعلم تأويله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عنه في قوله : { يقولون : آمنا به } نؤمن بالمحكم وندين به ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به وهو من عند الله كله وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار : أن رجلا يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله ضبيع فقال : وأنا عبد الله عمر فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه فقال : يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي وأخرجه الدارمي أيضا من وجه آخر وفيه : أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ ثم يضربه وأخرج أصل القصة ابن عساكر في تاريخه عن أنس وأخرج الدارمي وابن عساكر : أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا ضبيعا وقد أخرج هذه القصة جماعة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء [ أن رسول الله A سئل عن الراسخين في العلم ؟ فقال : من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ] وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي عن أنس مرفوعا نحوه وأخرج أبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله A : [ الجدال في القرآن كفر ] وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال : [ خرج رسول الله A ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن فخرج محمرة وجنتاه كأنما يقطران دما فقال : يا قوم لا تجادلوا في القرآن فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل ليصدق بعضه بعضا فما كان من محكمه فاعملوا به وما كان من متشابهه فآمنوا به ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أم سلمة [ أن النبي A كان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ثم قرأ { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } الآية ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عنها مرفوعا نحوه بأطول منه وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن مردويه عن عائشة مرفوعا نحوه وقد ورد نحوه من طرق أخر وأخرج ابن النجار في تاريخه في قوله : { ربنا إنك جامع الناس ليوم } الآية عن جعفر بن محمد الخلدي قال : روي عن النبي A : [ أن من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه رده الله عليه ويقول بعد قراءتها : يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير ]