ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة بل طلبوا التعب والكد 19 - { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } وكان هذا القول منهم بطرا وطغيانا لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العافية فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن والمفاوز والقفار والبراري المتباعدة الأقطار فأجابهم الله إلى ذالك وخرب تلك القرى المتواصلة وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا : { ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها } الآية مكان المن والسلوى وكقول النضر بن الحارث { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية قرأ الجمهور { ربنا } بالنصب على أنه منادى مضاف وقرأوا أيضا { باعد } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر { بعد } بتشديد العين وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب { ربنا } بالرفع { باعد } بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر والمعنى : لقد باعد ربنا بين أسفارنا ورونيت هذه القراءة عن ابن عباس واختارها أبو حاتم قال لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب ال كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطرا وأشرا وكفرا للنعمة وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر ربنا بالرفع بعد بفتح العين مشددة فيكون معنى هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء فيكون هذا من جملة بطرهم وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله : { لقد تقطع بينكم } وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف والتقدير : بعد سيرنا بين أسفارنا قال النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها ولكن أخبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا ولهذا قال سبحانه : { وظلموا أنفسهم } حيث كفروا بالله وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته { فجعلناهم أحاديث } يتحدث الناس بأخبارهم والمعنى : جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا بحالهم وعاقبتهم { ومزقناهم كل ممزق } أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث وذلك أن الله سبحانه لما أغر مكانهم وأذهب جنتهم تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال فتقول : تفرقوا أيدي سبا قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة { إن في ذلك لآيات } أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم لآيات بينات ودلالات واضحات { لكل صبار شكور } أي لكل من هو كثير الصبر والشكر وخص الصبار الشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات