قوله : 6 - { وابتلوا اليتامى } الابتلاء : الاختبار وقد تقدم تحقيقه وقد اختلفوا في معنى الاختبار فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد وقيل معنى الاختبار : أن يدفع إليه شيئا من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله وقيل معنى الاختبار : أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والمراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم لقوله تعالى { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ومن علامات البلوغ الإنبات وبلوغ خمس عشرة سنة وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى وتختص الأنثى بالحبل والحيض قوله { فإن آنستم } أي : أبصرتم ورأيتم ومنه قوله { آنس من جانب الطور نارا } قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا معناه : تبصر وقيل : هو هنا بمعنى وجد وتعلم : أي فإن وجدتم وعلمتم منهم رشدا وقراءة الجمهور { رشدا } بضم الراء وسكون الشين وقرأ ابن مسعود والسلمي وعيسى الثقفي بفتح الراء والشين قيل هما لغتان وقيل : هو بالضم مصدر رشد وبالفتح مصدر رشد .
واختلف أهل العلم في معنى الرشد ها هنا فقيل : الصلاح في العقل والدين وقيل : في العقل خاصة قال سعيد بن جبير والشعبي : إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخا قال الضحاك : وإن بلغ مائة سنة وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر وقال أبو حنيفة لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا وبه قال النخعي وزفر وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد فلا بد من مجموع الأمرين فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا معروفين بالرشد ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها قوله { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } الإسراف في اللغة : الإفراط ومجاوزة الحد وقال النضر بن شميل : السرف والتبذير والبدار المبادرة { أن يكبروا } في موضع نصب بقوله { بدارا } أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم أو لا تأكلوا لأجل السرف ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم وتقولوا ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا قوله { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه وعدم تناوله منه وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف .
واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو ؟ فقال قوم : هو القرض إذا احتاج إليه ويقضي متى أيسر الله عليه وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية والأوزاعي قال النخعي وعطاء والحسن وقتادة : لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف وبه قال جمهور العلماء وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض والمراد بالمعروف المتعارف به بين الناس فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب والحد ووصيهما وقال بعض أهل العلم : المراد بالآية اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وعف من ماله وإن كان فقيرا كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له وهذا القول في غاية السقوط قوله : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } أي : إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم وقيل : إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم وهو يعم الإنفاق قبل الرشد والدفع للجميع إليهم بعد الرشد { وكفى بالله حسيبا } أي : حاسبا لأعمالكم شاهدا عليكم في كل شيء تعملونه ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم وفيه وعيد عظيم والباء زائدة أي كفى الله .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } يقول : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو ابنتك ثم تضطر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم قال : وقوله { قواما } يعني قوامكم من معايشكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من طريق العوفي في الآية يقول : لا تسلط السفيه من ولدك على مالك وأمره أن يرزقه منه ويكسوه وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : هم بنوك والنساء وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله A : [ إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها ] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : هم الخدم وهم شياطين الإنس وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال : النساء والصبيان وأخرج ابن جرير عن حضرمي : أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق فقال الله { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال : هم اليتامى والنساء وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : هو مال اليتيم يكون عندك يقول : لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وارزقوهم } يقول : أنفقوا عليهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { وقولوا لهم قولا معروفا } قال : أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البر والصلة وأخرج ابن جرير عن ابن جريج { وقولوا لهم قولا معروفا } قال : عدة تعدونهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله { وابتلوا اليتامى } يعني اختبروا اليتامى عند الحلم { فإن آنستم } عرفتم { منهم رشدا } في حالهم والإصلاح في أموالهم { فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا } يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ فتحول بينه وبين ماله وأخرج البخاري وغيره عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في ولي اليتيم { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بقدر قيامه عليه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس { ومن كان غنيا فليستعفف } قال بغناه : { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } قال : يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم وأخرج ابن جرير عنه قال : هو القرض وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس قال : إن كان فقيرا أخذ من فضل اللبن وأخذ من فضل القوت ولا يجاوزه وما يستر عورته من الثياب فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم عن ابن عمر [ أن رجلا سأل رسول الله A فقال : ليس لي مال ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله ] وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } قال : نسختها { إن الذين يأكلون أموال اليتامى } الآية