الحالة الثالثة أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا تشتغل بذمه بل تتفكر في ثلاثة أمور .
أحدها أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه وما ستره الله من عيوبك أكثر فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه .
والثاني أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك .
فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله .
وأما الثالث فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول اللهم أهلكه بل ينبغي أن تقول اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم ارحمه كما قال A اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون // حديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون قاله لما ضربه قومه أخرجه البيهقي في دلائل النبوة وقد تقدم والحديث في الصحيح أنه A قاله حكاية عن نبي من الأنبياء حين ضربه قومه .
لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد .
ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال علمت أني مأجور بسببه وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي .
ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبه وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه وما دام الطمع قائما كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالبا وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جدا .
بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم .
اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح .
الحالة الأولى أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب .
الحالة الثانية أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافأته ويفرح باطنه ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال .
الحالة الثالثة وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالا .
وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغرورا إن لم يمتحن نفسه بعلاماته .
وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالا للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام وأن لا يكون غمه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام .
فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما أبعد ذلك وما أشده على القلوب وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون