الجهاد فإن الجهاد كان مقصودا لعينه بل المقصود قطع ضراوة العدو حتى لا يستجرك الى شهواته وإن عجز عن استجرارك فلا يصدك عن سلوك طريق الدين فإذا قهرته وحصلت المقصود فقد ظفرت وما دمت فى المجاهدة فأنت بعد فى طلب الظفر ومثاله كمثال من قهر العدو واسترقه بالإضافة الى من هو مشغول بالجهاد فى صف القتال ولا يدرى كيف يسلم ومثاله أيضا مثال من علم كلب الصيد وراض الفرس فهما نائمان عنده بعد ترك الكلب الضراوة والفرس الجماح بالإضافة إلى من هو مشغول بمقاساة التأديب بعد ولقد زل فى هذا فريق فظنوا أن الجهاد هو المقصود الأقصى ولم يعلموا أن ذلك طلب للخلاص من عوائق الطريق وظن آخرون أن قمع الشهوات وإماطتها بالكلية مقصود حتى جرب بعضهم نفسه فعجز عنه فقال هذا محال فكذب بالشرع وسلك سبيل الإباحة واسترسل فى اتباع الشهوات وكل ذلك جهل وضلال وقد قررنا ذلك فى كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات .
فإن قلت فما قولك فى تائبين أحدهما نسى الذنب ولم يشتغل بالتفكر فيه والآخر جعله نصب عينه ولا يزال بتفكر فيه ويحترق ندما عليه فأيهما أفضل فاعلم أن هذا أيضا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر حقيقة التوبة ان تنسى ذنبك وكل واحد من المذنبين عندنا على حق ولكن بالإضافة إلى حالين .
وكلام المتصوفة أبدا يكون قاصرا فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط ولا يهمه حال غيره فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال وهذا نقصان بالإضافة الى الهمة والإرادة والجد حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه أمر غيره إذ طريقة إلى الله نفسه ومنازله أحواله وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم فالطرق إلى الله تعالى كثيرة وإن كانت مختلفة فى القرب والعبد والله أعلم بمن هو أهدى سبيلا مع الاشتراك فى اصل الهداية .
فأقول تصور الذنب وذكره والتفجع عليه كمال فى حق المبتدىء لأنه إذا نسيه لم يكثر احتراقه فلا تقوى إرادته وانبعاثه لسلوك الطريق لأن ذلك يستخرج منه الحزن والخوف الوازع عن الرجوع إلى مثله فهو بالإضافة إلى الغافل كمال ولكنه بالإضافة إلى سالك الطريق نقصان فإنه شغل مانع عن سلوك الطريق بل سالك الطريق ينبغى أن لا يعرج على غير السلوك فإن ظهر له مبادى الوصول وانكشف له أنوار المعرفة ولو امع الغيب استغرقة ذلك ولم يبق متسع للإلتفات إلى ما سبق من أحواله وهو الكمال بل لو عاق المسافر عن الطريق إلى بلد من البلاد نهر حاجز طال تعب المسافر فى عبوره مدة من حيث أنه كان قد خرب جسره من قبل ولو جلس على شاطىء البحر بعد عبورة يبكى متأسفا على تخريبه الجسر كان هذا مانعا آخر اشتغل به بعد الفراغ من ذلك المانع نعم إن لم يكن الوقت وقت الرحيل بأن كان ليلا فتعذر السلوك أو كان على طريقة أنهار وهو يخاف على نفسه أن يمر بها فليطل بالليل بكاؤه وحزنه على تخريب الجسر ليتأكد بطول الحزن عزمه على أن لا يعود إلى مثله فإن حصل له من التنبيه ما وثق بنفسه أنه لا يعود إلى مثله فسلوك الطريق أولى به من الاشتغال بذكر تخريب الجسر والبكاء عليه وهذا لا يعرفه إلا من عرف الطريق والمقصد والعائق وطريق السلوك وقد أشرنا إلى تلويحات منه فى كتاب العلم وفى ربع المهلكات بل نقول شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر فى النعيم فى الآخرة لتزيد غبته ولكن إن كان شابا فلا ينبغى أن يطيل فكره فى كل ما له نظير فى الدنيا كالحور والقصور فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة بل ينبغى أن يتفكر فى لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط فذلك لا نظير له فى الدنيا