عليك فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم وإنما سألهم ليثيبهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرهم .
وكأنه أشار به إلى قوله A يد المعطي هي العليا // حديث يد المعطي هي العليا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة // فقال بعضهم يد المعطي هي يد الآخذ للمال لأنه يعطى الثواب والقدر له لا لما يأخذه ثم قال الجنيد هات الميزان فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة ثم قال احملها إليه فقلت في نفسي إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره فكيف خلط به مجهولا وهو رجل حكيم واستحييت أن أسأله فذهبت بالصرة إلى النوري فقال هات الميزان فوزن مائة درهم وقال ردها عليه وقل له أنا لا أقبل منك أنت شيئا وأخذ ما زاد على المائة قال فزاد تعجبي فسألته فقال الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن المائة لنفسه طلبا لثواب الآخرة وطرح عليها قبضة بلا وزن لله D فأخذت ما كان لله تبارك وتعالى ورددت ما جعله لنفسه قال فرددتها إلى الجنيد فبكى وقال أخذ ماله ورد مالنا الله المستعان فانظر الآن كيف صفت قلوبهم وأحوالهم وكيف خلصت لله أعمالهم حتى كان يشاهد كل واحد منهم قلب صاحبه من غير مناطقة باللسان ولكن بتشاهد القلوب وتناجى الأسرار وذلك نتيجة أكل الحلال وخلو القلب عن حب الدنيا والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة فمن أنكر ذلك قبل تجربة طريقه فهو جاهل كمن ينكر مثلا كون الدواء مسهلا قبل شربه .
ومن أنكره بعد أن طال اجتهاده حتى بذل كنه مجهوده ولم يصل فأنكر ذلك لغيره كان كمن شرب المسهل فلم يؤثر في حقه خاصة لعلة في باطنه فأخذ ينكر كون الدواء مسهلا وهذا وإن كان في الجهل دون الأول ولكنه ليس خاليا عن حط واف من الجهل بل البصير أحد رجلين إما رجل سالك الطريق فظهر له مثل ما ظهر لهم فهو صاحب الذوق والمعرفة وقد وصل إلى عين اليقين وإما رجل لم يسلك الطريق أو سلك ولم يصل ولكنه آمن بذلك وصدق به فهو صاحب علم اليقين وإن لم يكن واصلا إلى عين اليقين .
ولعلم اليقين أيضا رتبة وإن كان دون عين اليقين ومن خلا عن علم اليقين وعين اليقين فهو خارج عن زمرة المؤمنين ويحشر يوم القيامة في زمرة الجاحدين المستكبرين الذين هم قتلى القلوب الضعيفة وأتباع الشياطين .
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم القائلين آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب الشطر الثاني من الكتاب في الزهد وفيه .
بيان حقيقة الزهد .
وبيان فضيلة الزهد وبيان درجات الزهد وأقسامه وبيان تفصيل الزهد في المطعم والملبس والمسكن والأثاث وضروب المعيشة وبيان علامة الزهد بيان حقيقة الزهد .
أعلم أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال إذ به يظهر الحال الباطن وإلا فليس القول مرادا لعينه وإن لم يكن صادرا عن حال سمي إسلاما ولم يسم إيمانا والعلم هو السبب في حال يجرى مجرى المثمر والعمل يجرى من الحال مجرى الثمرة فلنذكر الحال مع كلا طرفيه من العلم والعمل أما الحال فنعني بها ما يسمى زهدا وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه وإنما عدل إلى غيره لرغبته