ولهذا قيل ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل وأريد به العالم البصير بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها فإن الجاهل نظره إلى ظاهر العبادة واغتراره بها كالنظر السوادى إلى حمرة الدينار المموه واستدارته وهو مغشوش زائف في نفسه وقيراط من الخالص الذي يرتضيه الناقد البصير خير من دينار يرتضيه الغر الغبي .
فهكذا يتفاوت أمر العبادات بل أشد وأعظم ومداخل الآفات المتطرقة إلى فنون الأعمال لا يمكن حصرها وإحصاؤها فلينتفع بما ذكرناه مثالا والفطن يغنيه القليل عن الكثير والبليد لا يغنيه التطويل أيضا فلا فائدة في التفصيل .
بيان حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به .
اعلم أن العمل إذا لم يكن خالصا لوجه الله تعالى بل امتزج به شوب من الرياء أو حظوظ النفس فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثوابا أم يقتضي عقابا أم لا يقتضي شيئا أصلا فلا يكون له ولا عليه أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعا وهو سبب المقت والعقاب .
وأما الخالص لوجه الله تعالى فهو سبب الثواب وإنما النظر في المشوب وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له // الأخبار التى يدل ظاهرها على أن العمل المشوب لا ثواب له قال وليس تخلو الأخبار عن تعارض رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله رجل يبتغي الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله لا أجر له الحديث وللنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد حسن أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول لا شيء له ثم قال إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه وللترمذي وقال غريب وابن حبان من حديث أبي هريرة الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه قال له أجران أجر السر وأجر العلانية وقد تقدم في ذم الجاه والرياء // وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه والذي ينقدح لما فيه والعلم عند الله أن ينظر إلى قدر قوة الباعث فإن كان الباعث الديني مساويا للباعث النفسي تقاوما وتساقطا وصار العمل لا له ولا عليه وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب .
نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبه التقرب .
وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني وهذا لقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولقوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير بل إن كان غالبا على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت زيادة وإن كان مغلوبا سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد .
وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها فداعية الرياء من المهلكات وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وفقه وداعية الخير من المنجيات وإنما قوتها بالعمل على وفقها .
فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوى تلك الصفة وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوى أيضا تلك الصفة وأحدهما مهلك والآخر منج فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما وإن كان أحدهما غالبا لم يخل الغالب عن أثر فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر ولا ينفك عن تأثيره في إنارة القلب أو تسويده وفي تقريبه من الله أو إبعاده فإذا جاء بما يقربه شبرا مع ما يبعده شبرا فقد عاد إلى ما كان