يا أبا عبد الله فقال أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا ولسوء عملي ملاقيا ولكأس المنية شاربا وعلى الله تعالى واردا ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها ثم أنشأ يقول .
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما .
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما .
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما .
ولولاك لم يغوي بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما .
ولما حضرت أحمد بن خضروية الوفاة سئل عن مسئلة فدمعت عيناه وقال يا بني باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح الساعة لي لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة فآن لي أوان الجواب .
فهذه أقاويلهم وإنما اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم فغلب على بعضهم الخوف وعلى بعضهم الرجاء وعلى بعضهم الشوق والحب فتكلم كل واحد منهم على مقتضى حاله والكل صحيح بالإضافة إلى أحوالهم .
الباب السادس في أقاويل العارفين على الجنائز والمقابر وحكم زيارة .
القبور .
أعلم أن الجنائز عبرة للبصير وفيها تنبيه وتذكير لأهل الغفلة فإنها لا تزيدهم مشاهدتها إلا قساوة لأنهم يظنون أنهم أبدا إلى جنازة غيرهم ينظرون ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون أو يحسبون ذلك ولكنهم على القرب لا يقدرون ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا كانوا يحسبون فبطل حسبانهم وأنقرض على القرب زمانهم فلا ينظر عبد إلى جنازة إلا ويقدر نفسه محمولا عليها فإنه محمول عليها على القرب وكأن قد ولعله في غد أو بعد غد .
ويروى عن أبي هريرة أنه كان إذا رأى جنازة قال امضوا فإنا على الأثر .
وكان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال أغدوا فإنا رائحون .
موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له .
وقال أسيد بن حضير ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به وما هو صائر إليه .
ولما مات اخو مالك بن دينار خرج مالك في جنازته يبكي ويقول والله لا تقر عيني حتى أعلم إلى ماذا صرت إليه ولا أعلم ما دمت حيا .
وقال الأعمش كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزى لحزن الجميع .
وقال ثابت البناني كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعا باكيا .
فهكذا كان خوفهم من الموت .
والآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون ولا يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته ولا يتفكر أقرانه وأقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه ولا يتفكر واحد منهم إلا ما شاء الله في جنازة نفسه وفي حاله إذا حمل عليها ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر والأهوال التي بين أيدينا فصرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يعنينا .
فنسأل الله تعالى اليقظة من هذه الغفلة فإن أحسن أحوال الحاضرين على الجنائز بكاؤهم على الميت ولو عقلوا لبكوا على أنفسهم لا على الميت .
نظر إبراهيم الزيات إلى إناس يترحمون على الميت فقال لو ترحمون على أنفسكم لكان خيرا لكم إنه نجا من أهوال ثلاثة وجه ملك الموت وقد رأى ومرارة الموت وقد ذاق وخوف الخاتمة وقد أمن .
وقال أبو عمرو بن العلاء جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه شعرا فأطلعت جنازة فأمسك وقال شيبتي والله هذه الجنائز .
وأنشأ يقول .
تروعنا الجنائز مقبلات ... ونلهو حين تذهب مدبرات