الباب الأول في نقل المذاهب والأقاويل وذكر حجج الفريقين في ذلك .
أما المذاهب فقد اختلف فيها وظهر هذا الاختلاف بين التابعين .
فذهب إلى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم وداود الطائي وفضيل بن عياض وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وبشر الحافي .
وقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان والتألف والتحبب إلى المؤمنين والاستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى ومال إلى هذا سعيد بن المسيب والشعبي وابن أبي ليلى وهشام بن عروة وابن شبرمة وشريح وشريك بن عبد الله وابن عيينة وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وجماعة .
والمأثور عن العلماء من الكلمات ينقسم إلى كلمات مطلقة تدل على الميل إلى أحد الرأيين وإلى كلمات مقرونة بما يشير إلى علة الميل .
فلننقل الآن مطلقات تلك الكلمات لنبين المذاهب فيها وما هو مقرون بذكر العلة نورده عند التعرض للغوائل والفوائد فنقول قد روي عن عمر Bه أنه قال خذوا بحظكم من العزلة .
وقال ابن سيرين العزلة عبادة .
وقال الفضيل كفى بالله محبا وبالقرآن مؤنسا وبالموت واعظا .
وقيل اتخذ الله صاحبا ودع الناس جانبا .
وقال أبو الربيع الزاهد لداود الطائي عظني قال صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفر من الناس فرارك من الأسد .
وقال الحسن C كلمات أحفظهن من التوراة قنع ابن آدم فاستغنى اعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حرا وترك الحسد فظهرت مروءته صبر قليلا فتمتع طويلا .
وقال وهيب ابن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس .
وقال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة وقد كان لزم البيت فقال كنت وأنا شاب أصبر على أكثر من هذا كنت أجالس الناس ولا أكلمهم .
وقال سفيان الثوري هذا وقت السكوت وملازمة البيوت .
وقال بعضهم كنت في سفينة ومعنا شاب من العلوية فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما فقلنا له يا هذا قد جمعنا الله وإياك منذ سبع ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا فأنشأ يقول .
قليل الهم لا ولد يموت ... ولا أمر يحاذره يفوت .
قضى وطر الصبا وأفاد علما ... فغايته التفرد والسكوت .
وقال إبراهيم النخعي لرجل تفقه ثم اعتزل وكذا قال الربيع بن خثيم .
وقيل كان مالك بن أنس يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم فترك ذلك واحدا واحدا حتى تركها كلها وكان يقول لا يتهيأ للمرء أن يحبر كل عذر له .
وقيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى وقال الفضيل إني لأجد للرجل عندي يدا إذا لقيني أن لا يسلم علي وإذا مرضت أن لا يعودني .
وقال أبو سليمان الداراني بينما الربيع ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك جبهته فشجه فجعل يمسح الدم ويقول لقد وعظت يا ربيع فقام ودخل داره فما جلس بعد ذلك على باب داره حتى أخرجت جنازته .
وكان سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لجمعة ولا غيرها حتى ماتا بالعقيق .
وقال يوسف بن أسباط سمعت سفيان الثوري يقول والله الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة وقال بشر بن عبد الله أقل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما يكون يوم القيامة فإن تكن