وانشراح صدر وكذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها .
فهذه أمثلة الدنيا وآفاتها وغوائلها نسأل الله تعالى اللطيف الخبير حسن العون بكرمه وحلمه .
بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد .
اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي فنقول دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك فالقريب الداني منها يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع مالك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام .
القسم الأول ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان العلم والعمل فقط وأعني بالعلم العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظا عاجلا في الدنيا .
ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلا بل قلنا إنه من الآخرة وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه حتى قال بعضهم ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل وكان آخر يقول اللهم ارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك وقد قال A حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة // حديث حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة أخرجه النسائي والحاكم من حديث أنس دون قوله ثلاث وتقدم في النكاح // .
فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة فنقول هذه ليست من الدنيا .
القسم الثاني وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلا كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحاة الزائدة على قدر الحاجات والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة وفيما يعد فضولا أوفى محل الحاجة نظر طويل إذ روى عن عمر Bه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذ كنيفا أنفق عليه درهمين فكتب إليه عمر من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمر قد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابها فإذا أتاك كتابي هذا فقد سيرتك إلى دمشق أنت وأهلك فلم يزل بها حتى مات فهذا رآه فضولا من الدنيا فتأمل فيه