ذكر آدم عليه السلام فضله و إخراجه و ذريته و أن عاشوراء هو اليوم الذي تاب فيه الله عليه .
و قد قال الله تعالى عن آدم : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } و أخبر عنه و عن زوجه أنهما قالا : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار كتابا قال فيه : قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و قولوا كما قال نوح : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين } و قولوا كما قال موسى : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } و قولوا كما قال ذو النون : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } و اعتراف المذنب بذنبه مع الندم عليه توبة مقبولة قال الله عز و جل : { و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ] و في دعاء الإستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يستفتح به : [ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] و في الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم للصديق أن يقوله في صلاته : [ اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا و لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ] و في حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ سيد الإستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] .
الإعتراف يمحو الإقتراف كما قيل : .
( فإن اعتراف المرء يمحو إقترافه ... كما أن إنكار الذنوب ذنوب ) .
لما أهبط آدم من الجنة بكى على تلك المعاهد فيما يروى ثلاثمائة عام و حق له ذلك كان في دار لا يجوع فيها و لا يعرى و لا يظمأ فيها و لا يضحى فلما نزل إلى الأرض أصابه ذلك كله و كان إذا رأى جبريل عليه السلام يتذكر برؤيته تلك المعاهد فيشتد بكاؤه حتى يبكي جبريل عليه السلام لبكائه و يقول له : ما هذا البكاء يا آدم فيقول : و كيف لا أبكي و قد أخرجت من دار النعمة إلى دار البؤس فقال له بعض ولده : لقد آذيت أهل الأرض ببكائك فقال إنما أبكي على أصوات الملائكة حول العرش و في رواية قال : إنما أبكي على جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة و في رواية قال : أبكي على دار لو رأيتها لزهقت نفسك شوقا إليها و روي أنه قال لولده : كنا نسلا من نسل السماء خلقنا كخلقهم و غذينا بغذائهم فسبانا عدونا إبليس فليس لنا فرحة و لا راحة إلا الهم و العناء حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها .
( فحنى على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى و فيها المخيم ) .
( و لكننا سبى العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم ) .
لما التقى آدم و موسى عليهما السلام عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه و ذريته من الجنة فاحتج آدم بالقدر السابق و الإحتجاج بالقدر على المصائب حسن كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا و لكن قل : قدر الله و ما شاء فعل ] .
( و الله لولا سابق الأقدار ... لم تبعد قط داركم عن داري ) .
( من قبل النأي جزية المقدار ... هل يمحو العبد ما قضاه الباري ) .
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له و بتعليمه أسماء كل شيء و إخباره الملائكة بها و هم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه حتى أقروا بالعجز عن علمه و أقروا له بالفضل و أسكن هو و زوجته الجنة ظهر الحسد من إبليس و سعى في الأذى ـ و ما زالت الفضائل إذا ظهرت تحسد : .
( لا مات حسادك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد ) .
( لا زلت محسودا على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد ) .
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة و ما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول إنما أهلك إبليس العجب بنفسه و لذلك قال أنا خير منه و إنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم و احترق إبليس : .
( و إذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود ) .
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ) .
قال بعض السلف : آدم أخرج من الجنة بذنب واحد و أنتم تعلمون الذنوب و تكثرون منها و تريدون أن تدخلوا بها بها الجنة : .
( تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى ... درج الجنان بها و فوز العابد ) .
( و نسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد ) .
احذروا هذا العدو الذي أخرج أباكم من الجنة فإنه ساع في منعكم من العود إليها بكل سبيل و العداوة بينكم و بينه قديمة فإنه ما أخرج من الجنة و طرد عن الخدمة إلا بسبب تكبره على أبيكم و امتناعه من السجود له لما أمر به و قد أيس من الرحمة و أيس من العود إلى الجنة و تحقق خلوده في النار فهو يجتهد على أن يخلد معه في النار بني آدم بتحسين الشرك فإن عجز قنع بما دونه من الفسوق و العصيان و قد حذركم مولاكم منه و قد أعذر من أنذر فخذوا حذركم : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } .
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه و عرف الشيطان ثم أطاعه : { أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } : .
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعي ... حفظنا له العهد القديم فضيعا ) .
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا ) .
لما أهبط آدم إلى الأرض وعد العود إلى الجنة هو و من آمن من ذريته و اتبع الرسل : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى و أصلح فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون } فليبشر المؤمنون بالجنة هي اقطاعهم و قد وصل منشور الإقطاع مع جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم : { و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إنما خرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة فأما من تاب و آمن فالإقطاع مردود عليه المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس و الهوى فإذا انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي كانوا فيه في صلب آدم تكفل الله للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة .
وصلت إليكم معشر الأمة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رأيت ليلة أسري بي إبراهيم فقال : يا محمد أقرىء أمتك السلام و أخبرهم : أن الجنة عذبة الماء طيبة التربة و أنها قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر ] و خرج النسائي و الترمذي [ عن جابر Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم : من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له نخلة في الجنة ] و خرج ابن ماجه [ عن أبي هريرة Bه مرفوعا : من قال سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر يغرس له بكل واحدة شجرة في الجنة ] و خرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا و خرجه ابن أبي الدنيا [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : من قال سبحان الله العظيم بني له برج في الجنة ] و روي موقوفا و عن الحسن قال : الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان يغرسون و يبنون فربما أمسكوا فيقال لهم : قد أمسكتم ؟ فيقولون : حتى تأتينا النفقات و قال الحسن : فأتعبوهم بأبي أنتم و أمي على العمل و قال بعض السلف : بلغني أن دور الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك عن الذكر أمسكوا عن البناء فيقال لهم : فيقولون : حتى تأتينا نفقة أرض الجنة اليوم قيعان و الأعمال الصالحة لها عمران بها تبنى القصور و تغرس أرض الجنان فإذا تكامل الغراس و البنيان انتقل إليه السكان رأى بعض الصالحين في منامه قائلا يقول له : قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك و اسمها دار السرور فأبشر و قد أمرنا بتنجيدها و تزيينها و الفراغ منها إلى سبعة أيام فلما كان بعد سبعة أيام مات فرؤي في المنام فقال : أدخلت دار السرور فلا تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع رأى بعضهم كأنه أدخل الجنة و عرض عليه منازله و أزواجه فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه و قالوا : بالله حسن عملك فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا العاملون اليوم يسلفون رؤوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين إلى أجل يوم المزيد في سوق الجنة فإذا حل الأجل دخلوا السوق فحملوا منه ما يشاؤن بغير نقد ثمن على ما قد سلف من تعجيل رأس مال السلف لكن بغير مكيال و لا ميزان فيا من عزم أن يسلف اليوم إلى ذلك الموسم عجل بتقبيض رأس المال فإن تأخير التقبيض يفسد العقد فلله ذاك السوق الذي هو موعد المزيد لوفد الحب لو كنت منهم فما شئت منه خذ بلا ثمن له فقد أسلف التجار فيه و أسلموا في الحديث : [ إن الجنة تقول : يا رب ائتني بأهلي و بما وعدتني فقد كثر حريري و استبرقي و سندسي و لؤلؤي و مرجاني و فضتي و ذهبي و أباريقي و خمري و عسلي و لبني فأتني بأهلي و بما وعدتني ] و في الحديث أيضا : [ من سأل الله الجنة شفعت له الجنة إلى ربها و قالت : اللهم أدخله الجنة ] و في الحديث أيضا : [ إن الجنة تفتح في كل سحر و يقال لها ازدادي طيبا لأهلك فتزداد طيبا فذلك البرد الذي يجده الناس في السحر ] قلوب العارفين تستنشق أحيانا نسيم الجنة قال أنس بن النضر يوم أحد : واها لريح الجنة و الله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل : .
( تمر الصبا صبحا بساكن ذي الغضا ... و يصدع قلبي أن يهب هبوبها ) .
( قريبة عهد بالحبيب و إنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها ) .
كم لله من لطف و حكمه في إهباط آدم إلى الأرض لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين و اجتهاد العابدين المجتهدين و لا صعدت زفرات أنفاس التائبين و لا نزلت قطرات دموع المذنبين يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب : { فإني قريب أجيب دعوة الداع } إن كان حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين زجل المسبحين ربما يشوبه الإفتخار و أنين المذنبين يزينه الإنكسار لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم سبحان من إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا و إذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده و عاد عليه وبالا لقن آدم حجته و ألقى إليه ما تقبل به توبته : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } و طرد إبليس بعد طول خدمته فصار عمله هباء منثورا : { قال فاخرج منها فإنك رجيم * و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين } إذا وضع عدله على عبد لم تبق له حسنة و إذا بسط فضله على عبد لم تبق له سيئة : .
( يعطي و يمنع من يشاء كما يشا ... و هباته ليست تقارنها الرشا ) .
لما ظهر فضل آدم على الخلائق بالعلم و كان العلم لا يكمل بدون العمل بمقتضاه و الجنة ليست دار عمل و مجاهدة إنما دار نعيم و مشاهدة قيل له : يا آدم اهبط إلى رباط الجهاد و صابر جنود الهوى بالجد و الاجتهاد واذرف دموع الأسف على البعاد فكأنك بالعيش الماضي و قد عاد على أكمل من ذلك أوجه المعتاد : .
( عودوا إلى الوصل عودوا ... فالهجر صعب شديد ) .
( لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد ) .
( قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد ) .
( قلت و قلبي أسير وجد ... متيم في الجفا عميد ) .
( أنتم لنا في الهوى موال ... و نحن في أسركم عبيد )