المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان و ذكر نصف الشهر الأخير .
في الصحيحين [ عن أبي سعيد الخدري Bه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى و عشرين و هي التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر و قد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها و قد رأيتني أسجد في ماء و طين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر و التمسوها في كل وتر فمطرت السماء تلك الليلة و كان المسجد على عريش فوكف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه و سلم على جبهته أثر الماء و الطين من صبح إحدى و عشرين ] .
هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان لابتغاء ليلة القدر فيه و هذا السياق يقتضي أن ذلك تكرر منه و في رواية في الصحيحين في هذا الحديث : أنه اعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم قال : [ إني أتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ] فاعتكف الناس معه و هذا يدل على أن ذلك كان منه قبل أن يتبين له أنها في العشر الأواخر ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله عز و جل كما رواه عنه عائشة و أبو هريرة و غيرهما و روي أن عمر جمع جماعة من الصحابة فسألهم عن ليلة القدر فقال بعضهم : كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر و سيأتي الحديث بتمامه في موضع آخر إن شاء الله و خرج ابن أبي عاصم في كتاب الصيام و غيره من [ حديث خالد بن محدوج عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في أول ليلة أو في تسع أو في أربع عشرة ] و خالد هذا فيه ضعف و هذا يدل على : أنها تطلب في ليلتين من العشر الأول و في ليلة من العشر الأوسط و هي أربع عشرة و قد سبق من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا : [ أن الإنجيل أنزل لثلاث عشرة من رمضان ] و قد ورد الأمر بطلب ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان و في أفراد ما بقي من العشر الأوسط من هذا النصف و هما ليلتان ليلة سبع عشرة و ليلة تسع عشرة .
أما الأول : فخرجه الطبراني [ من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر فقال : رأيتها و نسيتها فتحرها في النصف الأواخر ثم عاد فسأله فقال : التمسها في ليلة ثلاث و عشرين تمضي من الشهر ] و لهذا المعنى و الله أعلم كان أبي بن كعب يقنت في الوتر في ليالي النصف الأواخر لأنه يرجى فيه ليلة القدر و أيضا فكل زمان فاضل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله كيوم عرفة و يوم الجمعة و كذلك الليل و النهار عموما آخره أفضل من أوله و لذلك كانت الصلاة الوسطى صلاة العصر كما دلت الأحاديث الصحيحة عليه و آثار السلف الكثيرة تدل عليه و كذلك عشر ذي الحجة و المحرم آخرهما أفضل من أولهما .
و أما الثاني : ففي سنن أبي داود [ عن ابن مسعود مرفوعا : اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان و ليلة إحدى و عشرين و ليلة ثلاث و عشرين ثم سكت ] .
و في رواية ليلة تسع عشرة و قيل : إن الصحيح وقفه على ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : [ تحروا ليلة القدر ليلة سبع عشرة صباحية بدرا و إحدى عشرين ] و في رواية عنه قال : [ ليلة سبع عشرة فإن لم يكن ففي تسع عشرة ] و خرج الطبراني من رواية أبي المهزم و هو ضعيف [ عن أبي هريرة مرفوعا قال : التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين أو سبع و عشرين أو تسع و عشرين ] ففي الحديث التماسها في إفراد النصف الثاني كلها و يروى من [ حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا كان ليلة تسع عشرة من رمضان شد المئزر و هجر الفراش حتى يفطر ] قال البخاري تفرد به عمر بن مسكين و لا يتابع عليه و قد روي عن طائفة من الصحابة أنها تطلب ليلة سبع عشرة و قالوا : إن صبيحتها كان يوم بدر روي عن علي و ابن مسعود و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت و عمرو بن حريث و منهم من روي عنه أنها ليلة تسع عشرة روي عن علي و ابن مسعود و زيد بن أرقم و المشهور عند أهل السير و المغازي : أن ليلة بدر كانت ليلة سبع عشرة و كانت ليلة جمعة و روي ذلك عن علي و ابن عباس و غيرهما و عن ابن عباس رواية ضعيفة أنها كانت ليلة الإثنين و كان زيد بن ثابت لا يحيى ليلة من رمضان كما يحيى ليلة سبع عشرة و يقول : إن الله فرق في صبيحتها بين الحق و الباطل و أذل في صبيحتها أئمة الكفر و حكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة : أن ليلة القدر تطلب ليلة سبع عشرة قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته : أنت طالق ليلة القدر قال : يعتزلها إذا أدخل العشر و قيل العشر أهل المدينة يرونها في السبع عشرة إلا أن المثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في العشر الأواخر .
و حكي عن عامر بن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل ليلة سبع عشرة و عن أهل مكة أنهم كانوا لا ينامون فيها و يعتمرون و حكي عن أبي يوسف و محمد صاحبي أبي حنيفة أن ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان من غير تعيين لها بليلة و إن كانت في نفس الأمر عند الله معينة و روي عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : ليلة القدر ليلة سبع عشرة ليلة جمعة خرجه ابن أبي شيبة و ظاهره : أنها إنما تكون ليلة القدر إذا كانت ليلة جمعة لتوافق ليلة بدر و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد جيد عن الحسن قال : إن غلاما لعثمان بن أبي العاص قال له يا سيدي إن البحر يعذب في الشهر في ليلة القدر قال : فإذا كانت تلك الليلة فأعلمني قال : فلما كانت تلك الليلة أذنه فنظروا فوجدوه عذبا فإذا هي ليلة سبع عشرة و روي من [ حديث جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان أي يوم كان ] خرجه أبو موسى المديني .
و قد قيل : إن المعراج كان فيها أيضا ذكر ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه أن المعراج كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان قبل الهجرة إلى السماء و أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة إلى بيت المقدس و هذا على قول من فرق بين المعراج و الإسراء فجعل المعراج إلى السماء كما ذكر في سورة النجم و الإسراء إلى بيت المقدس خاصة كما ذكر في سورة سبحان و قد قيل : إن ابتداء نبوة النبي صلى الله عليه و سلم كان في سابع عشر رمضان قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة السبت و ليلة الأحد ثم ظهر له بحراء برسالة الله عز و جل يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان و أصح ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنها ليلة بدر كما سبق أنها كانت ليلة سبع عشرة و قيل تسع عشر و المشهور أنها كانت ليلة سبع عشرة كما تقدم و صبيحتها هو يوم الفرقان لأن الله تعالى فرق فيه بين الحق و الباطل و أظهر الحق و أهله على الباطل و حزبه و علت كلمة الله و توحيده و ذل أعداؤه من المشركين و أهل الكتاب و كان ذلك في السنة الثانية من الهجرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة في ربيع الأول في أول سنة من سني الهجرة و لم يفرض رمضان في ذلك العام ثم صام عاشوراء و فرض عليه رمضان في ثان سنة فهو أول رمضان صامه و صامه المسلمون معه ثم خرج النبي صلى الله عليه و سلم لطلب عير من قريش قدمت من الشام إلى المدينة في يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان و أفطر في خروجه إليها قال ابن المسيب قال عمر : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوتين في رمضان يوم بدر و يوم الفتح و أفطرنا فيهما .
و كان سبب خروجه حاجة أصحابه خصوصا المهاجرين : { الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون } و كانت هذه العير معها أموال كثيرة لأعدائهم الكفار الذين أخرجوهم من ديارهم و أموالهم ظلما و عدوانا كما قال الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } الآية فقصد النبي صلى الله عليه و سلم أن يأخذ أموال هؤلاء الظالمين المعتدين على أولياء الله و حزبه و جنده فيردها على أولياء الله و حزبه المظلومين المخرجين من ديارهم و أموالهم ليتقوا بها على عبادة الله و طاعته و جهاد أعدائه و هذا مما أحله الله لهذه الأمة فإنه أحل لهم الغنائم و لم تحل لأحد قبلهم و كان عدة أصحاب بدر Bهم ثلاثمائة و بضعة عشر و كانوا على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر و ما جاوزه معه إلا مؤمن و في سنن أبي داود من [ حديث عبد الله بن عمرو قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر في ثلاثمائة و خمسة عشر من المقاتلة كما خرج طالوت فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرجوا فقال : اللهم إنهم حفاة فاحملهم و إنهم عراة فاكسهم و إنهم جياع فأشبعهم ] ففتح الله يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا و ما فيهم رجل إلا و قد رجع بجمل أو جملين و اكتسوا و شبعوا و كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم حين خرجوا على غاية من قلة الظهر و الزاد فإنهم لم يخرجوا مستعدين لحرب و لا لقتال إنما خرجوا لطلب العير فكان معهم نحو سبعين بعيرا يعتقبونها بينهم كل ثلاثة على بعير و كان للنبي صلى الله عليه و سلم زميلان فكانوا يعتقبون على بعير واحد فكان زميلاه يقولان له اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك فيقول : [ ما أنتما بأقوى على المشي مني و قالا أنا بأغنى عن الأجر منكما ] و لم يكن معهما إلا فرسان و قيل ثلاثة و قيل : فرس واحد للمقداد و بلغ المشركين خروج النبي صلى الله عليه و سلم لطلب العير فأخذ أبو سفيان بالعير نحو الساحل و بعث إلى مكة يخبرهم الخبر و يطلب منهم أن ينفروا لحماية عيرهم فخرجوا مستصرخين و خرج أشرافهم و رؤساؤهم و ساروا نحو بدر و استشار النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين في القتال فتكلم المهاجرون فسكت عنهم و إنما كان قصده الأنصار لأنه ظن أنهم لم يبايعوه إلا على نصرته على من قصده في ديارهم فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد ـ يعني الأنصار ـ و الذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها و لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا و قال له المقداد : لا نقول لك كما قال بني إسرائيل لموسى : { اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } و لكن نقاتل عن يمينك و شمالك و بين يديك و من خلفك فسر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و أجمع على القتال و بات تلك الليلة ليلة الجمعة سابع عشر رمضان قائما يصلي و يبكي و يدعو الله و يستنصره على أعدائه و في المسند [ عن علي بن أبي طالب قال : لقد رأيتنا و ما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت شجرة يصلي و يبكي حتى أصبح ] و فيه [ عنه أيضا قال : أصابنا طش من مطر يعني ليلة بدر فانطلقنا تحت الشجر و الحجف نستظل بها من المطر و بات رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو ربه و يقول : إن تهلك هذه الفئة لا تعبد ] فلما طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر و الحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و حث على القتال و أمد الله تعالى نبيه و لمؤمنين بنصر من عنده و بجند من جنده كما قال تعالى : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * و ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و في صحيح البخاري [ : أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال : و كذلك من شهد بدرا من الملائكة ] و قال الله تعالى : { و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة } و قال : { فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى } .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما رآهم قال : [ اللهم إن هؤلاء قريش قد جاءت بخيلائها يكذبون رسولك فأنجز لي ما وعدتني فأتاه جبريل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فأخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى بها نحوهم و قال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه و منخره و فمه شيء ثم كانت الهزيمة ] و قال حكيم بن حزام : سمعنا يوم بدر صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة على طست فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الرمية فانهزمنا و لما قدم الخبر على أهل مكة قالوا لمن أتاهم بالخبر : كيف حال الناس قال : لا شيء و الله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلونا و يأسرونا كيف شاؤا و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا على خيل بلق بين السماء و الأرض ما يقوم لها شيء .
و قتل الله صناديد كفار قريش يومئذ منهم عتبة بن ربيعة و شيبة و الوليد بن عتبة و أبو جهل و أسروا منهم سبعين و قصة بدر يطول استقصاؤها و هي مشهورة في التفسير و كتب الصحاح و السنن و المسانيد و المغازي و التواريخ و غيرها و إنما المقصود ههنا التنبيه على بعض مقاصدها و كان عدو الله إبليس قد جاء إلى المشركين في صورة سراقة بن مالك و كانت يده في يد الحارث بن هشام و جعل يشجعهم و يعدهم و يمنيهم فلما رأى الملائكة هرب و ألقى نفسه في البحر و قد أخبر الله عن ذلك بقوله تعالى : { و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب } و في الموطأ حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما رؤي الشيطان أحقر و لا أدحر و لا أصغر من يوم عرفة إلا ما رأى يوم بدر قيل : ما رأى يوم بدر ؟ قال : رأى جبريل يزع الملائكة ] .
فإبليس عدو الله يسعى في إطفاء نور الله و توحيده و يغري بذلك أولياءه من الكفار و المنافقين فلما عجز عن ذلك بنصر الله نبيه و إظهار دينه على الدين كله رضي بإلقاء الفتن بين المسلمين و اجتزى منهم بمحقرات الذنوب حيث عجز عن ردهم عن دينهم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم ] خرجه مسلم من حديث جابر و خرج الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و ابن ماجه [ من حديث عمرو بن الأحوص قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول في حجة الوداع : ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا و لكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى بها ] و في صحيح الحاكم [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في حجة الوداع فقال : إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم و لكنه يرضى أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحاقرون من أعمالكم فيرضى بها فاحذروا يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم ] و لم يعظم على إبليس شيء أكبر من بعثة محمد صلى الله عليه و سلم و انتشار دعوته في مشارق الأرض و مغاربها فإنه أيس أن تعود أمته كلهم إلى الشرك الأكبر قال سعيد بن جبير : [ لما رأى إبليس النبي صلى الله عليه و سلم قائما بمكة يصلي رن و لما افتتح النبي صلى الله عليه و سلم مكة رن رنة أخرى اجتمعت إليه ذريته فقال : آيسوا أن تردوا أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الشرك بعد يومكم هذا و لكن افتنوهم في دينهم و افشوا فيهم النوح و الشعر ] خرجه ابن أبي الدنيا و خرج الطبراني بإسناده عن مجاهد عن أبي هريرة قال : إن إبليس رن لما أنزلت فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة و المعروف هذا عن هذا عن مجاهد من قوله قال : رن إبليس أربع رنات حين لعن و حين أهبط من الجنة و حين بعث محمد و حين أنزلت فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة خرجه وكيع و غيره و قال بعض التابعين لما أنزلت هذه الآية : { و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } الآية بكى إبليس يشير إلى شدة حزنه بنزولها لما فيها من الفرح لأهل الذنوب فهو لا يزال في هم و غم و حزن منذ بعث النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى منه و من أمته ما يهمه و يغيظه قال ثابت : لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم قال إبليس لشياطينه : لقد حدث أمر فانظروا ما هو فانطلقوا ثم جاؤوه فقالوا : ما ندري ؟ قال إبليس : أنا أنبئكم بالخبر فذهب و جاء بالخبر فذهب و جاء قال : قد بعث محمد صلى الله عليه و سلم فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيجيؤا بصحفهم ليس فيها شيء فقال : ما لكم لا تصيبون منهم شيئا ؟ قالوا : ما صحبنا قوما قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى الصلاة فيمحى ذلك قال : رويدا إنهم عسى أن يفتح الله لهم الدنيا هنالك تصيبون حاجتكم منهم : و عن الحسن قال : قال إبليس سولت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالإستغفار فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون منها ـ يعني الأهواء ـ و لا يزال إبليس يرى في مواسم المغفرة و العتق من النار ما يسؤه فيوم عرفة لا يرى أصغر و لا أحقر و لا أدحر فيه منه لما يرى من تنزل الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر و روي إنه لما رأى نزول المغفرة للأمة في حجة الوداع يوم النحر بالمزدلفة أهوى يحثي على رأسه التراب و يدعو بالويل و الثبور فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم مما رأى من جزع الخبيث و في شهر رمضان يلطف الله بأمة محمد فيغل فيه الشياطين و مردة الجن حتى لا يقدروا على ما كانوا يقدرون عليه في غيره من تسويل الذنوب و لهذا تقل المعاصي في شهر رمضان في الأمة لذلك ففي الصحيحين [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء و غلقت أبواب جهنم و سلسلت الشياطين ] و لمسلم : [ فتحت أبواب الرحمة ] و له أيضا [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة و أغلقت أبواب النار و صفدت الشياطين ] و خرج منه البخاري ذكر فتح أبواب الجنة و للترمذي و ابن ماجه [ عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب و ينادي مناد يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة ] و في رواية للنسائي : [ تغل فيه مردة الشياطين ] و للإمام أحمد [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطه أمة قبلهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا و يزين الله كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة و الأذى و يصيروا إليك و تصفد مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره يغفر لهم في آخر ليلة قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ] .
و في ليلة القدر تنتشر الملائكة في الأرض فيبطل سلطان الشياطين كما قال الله تعالى : { تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر } و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ] و في صحيح ابن حبان [ عن جابر Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : في ليلة القدر لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها ] .
و في المسند [ من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : في ليلة القدر لا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح و إن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ ] و روي عن ابن عباس Bهما : إن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر و ذلك أنها تطلع لا شعاع لها و قال مجاهد في قوله تعالى : { سلام هي حتى مطلع الفجر } قال : سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان العمل فيها و عنه قال : ليلة القدر ليلة سالمة لا يحدث فيها داء و لا يرسل فيها شيطان و عنه قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا و لا يحدث فيها أذى و عن الضحاك عن ابن عباس قال : في تلك الليلة تصفد مردة الجن و تغل عفاريت الجن و تفتح فيها أبواب السماء كلها و يقبل الله فيها التوبة لكل تائب فلذلك قال : { سلام هي حتى مطلع الفجر } و يروى عن أبي بن كعب Bه قال : لا يستطيع الشيطان أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد و لا ينفذ فيها سحر ساحر و يروى بإسناد ضعيف [ عن أنس مرفوعا أنه لا تسري نجومها و لا تنبح كلابها ] و كل هذا يدل على كف الشياطين فيها عن انتشارهم في الأرض و منعهم من استراق السمع فيها من السماء .
ابن آدم لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي أنت المختار من المخلوقات و لك أعدت الجنة إن اتقيت فهي إقطاع المتقين و الدنيا إقطاع إبليس فهو فيها من المنظرين فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن إقطاعك و مزاحمة إبليس على إقطاعه و أن تكون غدا معه في النار من جملة أتباعه إنما طردناه عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك و طلبنا قربك لتكون من خاصتنا و حزبنا فعاديتنا و واليت عدونا : { أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } .
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعى ... حفظنا له العهد القديم فضيعا ) .
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا ) .
أبشروا يا معاشر المسلمين فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت و نسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت و أبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقة و أقدام إبليس و ذريته من أجلكم موثقة ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس بالثأر و تستخلص العصاة من أسره فما يبقى لهم عنده آثار كانوا فراخه قد غذاهم بالشهوات في أوكاره فهجروا اليوم تلك الأوكار نقضوا معاقل حصونه بمعاول التوبة و الإستغفار خرجوا من سجنه إلى حصن التقوى و الإيمان فأمنوا من عذاب النار قصموا ظهره بكلمة التوحيد فهو يشكو ألم الإنكسار في كل موسم من مواسم الفضل يحزن ففي هذا الشهر يدعو بالويل لما يرى تنزل الرحمة و مغفرة الأوزار غلب حزب الرحمن حزب الشياطين فما بقي له سلطان إلا على الكفار عزل سلطان الهوى و صارت الدولة لسلطان التقوى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } .
( يا نداماى صحا القلب صحا ... فاطردوا عني الصبا و المرحا ) .
( هزم العقل جنودا للهوى ... فاسدي لا تعجبوا أن صلحا ) .
( زجر الحق فؤادي فارعوى ... و أفاق القلب مني و صحا ) .
( بادروا التوبة من قبل الردى ... فمناديه ينادينا الوحا ) .
عباد الله شهر رمضان قد انتصف فمن منكم حاسب نفسه فيه لله و انتصف من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفا من فوقها غرفا ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل فكأنكم به و قد انصرف فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف و أما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف .
( تنصف الشهر و الهفاه و انهدما ... و اختص بالفوز بالجنات من خدما ) .
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرم ) .
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما ) .
( طوبى لمن كانت التقوى بضاعته ... في شهره و بحبل الله معتصما )