المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف .
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم و أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ] لا شك أن الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين من غير موت و خلق دارا معجلة للأعمال و جعل فيها موتا و حياة و ابتلى عباده فيها بما أمرهم به و نهاهم عنه و كلفهم فيها الإيمان بالغيب و منه : الإيمان بالجزاء و الدارين المخلوقتين له و أنزل بذلك الكتب و أرسل به الرسل و أقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به و أقام علامات و أمارات تدل على وجود داري الجزاء فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم و الأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة و هذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم و الألم فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة و ما فيها من الألم يذكر بألم النار و جعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية فمنها ما يذكر بالجنة من زمان و مكان أما الأماكن فخلق الله بعض البلدان كالشام و غيرها فيها من المطاعم و المشارب و الملابس و غير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة و أما الأزمان : فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة و طيبها و كأوقات الأسحار فإن بردها يذكر ببرد الجنة و في الحديث الذي خرجه الطبراني : [ إن الجنة تفتح في كل ليلة في السحر فينظر الله إليها فيقول لها : ازدادي طيبا لأهلك فتزداد طيبا فذلك برد السحر الذي يجده الناس ] و روى سعيد الجريري عن سعيد بن أبي الحسن أن داود عليه السلام قال : يا جبريل أي الليل أفضل ؟ قال : ما أدري غير أن العرش يهتز إذا كان من السحر ألا ترى أنه يفوح ريح كل الشجر و منها ما يذكر بالنار فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه و ما فيها من الآلام و العقوبات من أماكن و أزمان و أجسام و غير ذلك أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد فبردها يذكر بزمهرير جهنم و حرها يذكر بحر جهنم و سمومها و بعض البقاع يذكر بالنار كالحمام قال أبو هريرة : نعم البيت الحمام يدخله المؤمن فيزيل به الدرن و يستعيذ بالله فيه من النار كان السلف يذكرون النار بدخول الحمام فيحدث لهم ذلك عبادة دخل ابن وهب الحمام فسمع تاليا يتلو : { و إذ يتحاجون في النار } فغشي عليه و تزوج صلة بن أشيم فدخل الحمام ثم دخل على زوجته تلك الليلة فقام يصلي حتى أصبح و قال : دخلت بالأمس بيتا أذكرني النار و دخلت الليلة بيتا ذكرت به الجنة فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت كان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول : يا بر يا رحيم من علينا و قنا عذاب السموم صب بعض الصالحين على رأسه ماء من الحمام فوجده شديد الحر فبكى و قال : ذكرت قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } كل ما في الدنيا يدل على صانعه و يذكر به و يدل على صفاته فما فيها من نعيم و راحة يدل على كرم خالقه و فضله و إحسانه و جوده و لطفه و ما فيها من نقمة و شدة و عذاب يدل على شدة بأسه و بطشه و قهره و انتقامه و اختلاف أحوال الدنيا من حر و برد و ليل و نهار و غير ذلك يدل على انقضائها و زوالها قال الحسن : كانوا يعني الصحابة يقولون : الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف لقال الشاك في الله : لو كان لهذا الخلق رب لحادثه و إن الله قد حادث بما ترون من الآيات أنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين و جعل فيها معاشا و { سراجا وهاجا } ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق و جاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين و جعل فيها سكنا و نجوما و قمرا منيرا و إذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر و الرعد و البرق و الصواعق ما شاء و إن شاء صرف ذلك الخلق و إذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس و إذا شاء ذهب بذلك و جاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما ترون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا و جاء بالآخرة و قال خليفة العبدي : لو أن الله لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد و لكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء و ملأ كل شيء و محا سلطان النهار و تفكروا في مجيء هذا النهار إذا جاء فملأ كل شيء و طبق كل شيء و محا سلطان الليل و تفكروا في { السحاب المسخر بين السماء و الأرض } و تفكروا في { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } و تفكروا في مجيء الشتاء و الصيف فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى أيقنت قلوبهم و حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته ما رأى العارفون شيئا من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير و عافية .
( قلوب العارفين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرونا ) .
و أما الأزمان فشدة الحر و البرد يذكر بما في جهنم من الحر و الزمهرير و قد دل هذا الحديث الصحيح على : أن ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت قال الحسن : كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و كل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و في الحديث الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ] .
و في حديث مرفوع خرجه عثمان الدارمي و غيره : [ إذا كان يوم شديد الحر فقال العبد : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي منك و قد أجرته و إذا كان يوم شديد البرد فقال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي من زمهريرك و إني أشهدك أني قد أجرته قالوا و ما زمهرير جهنم قال : بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده ] أبواب النار مغلقة و تفتح أحيانا فتفتح أبوابها كلها عند الظهيرة و لذلك يشتد الحر حينئذ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنم و أما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة منها الشمس عند اشتداد حرها و قد روي أنها خلقت من النار و تعود إليها و خرج الطبراني [ بإسناده أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم نزع ثيابه ثم تمرغ في الرمضاء و هو يقول لنفسه : ذوقي نار جهنم أشد حرا جيفة بالليل يطال بالنهار فرآه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله غلبتني نفسي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لقد فتحت لك أبواب السماء و باهى الله بك الملائكة ] و أما البروز للشمس تعبدا بذلك فغير مشروع [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي اسرائيل لما رآه قائما في الشمس : فأمره أن يجلس و يستظل و كان نذر أن يقوم في الشمس مع الصوم فأمره أن يتم صومه فقط ] و إنما يشرع البروز للشمس للمحرم كما قال ابن عمر Bهما لمحرم رآه قد استظل : اضح لمن أحرمت له أي ابرز إلى الضحاء و هو حر الشمس كان بعضهم إذا أحرم لم يستظل فقيل له لو أخذت بالرخصة فأنشد : .
( ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا ) .
( فوا أسفا إن كان سعيك خائبا ... و وا أسفا إن كان حظك ناقصا ) .
و مما يؤمر بالصب فيه على حر الشمس النفر للجهاد في الصيف كما قال تعالى عن المنافقين : { و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } و كذلك في المشي إلى المساجد للجمع و الجماعات و شهود الجنائز و نحوها من الطاعات و الجلوس في الشمس لانتظار ذلك حيث لا يوجد ظل خرج رجل من السلف إلى الجمعة فوجد الناس قد سبقوه إلى الظل فقعد في الشمس فناداه رجل من الظل أن يدخل إليه فأبى أن يتخطى الناس لذلك ثم تلا : { و اصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة و لا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار قاله ابن مسعود و تلا قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا } و ينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة و يزاد في حرها و ينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار فإنه لا قوة لأحد عليها و لا صبر قال قتادة : و قد ذكر شراب أهل جهنم و هو ماء يسيل من صديدهم من الجلد و اللحم فقال : هل لكم بهذا يدان أم لكم عليه صبر طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله و رسوله .
( نسيت لظى عند ارتكانك للهوى ... و أنت توقى حر شمس الهواجر ) .
( كأنك لم تدفن حميما و لم تكن ... له في سياق الموت يوما بحاضر ) .
رأى عمر بن عبد العزيز قزما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل و توقوا الغبار فبكى ثم أنشد : .
( من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين و الشعثا ) .
( و يألف الظل كي يبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا ) .
( في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا ) .
( تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا ) .
و مما يضاعف ثوابه في شدة الحر من الطاعات : الصيام لما فيه من ظمأ الهواجر و لهذا كان معاذ بن جبل يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر و كذلك غيره من السلف و روي عن أبي بكر الصديق Bه أنه كان يصوم في الصيف و يفطر في الشتاء و وصى عمر Bه عند موته ابنه عبد الله فقال له : عليك بخصال الإيمان و سمى أولها : الصوم في شدة الحر في الصيف قال القاسم بن محمد : كانت عائشة Bها تصوم في الحر الشديد قيل له : ما حملها على ذلك ؟ قال : كانت تبادر الموت و كان مجمع التيمي يصوم في الصيف حتى يسقط كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا فتصومه فيقال لها في ذلك فتقول : إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم و هذا من علو الهمة كان أبو موسى الأشعري في سفينة فسمع هاتفا يهتف : يا أهل المركب قفوا يقولها ثلاثا فقال أبو موسى : يا هذا كيف نقف ألا ترى ما نحن فيه كيف نستطيع وقوفا فقال الهاتف : ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه ؟ قال : بلى أخبرنا قال : فإن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله في يوم حار كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الحار الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ منه فيصومه قال كعب : إن الله تعالى قال لموسى : إني آليت على نفسي أنه من عطش نفسه لي أن أرويه يوم القيامة و قال غيره : مكتوب في التوراة طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر طوبى لمن عطش نفسه ليوم الري الأكبر قال الحسن : تقول الحوراء لولي الله و هو متكىء معها على نهر الخمر في الجنة تعاطيه الكأس في أنعم عيشه أتدري أي يوم زوجنيك الله إنه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين و أنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال انظروا إلى عبدي ترك زوجته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة فيما عندي اشهدوا أني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك لما سار عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى فلما أكثر عليه قال : حاجتي أن ترد على من حر البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئا فإنه يخف علي في بلادكم نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة و المدينة فدعا بغدائه و رأى أعرابيا فدعاه إلى الغداء معه فقال : دعاني من هو خير منك فأجبته قال : و من هو ؟ قال : الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت قال : في هذا الحر الشديد ؟ قال : نعم صمت ليوم أشد منه حرا قال : فافطر و صم غدا قال : إن ضمنت لي البقاء إلى غد قال : ليس ذلك إلي قال : فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم قال : إني صائم فقال ابن عمر : في مثل هذا اليوم الشديد حره و أنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم و أنت صائم ؟ فقال : أبادر أيامي هذه الخالية فعجب منه ابن عمر فقال له ابن عمر : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك و نطعمك من لحمها ما تفطر عليه و نعطيك ثمنها قال : إنها ليست لي إنها لمولاي قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب فمضى الراعي و هو رافع اصبعه إلى السماء و هو يقول : فأين الله فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي فاشترى منه الراعي و الغنم فأعتق الراعي و وهب له الغنم نزل روح بن زنباع منزلا بين مكة و المدينة في حر شديد فانقض عليه راع من جبل فقال له : يا راع هلم إلى الغداء قال : إني صائم قال : أفتصوم في هذا الحر ؟ قال : أفأدع أيامي تذهب باطلا فقال روح : لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها روح بن زنباع كان ابن عمر يصوم تطوعا فيغشى عليه فلا يفطر و كان الإمام أحمد يصوم حتى يكاد يغمى عليه فيمسح على وجهه الماء و سئل عن من يصوم فيشتد عليه الحر قال : لا بأس أن يبل ثوبا يتبرد به و يصب عليه الماء [ كان النبي صلى الله عليه و سلم بالعرج يصب على رأسه الماء و هو صائم ] و كان أبو الدرداء يقول : صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور و صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور و في الصحيحين [ عن أبي الدرداء Bه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر و إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر و ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن رواحة ] و في [ رواية أن ذلك كان في شهر رمضان لما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش و الظمأ أفرد لهم بابا من أبواب الجنة و هو باب الريان من دخل شرب و من شرب لم يظمأ بعدها أبدا فإذا دخلوا أغلق على من بعدهم فلا يدخل منه غيرهم ] .
و قد تحدث أحيانا حوادث غير معتادة تذكر بالنار كالصواعق و الريح الحارة المحرقة للزرع قال الله تعالى : { و يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } و قد روي أن الصواعق قطعة من نار تطير من في الملك الذي يزجر السحاب عند اشتداد غضبه و قال الله تعالى : { فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } والإعصار : الريح الشديدة العاصف التي فيها نار و الصر : الريح الشديدة البرد و قد عذب الله تعالى قوم شعيب بالظلة و روي أنه أصابهم حر أخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت إلى الصحراء فأظلتهم سحابة فوجدوا لها بردا فاجتمعوا تحتها كلهم فأمطرت عليهم نارا فأحرقوا كلهم فكل هذه العقوبات بسبب المعاصي و هي من مقدمات عقوبات جهنم و أنموذجها و مما يدل على الجنة و النار أيضا ما يعجله الله في الدنيا لأهل طاعته و أهل معصيته فإن الله تعالى يعجل لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيم الجنة و روحها ما يجدونه و يشهدونه بقلوبهم مما لا يحيط به عبارة و لا تحصره إشارة حتى قال بعضهم : إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب قال أبو سليمان : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم و قال بعضهم : الرضا باب الله الأعظم و جنة الدنيا و مستراح العابدين قال الله تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } قال الحسن : نرزقه طاعة يجد لذتها في قلبه أهل التقوى في نعيم حيث كانوا في الدنيا و البرزخ و في الآخرة .
( العيش عيشهم و الملك ملكهم ... ما الناس إلا همو بانوا أو اقتربوا ) .
و أما أهل المعاصي و الإعراض عن الله فإن الله يعجل لهم في الدنيا من أنموذج عقوبات جهنم ما يعرف أيضا بالتجربة و الذوق فلا تسأل عما هم فيه من ضيق الصدر و حرجه و نكده و عما يعجل لهم من عقوبات المعاصي في الدنيا و لو بعد حين من زمن العصيان و هذا من نفحات الجحيم المعجلة لهم ثم ينتقلون بعد هذه الدار إلى أشد من ذلك و أضيق و لذلك يضيق على أحدهم قبره حتى تختلف فيه أضلاعه و يفتح له باب إلى النار فيأتيه من سمومها قال الله تعالى : { و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } و ورد في الحديث المرفوع تفسيرها بعذاب القبر ثم بعد ذلك يصيرون إلى جهنم و ضيقها قال الله تعالى : { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا } و مما يدل أيضا في الدنيا على وجود النار الحمى التي تصيب بني آدم و هي نار باطنة فمنها نفحة من نفحات سموم جهنم و منها نفحة من نفحات زمهريرها و قد روي في حديث خرجه الإمام أحمد و ابن ماجه : [ أنها جظ المؤمن من النار ] و المدار أن الحمى تكفر ذنوب المؤمن و تنقيه منها كما ينقي الكير خبث الحديد و إذا طهر المؤمن من ذنوبه في الدنيا لم يجد حر النار إذا مر عليها يوم القيامة لأن وجدان الناس لحرها عند المرور عليها بحسب ذنوبهم فمن طهر من الذنوب و نقي منها في الدنيا جاز على الصراط كالبرق الخاطف و الريح و لم يجد شيئا من حر النار و لم يحس بها فتقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي و [ في حديث جابر المرفوع في مسند الإمام أحمد : إنهم يدخلونها فتكون عليهم بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ] و من أعظم ما يذكر بنار جهنم النار التي في الدنيا قال الله تعالى : { نحن جعلناها تذكرة و متاعا للمقوين } يعني : أن نار الدنيا جعلها الله تذكرة تذكر بنار جهنم مر ابن مسعود بالحدادين و قد أخرجوا حديدا من النار فوقف ينظر إليه و يبكي و روي عنه أنه مر على الذين ينفخون الكير فسقط و كان أويس يقف على الحدادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير و يسمع صوت النار فيصرخ ثم يسقط و كذلك الربيع بن خيثم و كان كثير من السلف يخرجون إلى الحدادين ينظرون إلى ما يصنعون بالحديد فيبكون و يتعوذون بالله من النار و رأى عطاء السليمي امرأة قد سجرت تنورها فغشي عليه قال الحسن : كان عمر ربما توقد له النار ثم يدني يده منها ثم يقول : يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر كان الأخنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع اصبعيه فيه و يقول حس ثم يعاتب نفسه على ذنوبه أحج بعض العباد نارا بين يديه و عاتب نفسه فلم يزل يعاتبها حتى مات نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و غسلت بالبحر مرتين حتى أشرقت و خف حرها و لولا ذلك ما انتفع بها أهل الدنيا و هي تدعو إلى الله أن لا يعيدها إليها .
قال بعض السلف : لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي عام يعني أنهم كانوا ينامون فيها و يرونها بردا كان عمر يقول : أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد و إن قعرها بعيد و إن مقامعها حديد كان ابن عمر و غيره من السلف إذا شربوا ماء باردا بكوا و ذكروا أمنية أهل النار و أنهم يشتهون الماء البارد و قد حيل بينهم و بين ما يشتهون و يقولون لأهل الجنة : { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } فيقولون لهم : { إن الله حرمهما على الكافرين } و المصيبة العظمى حين تطبق النار على أهلها و ييأسون من الفرج و هو الفزع الأكبر الذي يأمنه أهل الجنة : { الذين سبقت لهم منا الحسنى } .
( لو أبصرت عيناك أهل الشقا ... سيقوا إلى النار و قد أحرقوا ) .
( شرابهم المهل في قعرها ... إذ خالفوا الرسل و ما صدقوا ) .
( تقول أخراهم لأولاهم ... في لجج المهل و قد أغرقوا ) .
( قد كنتموا خوفتمو حرها ... لكن من النيران لم تفرقوا ) .
( و جيء بالنيران مذمومة ... شرارها من حولها محدق ) .
( و قيل للنيران أن أحرقي ... و قيل للخزان أن أطبقوا )