الباب الثامن : في معجزات عصمته صلى الله تعالى عليه و سلم .
معجزات في عصمة النبي عليه السلام : .
أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله تعالى عليه و سلم من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن و استغنائه عما سواه من البرهان ما جعله زيادة استبصار يحج بها من قلت فطنته و يذعن لها من ضعفت بصيرته ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا و استدلالا و إعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا و استظهارا فيكون البليد مقهورا بوهمه و بيانه و اللبيب محجوبا بفهمه و بيانه لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب و لهم أجذب فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا و أعم دليلا .
عصمة النبي من أعدائه الكثيرين : .
فمن معجزاته : عصمته من أعدائه و هم الجم الغفير و العدد الكثير و هم على أتم حنق عليه و أشد طلب لنفيه و هو بينهم مسترسل قاهر و لهم مخالط و مكاثر ترمقه أبصارهم شزرا و ترتد عنه أيديهم ذعرا و قد هاجر عنه أصحابه حذرا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة ثم خرج عنهم سليما لم يكلم في نفس و لا جسد و ما كان ذاك إلا بعصمة إليهية وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول : { والله يعصمك من الناس } فعصمه منهم .
أعداؤه يحاولون قتله : .
و إن قريشا اجتمعت في دار الندوة و كان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة و كان زعيم القوم و ساعده عبد الله بن الزبعري و كان شاعر القوم فحضهم على قتل محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و قال لهم : الموت خير لكم من الحياة فقال بعضهم : كيف نصنع ؟ .
فقال أبو جهل : هل محمد إلا رجل واحد و هل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش فليس منكم من يزهد في الحياة فيقتل محمدا و يريح قومه و أطرق مليا فقالوا : من فعل هذا ساد .
فقال أبو جهل : ما محمد بأقوى من رجل منا و إني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر فإن قتلت أرحلت قومي و إن بقيت فذاك الذي أوثره .
و على ذلك خرجوا فلما اجتمعوا في الحطيم خرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقالوا : قد جاء فتقدم من الركن فقام يصلي فنظروا إليه يطيل الركوع و السجود .
فقال أبو جهل : فإني أقوم فأريحكم منه فأخذ مهراشا عظيما و دنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ساجد لا يلتفت و لا يهابه و هو يراه فلما دنا منه ارتعد و أرسل الحجر على رجله فرجع و قد شدخت أصابعه و هو يرتعد و قد دوخت أوداجه و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ساجد .
فقال أبو جهل لأصحابه : خذوني إليكم فالتزموه و قد غشي عليه ساعة فلما أفاق قال له أصحابه ما الذي أصابك ؟ قال : لما دنوت منه أقبل علي من رأسه فحل فاغر فاه فحمل علي أسنانه فلم أتمالك و إني أرى محمدا محجوبا .
فقال له بعض أصحابه : يا أبا الحكم رغبت و أحببت الحياة و رجعت .
قال : ما تغروني عن نفسي .
قال النضر بن الحارث : فإن رجع غدا فأنا له .
قالوا له : يا أبا سهم لئن فعلت هذا لتسودن فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه فأخذ حفنة من تراب و قال : شاهت الوجوه و قال : حمر لا يبصرون فتفرقوا عنه .
و هذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى فصبر عليه حتى وقاه الله و كان من أقوى شاهد على صدقه .
معمر بن يزيد يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم : .
و من أعلامه : أن معمر بن يزيد و كان أشجع قومه استغاثت به قريش و شكوا إليه أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و كانت بنو كنانة تصدر عن رأيه و تطبع أمره فلما شكوا إليه قال لهم : إني قادم إلى ثلاث و أريحكم منه و عندي عشرون ألف مدجج فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي و إن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة و كان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر و قصته في العرب مشهورة بالشجاعة و البأس .
فلبس يوم وعده قريشا سلاحه و ظاهر بين درعين فوافقهم بالحطيم و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في الحجر يصلي و قد عرف ذلك فما التفت و لا تزعزع و لا قصر في صلاة فقيل له : هذا محمد ساجد فأهوى إليه و قد سل سيفه و أقبل نحوه فلما دنا منه رمى بسيفه و عاد فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام و قد أدمى وجهه بالحجارة يعدو كأشد العدو حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف فاجتعموا و غسلوا عن وجهه الدم .
و قالوا ماذا أصابك ؟ .
قال : و يحكم المغرور من غررتموه قالوا ما شأنك ؟ قال : ما رأيت كاليوم دعوني ترجع إلي نفسي فتركوه ساعة و قالوا : ما أصابك يا أبا الليث ؟ .
قال : إني لما دنوت من محمد فأردت أن أهوي بسيفي إليه أهوي إلي من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران و تلمع في أبصارهما فعدوت فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد .
كلدة بن أسد يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم : .
ومن أعلامه : أن كلدة بن أسد أبا الأشد و كان من القوة بمكان خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم فرأى رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل و عقال فجاء كلدة و معه المزراق فرجع المزراق في صدره فرجع فزعا فقالت له قريش : ما لك يا أبا الأشد ؟ فقال : و يحكم فإني أراه فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف فاستهزأت به ثقيف فقال : أنا أعذركم لو رأيتم ما رأيت لهلكتم .
أبو لهب يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم : .
و من أعلامه : أن أبا لهب خرج يوما و قد اجتمعت قريش فقالوا له : يا أبا عتبة إنك سيدنا و أنت أولى بمحمد منا و إن أبا طالب هو الحائل بيننا و بينه و لو قتلته لم ينكر أبو طالب و لا حمزة منك شيئا و أنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية و تسود قومك .
فقال : فإني أكفيكم ففرحوا بذلك و مدحته خطباؤهم .
فلما كان في تلك الليلة و كان مشرفا عليه نزل أبو لهب و هو يصلي و تسلقت أم جميل الحائط حتى وقفت على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو ساجد فصاح أبو لهب فلم يلتفت إليه و هما كانا لا ينقلان قدما و لا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح و فرغ صلى الله تعالى عليه و سلم .
فقال أبو لهب : يا محمد أطلق عنا فقال : ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني قالا : قد فعلنا فدعا ربه فرجعا .
قريش تتوعد النبي صلى الله عليه و سلم .
و من أعلامه : أن قريشا اجتمعوا في الحطيم فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال : إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عشينا و فرق جماعتنا و بدد شملنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آباءنا و كان في القوم الوليد بن المغيرة و أبو جهل بن هشام و شيبة بن ربيعة و النضر بن الحرث و منبه و نبيه ابنا الحجاج و أمية و أبي ابنا خلف في جماعة من صناديد قريش فقال له : قل ما شئت فإنا نطيعك قال : سأقوم فأكمله فإن هو رجع عن كلامه و عما يدعو إليه و إلا رأينا فيه رأينا فقالوا له : شأنك يا أبا عبد شمس .
فقام فتقدم إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و هو جالس وحده فقال : أنعم صباحا يا محمد .
قال : يا عبد شمس إن الله قد أبدلنا بهذا السلام تحية أهل الجنة .
قال : يا ابن أخي إني جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها و لنا فيها الفسحة ثم قال : يا ابن عبد المطلب إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فأقبل مني ما أقول لك قال : قل قال : إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكا فإنا نملكك علينا من غير تعب و نتوجك فارجع عن ذلك فسكت ثم قال له : و إن كان ما تدعو إليه أمرا تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك .
فقال : لا قوة إلا بالله ثم قال له : و إن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا و تفريق جماعتنا و إن كان ما تدعو إليه جنونا داويناك كما تداوي قيس بني ثعلبة مجنونهم .
فسكت النبي صلى الله تعالى عليه و سلم فقال : يا محمد ما تقول ؟ و بم ارجع إلى قريش ؟ .
فقال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم : { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } حتى بلغ إلى قوله { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } .
قال عتبة : فلما تكلم بهذا الكلام فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من إعجازها و قام فزعا يجر رداءه فرجع إلى قريش و هو ينتفض انتفاض العصفور و قام النبي صلى الله تعالى عليه و سلم يصلي فقالت قريش لقد ذهبت من عندنا نشيطا و رجعت فزعا مرعوبا فما وراءك ؟ .
قال : و يحكم دعوني إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئا و لقد رعدت علي الرعدة حتى خفت على نفسي و قلت الصاعقة قد أخذتني فقدموا عني ذلك .
قال ابن عرفة : الصاعقة اسم العذاب على أي حال كان و إنما أهلكت عاد بالريح و ثمود بالرجف فسمى الله تعالى ذلك صاعقة قال الأزهري : الصاعقة : صوت الرعد الشديد الذي يصعق منه الإنسان أي يغشى عليه .
سراقة بن مالك يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم : .
و من أعلامه : أنه لما أراد الهجرة خرج من مكة و معه أبو بكر فدخل غارا في جبل ثور ليستخفي من قريش و قد طلبته و بذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء فأعانه الله تعالى إخفاء أثره و أنبت على باب الغار ثمامة و هي شجرة صغيرة و ألهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفه عين ولدغ أبو بكر هذه اللية غير لدغة فخرق ثيابه و جعلها في الشقوق و سد بعضها بقدمه اتقاء لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم .
و أقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه فلقيه سراقة بن مالك بن جعشم و هو من جملة من توجه لطلبه فقال له أبو بكر : هذا سراقة قد قرب فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : اللهم اكفنا سراقة فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها فقال سراقة : يا محمد ادع الله أن يطلقني و لك علي أن أرد من جاء يطلبك و لا أعين عليك أبدا فقال اللهم إن كان صادقا فأطلق عن فرسه فأطلق الله عنه ثم أسلم سراقة و حسن إسلامه .
دعثور يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم : .
و من أعلامه : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم انفرد في غزوة ذي أمر عن أصحابه و اضطجع وحده فوقف عليه دعثور فسل سيفه و قال : يا محمد من يمنعك مني ؟ .
فقال : الله فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ثم قال له : من يمنعك مني ؟ .
قال : لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله .
و عاد إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام و فيه نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } .
شيبة بن عثمان يحاول قتل النبي صلى الله عليه و سلم : .
و من أعلامه : أن الناس لما انهزموا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يوم حنين و هو معتزل عنهم رآه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة فقال : اليوم أدرك ثأري و أقتل محمدا لأن أباه قتل يوم أحد في جماعة إخوته و أعمامه قال شيبة : فلما أردت قتله أقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذلك : فعلمت أنه ممنوع .
أربد بن قيس يسعى لقتل النبي صلى الله عليه و سلم : .
و من أعلامه : أن عامر بن الطفيل و أربد بن قيس و هو أخو لبيد بن ربيعة الشاعر لأمه وفدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في قومهما من بني عامر فقال عامر لأربد : إذا قدمنا على محمد فإني شاغل عنك وجهه فأعله أنت بالسيف حتى تقتله .
قال أربد : أفعل ثم أقبل عامر يمشي و كان رجلا جميلا حتى قام على رأس رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال يا محمد : مالي إن أسلمت ؟ فقال : لك ما للإسلام و عليك ما على الإسلام .
قال : ألا تجعلني الوالي من بعدك ؟ قال : ليس ذلك لك و لا لقومك و لكن لك أعنة الخيل تغزو بها .
قال : أو ليست لي اليوم ؟ و لكن اجعل لي و لك المدد قال : ليس ذلك لك .
فقال : قم يا محمد إلى ههنا فقام إليه فوضع عامر يده بين منكبيه ثم أومأ إلى الأبد أن اضرب فسل أربد سيفه قريبا من ذراع ثم أمسك الله يده فلم يستطيع أن يسله و لا يغمده .
فالتفت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى أربد فرآه على ما هو عليه [ فقال اللهم اكفنيها بما شئت اللهم اهد بني عامر و أغن الدين عن عامر ] فانطلقا و عامر يقول : و الله لأملأنها عليك خيلا دهما و وردا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ يأبى الله ذاك و أبناء قيلة يعني الأنصار ] ثم قال عامر لأربد : ويلك لم أمسكت عنه ؟ فقال و الله ما هممت به مرة إلا رأيتك و لا أرى غيرك أفأضربك بالسيف ؟ .
و سارا فأما عامر فطرح الله عليه الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول : أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول و ركب فرسه فركضه حتى مات .
و أما أربد فقدم على قومه فقالوا ما وراءك يا أربد ؟ فقال : و الله لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذا حتى أقتله ثم خرج بعد مقالته بيوم أو يومين و معه جمال له تتبعه فأرسل الله عليه و على جماله صاعقة أحرقتهم و قيل نزل في صاعقته قول الله تعالى : { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } يعني خوفا من الصواعق و طمعا في المطر و فيه يقول لبيد بن ربيعة و هو أخو أربد لأمه : .
( أخشى على أربد الحتوف و لا ... أرهب نوع السماك و الأسد ) .
( أفجعني الرعد الصواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النجد ) .
( كل بني حرة مصيرهم ... قل و إن أكثرت من العدد ) .
( أن يغبطوا يهبطوا و إن أمروا ... يوما يصيروا للهلك و النكد ) .
فإن قيل : فهذه أخبار آحاد لا يقطع بمثلها قيل : العداوة ظاهرة و الطلب معلوم و السلامة موجودة فلم تدفع جملة الأخبار و لم يصح في جميعها توهم الكذب و إن جاز في آحادها توهم الكذب كالمحكي من سخاء حاتم و شجاعة عنتزة