الباب الخامس عشر ـ في بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله تعالى عليه و سلم .
الأنبياء معانون على تأسيس النبوة : .
إن الله تعالى عونا على أوامره و إغناء عن نواهيه فكان أنبياء الله تعالى معانين على تأسيس النبوة بما تقدمه من بشائرها و تبديه من أعلامها و شعائرها ليكون السابق مبشرا و نذيرا و اللاحق مصدقا و ظهيرا فتدوم بهم طاعة الخلق و ينتظم بهم استمرار الحق و قد قدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم مما هو حجة على أممهم .
و معجزة تدل على صدقه عند غيرهم بما أطلعه الله تعالى على غيبه ليكون عونا للرسول و حثا على القبول .
بشارة لهاجر عن بعثة النبي : .
فمن ذلك بشائر موسى عليه السلام في التوراة : فأولها في الفصل التاسع من السفر الأول .
لما هربت هاجر من سارة تراءى ملك و قال : يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى سيدتك فاخضعي لها فإن الله سيكثر زرعك و ذريتك حتى لا يحصون كثرة و ها أنت تحبلين و تلدين ابنا و تسمينه إسماعيل لأن الله تعالى قد سمع خشوعك و هو يكون عين الناس و تكون يده فوق الجميع مبسوطة إليه بالخضوع و هذا لم يكن في ولد إسماعيل إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم لأنهم كانوا قبله مقهورين فصاروا به قاهرين .
بشارة لإبراهيم عليه السلام : .
و منها قوله في هذا السفر لإبراهيم حين دعاه في إسماعيل و باركت عليه و كثرته و عظمته جدا جدا و سيلد اثني عشر عظيما و أجعله لأمة عظيمة و ليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
بشارة لموسى عليه السلام : .
و منها في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس عن موسى عليه السلام : [ إن الرب إلهكم قال : إني أقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم أجعل كلامي على فمه فأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي فأنا أنتقم منه ] .
و معلوم أن أخا بني إسرائيل هم بنو إسماعيل و ليس منهم من ظهر كلام الله تعالى على فمه غير محمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
بشارة أخرى من موسى عليه السلام : .
و منها في الفصل العشرين من هذا السفر [ إن الرب جاء من طور سيناء و أشرق من ساعير و استعلى من جبال فاران و معه عن يمينه ربوات جيش القديسين فمنحهم إلى الشعوب و دعا لجميع قديسيه بالبركة ] .
فمجيء الله تعالى من طور سيناء و هو إنزاله التوراة على موسى و إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى لأنه كان سكن ساعير أرض الخليل في قرية ناصرة و استعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و فاران هي جبال مكة في قول الجميع فإن ناكروا كان دفعا لما في التوراة و لأنه لم يستعل الدين كاستعلائه منها فاندفع الإنكار بالعيان .
بشائر الأنبياء : .
فصل من البشائر به : كان بين موسى و عيسى من الأنبياء الذين أتوا الكتاب باتفاق أهل الكتابين عليهم ستة عشر نبيا ظهرت كتبهم في بني إسرائيل فبشر كثير منهم بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
التوراة تتحدث عن مكة : .
فمنهم شعيا بن أموص قال في الفصل الثاني و العشرين قومي فأزهري مصباحك يعني مكة فقد دنا وقتك و كرامة الله طالعة عليه فقد تجلل الأرض الظلام و غطى على الأمم الضباب و الرب يشرق عليك إشراقا و يظهر كرامته عليك فتسير الأمم إلى نورك و الملوك إلى ضوء طلوعك ارفعي بصرك إلى ما حولك و تأملي فإنهم يستجمعون عندك و يحجونك و يأتيك ولدك من بلد بعيد و تسرين و تبتهجين من أنه يميل إليك ذخائر البحر و يحج إليك عساكر الأمم حتى تغمرك الإبل المؤبلة و تضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك و يساق إليك كباش مدين و يأتيك أهل سبأ يحدثون بنعم الله و يمجدونه و تسير إليك أغنام قاذار يعني غنم العرب لأنه من ولد قاذار بن إسماعيل و يرتفع إلى مديحي ما يرضينني و أحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا و هذه الصفات كلها موجودة بمكة فكان ما دعا إليها و هو الحق و من قام بها هو المحق .
و في فصل آخر من كتابه : قال لي الرب فامض فأقم على المنظرة تخبرك بما ترى فرأى راكبين أحدهما راكب حمارا يعني عيسى و الآخر راكب جملا يعني محمدا فبينما هو كذلك إذ أقبل أحد الراكبين و هو يقول : هوت بابل و تكسرت آلهتها المنجورة على الأرض فهذا الذي سمعت الرب إله إسرائيل قد أنبأتكم .
التوارة تتحدث عن الحجاز : .
و في الفصل السادس عشر منه لتفرح أرض العطشى بمنتهج البراري و العلوات و لتسر و تزهو مثل الوعل فإنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان و يكمل حسن الدساكر و الرياض و سترون جلال الله تعالى بها قال شعيا و سلطانه على كتفه يريد : علامة نبوته على كفته و هذه صفة محمد صلى الله عليه و سلم و بادية الحجاز .
و في الفصل التاسع عشر منه : هتف هاتف من البدو فقال خلو الطريق للرب و سهلوا سبيل القفر فستمتلئ الأودية مياها و تفيض فيضا و تنخفض الجبال و الروابي انخفاضا و تصير الآكام دكا دكا و الأرض الورعة مذللة ملسا و تظهر كرامات الرب و يراها كل أحد .
و في الفصل العشرين منه و هو مذكور في ثلاث و خمسين و مائة من مزامير داود لترتاح البوادي و قراها و لتصير الأرض قاذار مؤوجا و يسيح سكان الكهوف و ليهتفوا من قلال الجبال بحمد الرب و ليرفعوا تسابيحه فإن الرب يأتي كالجبار الملتضي المتكبر و هو يزجر و يقتل أعداءه و أرض قاذار هي أرض العرب لأنهم ولد قاذار و المروج ما صار حول مكة من النخل و الشجر و العيون .
و في الفصل الحادي و العشرين منه أيضا إن الضعفاء و المساكين يستسقون ماء و لا ماء لهم فقد جفت ألسنتهم من الظمأ و أنا الرب أجيب يومئذ دعوتهم و لن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال الأنهار و أجري بين القفار العيون و أحدث في البدو أجساما و أجري في الأرض العطشى ماء معينا و أنبت في البلاقع القفار الصنوبر و الآس و الزيتون و أغرس في القاع الصفصف البر ليروها جميعا ثم يتدبروا و يعلموا أن يد الله صنعت ذلك و قدوس إسرائيل ابتدعه و هذه صفات بلاد العرب فيما أحدث الله تعالى لهم فيها بإسلامهم .
بشائر نوال بن نوتال : .
فصل من بشائر نوال بن نوتال من أنبياء بني إسرائيل : مثل الصبح المسلط على الجبال شعب عظيم عزيز لم يكن مثله قط و لا يكون بعده مثله إلى أبد الأبد أمامه نار تتأجج و خلفه لهيب و تلتهب الأرض بين يديه مثل فردوس عدن فإذا جاز فيها و عبرها تركها برية خاوية رؤيته كرؤية الجبل رجالته فر سراع مثل الفرسان أصواتهم كصوت لهب النار الذي يحرق الهشيم رجفت الأرض أمامهم و تزعزعت السماء و أظلمت الشمس و غاب نور النجوم و الرب أسمع صوتا بين يدي أجناده لأن عسكره كثير جدا و عمل قوله عزيز لأن نور الرب عظيم مرهوب جدا و هذا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم .
من بشائر عويديا : .
فصل من بشائر عويديا من أنبياء بني إسرائيل : و في كتابه : قد سمعنا خبرا من قبل الرب و أرسل رسولا إلى الشعوب ثم يتقدم إليه بالحرب أيها الساكن في بحر الكهف و محله في الموضع الأعلى لأن يوم الرب قريب من جميع الشعوب فهذا مرموز في نبوته .
من بشائر ميخاء .
من أنبياء بني إسرائيل في كتابه : فأما الآن فسيتسلم إلى الوقت الذي تلد فيه الوالدة و يقوم فيرعاهم يعني الرب و بكرامة اسم الله ربه و يقبلون بهم إلى من سيعظم سلطانه إلى أقطار الأرض و يكون على عهد الإسلام .
من بشائر حبقو ق : .
فصل من بشائر حبقوق من أنبياء بني إسرائيل : جاء الله من طور سيناء و استعلن القدوس من جبال فاران و انكسفت لبهاء محمد و انخسفت من شعاع المحمود و امتلأت الأرض من محامده لأن شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعده و تسير المنايا أمامه و تصحب سباعؤ الطير أجناده قام فمسح الأرض و قابل الأمم و بحث عنهم فتصفصفت الجبال القديمة و اتضعت الروابي الدهرية و تزعزع سور أرض مدين و لقد جاز المساعي القديمة قطع الرأس من حب الأثيم و دمغت رؤوس سلاطينه بعضبه و معلوم أن محمدا و أحمد و محمودا صريح في اسمه و هما يتوجهان إلى من انطلق عليه اسم المحمد و هو بالسرياينة موشيحا أي محمد و محمود و لهذا إذا أراد السرياني أن يحمد الله تعالى قال : شريحا لإلهنا .
من بشائر حزقيال : .
فصل من بشائر حزقيال من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه [ إن الذي يظهر من البادية فيكون فيه حتف اليهود كالكرمة أخرجت ثمارها و أغصانها عن مياه كثيرة و تفرعت منها أغصان مشرقة على أغصان الأكابر و السادات و بسقت فلم تلبث نار فأكلتها فكذلك غرس غرس في البدو و في الأرض المهملة المعطلة العطشى و خرج من أغصانه الفاضلة نار فأكلت ثمار تلك حتى لم يبق منها عصا قوية و لا قضيب ينهض بأمر السلطان ] .
من بشائر يرصفينا : .
فصل من بشائر يرصفينا من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه أيها الناس ترجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة فقد حان أن أظهر حكمي بحشر الأمم و جميع الملوك لأصب عليهم سخطي و تكبري هناك أجدد للأمم اللغة المختارة ليرفعوا اسم الرب جمعيا و ليعبدوه في ربقة واحدة معا و ليأتوا بالذبائح من مغارتها تكون و معلوم أن اللغة العربية هي المختارة لأنها طبقت الأرض و انتقلت أكثر اللغات إليها حتى صار ما عداها نادرا .
من بشار زكريا : .
فصل من بشائر زكريا بن يوحنا من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه رجع الملك الذي ينطق على لساني و أيقظني كالرجل الذي يستيقظ من نومه و قال لي ما الذي رأيت فقلت منارة من ذهب و كفة على رأسها و أريت على الكفة سبعة سرج لكل سراج منها سبعة أفواه و فوق الكفة شجرتا زيتون إحداهما عن يمين الكفة و الأخرى عن يسارها فقلت للملك الذي ينطق على لساني ما هذه يا سيدي فرد الملك علي و قال لي أما تعلم ما هذه ؟ فقلت ما أعلم فقال لي هذا قول الرب في زربايال يعني محمدا و هو يدعى باسمي و أنا أستجيب له للنصح و التطهير و أصرف عن الأرض أنبياء الزور و الأرواح النجسة لا بقوة و لا بعز و لكن بروحي بقول الرب القوي و يعني بشجرتي الزيتون الدين و الملك و زربايال هو محمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
من بشائر دانيال : .
فصل من بشائر دانيال من أنبياء بني إسرائيل : في كتابه : رأيت على سحاب السماء المسمى كهيئة إنسان جاء فانتهى إلى عتيق الإمام و قدموه بين يديه فحوله الملك و السلطان و الكرامة أن تعبد له جميع الشعوب و الأمم و اللغات سلطانه دائم إلى الأبد له يتعبد كل سلطان و يمضي ألفان و ثلثمائة ينقضي عقاب الذنوب يقوم ملك منيع الوجه في سلطانه عزيز القوة لا تكون عزته تلك بقوة نفسه و ينجح فيما يريد و يجوز في شعب الأطهار و يهلك الأعزاء و يؤتى بالحق الذي لم يزل قبل العالمين و في هذا دليل على أمرين أحدهما صدق الخبر لوجوده على حقه و الثاني صحة نبوته لظهور الخبر في صحته .
من بشائر رؤيا بختنصر : .
فصل من بشائره في رؤيا بختنصر : و هو أن بختنصر رأى في السنة الثانية من ملكه رؤيا ارتاع منها و نسيها فأحضر من في ممالكه من الكهنة و المنجمين و كان قد ملك الأقاليم السبعة و سألهم عن الرؤيا و تأويلهم فقالوا له اذكروا لنا حتى نذكر تأويلها لك فأمر بقتلهم إن لم يذكروها و تأويلها و كان دانيال النبي قد سباه من اليهود فاستمهل في أمرهم و رغب إلى الله تعالى في اطلاعه على الرؤيا و تأويلها فأطلعه الله تعالى على ذلك فأتى بختنصر و قال : أيها الملك إنك كلفت هؤلاء ما لا يعلمه إلا الله و قد رغبت إليه فأطلعني عليه و رؤياك التي رأيتها أن قلبك جاش و اختلج بما يحدث بعدك في آخر الزمان فعرفك مبدي السرائر ما يكون إنك أبها الملك رأيت صنما عظيما قائما قبالتك له منظر رائع رأسه من الذهب الأبريز و صدره و ذراعاه من فضة و فخذاه من نحاس و ساقاه من حديد و بعض رجليه من حديد و بعضها من خزف و رأيت حجرا انقطع من جبل عظيم بغير يد إنسان فضرب ذلك الصنم فهشمه حتى صار جبلا عظيما امتلأت منه الأرض كلها فهذه الرؤيا و أنا معبرها أما الصنم فهو الملوك فأنت الرأس الذهب و يقوم من بعدك من هو دونك ألين منك فأما المملكة الثالثة التي هي مثل النحاس فتسلط على الأرض كلها و أما المملكة الرابعة التي هي مثل الحديد فتكون عزيزة كما أن الحديد يهشم الجميع فكذلك هذه تسحق و تغلب الكل و أما الأرجل و الأصابع التي رأيت أن منها من خزف الفخار و منها من حديد فإن المملكة تكون مختلفة و متفرقة يكون منها أصل من جوهر الحديد و خلط من خزف الفخار فيكون بعض المملكة قويا و بعضها واهيا كسيرا لا يأتلف بعضها ببعض كما لا يختلط الحديد بالخزف و أما الحجر الواقع من الجبل فإن إله السماء يرسل مملكة من عنده لأنه لم تقطع الحجر يد إنسان في زمان هذه الممالك يهلكها و يبقى إلى آخر الدهر و لا يكون لأمة أخرى مملكة و لا سلطان إلا دقه كما يدق الحجر الحديد و النحاس و الفضة و الذهب فعرفك الله العظيم ما يكون بعدك في آخر الأيام فهذا رؤياك و تأويلها .
فخر بختنصر على وجهه ساجدا لدانيال و قال إن إلهكم هذا هو إله الآلهة و رب الأملاك حقا و هو مبدي السرائر و جعل دانيال رأسا مؤمرا على أرض بابل و معلوم أنه لم يرسل الله تعالى سلطانا أزال به الممالك و ملأ به الأرض و دام له الأمر إلا بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
من بشائر أرميا : .
فصل من بشائر أرميا بن برخنا من أنبياء بني إسرائيل في أيام بختنصر : لما قتل أهل الرس نبيهم قال ابن عباس أمر الله تعالى أن يأمر بختنصر أن يغزو العرب الذين لا إغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم فأمره بذلك فدخل بختنصر بلاد العرب فقتل و سبى حتى انتهى إلى تهامة فأتى بمعد بن عدنان فأمر بقتله فقال له النبي لا تفعل فإن في صلب هذا نبيا يبعث في آخر الزمان يختم الله به الأنبياء فخلى سبيله و حمله معه حتى أتى حصونا باليمن فهدمها و قتل أهلها و زوج معدا بأجمل امرأة منهم في زمانها و خلفه بتهامة حتى نسل بها قال ابن عباس و في ذلك نزل قوله تعالى : { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين } .
من بشائر داود في الزبور : .
فصل من بشائر داود في الزبور : سبحان الذي هيكله الصالحون يفرح إسرائيل بخالقه و بيوت صيلون من أجل أن الله اصطفى له أمته و أعطاه النصر و سدد الصالحين منه بالكرامة يسبحون على مضاجعهم و يكبرون الله بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود و أشرافهم بالأغلال و معلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين و محمد هو المنتقم بها من الأمم .
و فيه [ أن الله أظهر من صيقون إكليلا محمودا ] و صيقون العرب و الإكليل النبوة و محمود هو محمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
و في مزمور آخر منه : [ أنه يجوز من بحر إلى بحر و من لدن الأنهار إلى الأنهار إلى منقطع الأرض و أن تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم و تلحس أعداؤه التراب تأتيه الملوك بالقرابين و تسجد و تدين له الأمم بالطاعة و الانقياد لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه و ينقذ الضعيف الذي لا ناصر له و يرأف بالضعفاء و المساكين و أنه يعطي من ذهب بلاد سبأ و نصلي عليه في كل وقت و يبارك عليه في كل يوم و يدوم ذكره إلى الأبد ] و معلوم أنه لم يكن هذا إلا لمحمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
و في [ مزمور آخر ] قال داود : [ اللهم ابعث جاعل السنة حتى يعلم الناس أنه بشر ] أي ابعث نبيا يعلم الناس أن المسيح بشر لعلم داود أن قوما سيدعون في المسيح ما ادعوه و هذا هو محمد صلى الله تعالى عليه و سلم .
من بشائر المسيح في الإنجيل : .
فصل من بشائر المسيح به في الإنجيل : قال المسيح عليه السلام للحواريين : [ أنا ذاهب و سيأتيكم البارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له و هو يشهد علي و أنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس و كل شيء أعده الله لكم يخبركم به ] و في نقل يوحنا عنه : [ إن البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة و لا يقول من تلقاء نفسه شيئا و لكنه مما يسمع به يكلمكم و يسوسكم بالحق و يخبركم بالحوادث و الغيوب ] .
من هو البارقليط ؟ .
و في نقل آخر عنه [ إن البارقليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء إني سائل أن يبعث إليكم بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد و هو يعلمكم كل شيء ] .
و في نقل آخر عنه : [ إن البشيرذاهب و البارقليط بعده يحيى لكم الأسرار و يقيم لكم كل شيء و هو يشهد لي كما شهدت له فإني لأجيئكم بالأمثال و هو يأتيكم بالتأويل ] و البارقليط بلغتهم لفظ من الحمد و قد قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و أنا أحمد و أنا محمود و أنا محمد .
بشائر الأنبياء تثبت نبوة محمد صلى الله عليه و سلم : .
فهذه من بشائر الأنبياء عن الكتب الإلهية المتناصرة بصحة نبوته المتواترة الأخبار بانتشار دعوته و تأييد شريعته و لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر فمنهم من عينه باسمه و منهم من ذكره بصفته و منهم من عزاه إلى قومه و منهم من أضافه إلى بلده و منهم من خصه بأفعاله و منهم من ميزه بظهوره و انتشاره و قد حقق الله جميعها فيه حتى صار جليا بعد الاحتمال و يقينا بعد الارتياب .
رد مزاعم مفتراة عن النبي عليه السلام : .
فإن قيل : مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم و هم مأمورن بالرأفة و الرحمة و محمد جاء بالسيف و سفك الدماء و قتل النفوس فصار منافيا لما جاء به موسى و عيسى فزال عن حكمهما في النبوة لمخالفتهما في السيرة فعنه ثلاثة أجوبة : .
أحدها : أن الله تعالى بعث إلى كل نبي بحسب زمانه فمنهم من بعثه بالسيف لأن السيف أنجع و منهم من بعثه باللطف لأن اللطف أنفع كما خالف بين معجزاتهم بحسب أزمانهم فبعث موسى بالعصا في زمان السحر و بعث عيسى بإحياء الموتى في زمان الطب و بعث محمدا بالقرآن في زمان الفصاحة لأن الناس في بدء أمرهم يتعاطفون مع القلة ثم يتنافرون و يتحاسدون مع الكثرة و لذلك قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ نجا أول هذه الأمة باليقين و الزهد و يهلك آخرها بالبخل و الأمل ] .
و الجواب الثاني : أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيرا و اللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شرا لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية و الحقوق الدينية و لذلك جاء الشرع بالقتل و الحدود ليستقر به الخير و ينتفي به الشر لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة فكان القهر أبلغ في انقيادها من الرغبة و كانت العرب أكثر الناس شرا و عتوا لكثرة عددهم و قوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أنفع من اللطف .
و الجواب الثالث : أنه لم يكن في جهاده بالسيف بدعا من الرسل و لا أول من أثخن في أعداء الله تعالى و قبل هذا إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها و حاربهم حتى هزمهم بأحزابه و أتباعه .
و هذا يوشع بن نون قتل نيفا و ثلاثين ملكا من ملوك الشام و أباد من مدنها ما لم يبق له أثر و لا من أهلها صافر من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم أتاوة و ساق الغنائم .
و غزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلا و لا امرأة إلا قتلهم و هو موجود في كتبهم و محمد صلى الله تعالى عليه و سلم بدأ بالاستدعاء و حارب بعد الإباء .
لم يكن النبي شديدا إلا في الحق : .
و روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء كان أشدهم في ذلك غضبا و ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما .
و قد كان صلى الله تعالى عليه و سلم أحث الناس على الصفح و التعاطف روى أسيد بن عبد الرحمن [ عن فروة بن مجاهد عن عقبة بن عامر قال : لقيت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال لي يا عقبة : صل من قطعك و أعط من حرمك و اعف عمن ظلمك فهل يكون أحنى على الخلق ممن يأمرهم بمثل هذا ؟ و إنما تطلبت الملحدة بمثل هذا الاعتراض القدح في النبوات فإنهم لم يعفوا نبيا من القدح في معجزاته و الطعن على سيرته حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به موسى و عيسى و محمد صلى الله تعالى عليه و سلم بشعر نظمه فقال : .
( و فالق البحر لم يفلق جوانبه ... إذا ضاع فيه ضياع الحر في السفل ) .
( و مدع يدعي الأشياء خلقته ... ما باله زال و الأشياء لم تزل ) .
( و آخر يدعي بالسيف حجته ... هل حجه السيف إلا حجة البطل ) ] .
شاعر يرد على خصوم النبي : .
فحضرني حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها فقال : .
( قل للذي جاء بالتكذيب للرسل و رد معجزهم بالزيغ و الدغل ) .
( و قال في ذاك أبياتا مزخرفة ليوقع الناس في شك من الملل ) .
( ضياع موسى دليل من أدلتهمن بعد ما صار فرق البحر كالجبل ) .
( ليعلم الناس ان الله فالقه ... و أن موسى ضعيف تاه في السبل ) .
( و المعجز الحق في فلق المياه له و جعله البر ما يحتاط بالحيل ) .
( و ابن البتول فإن الله نزهه عما ذكرت من الدعوى على الجمل ) .
( ما كان منه سوى طير يقدره طينا و ربي أحياه و لم يزل ) .
( و قال إني بإذن الله فاعله و إذن ربي يحيى الخلق لا عملي ) .
( و صاحب السيف كان السيف حجته ... بعد البيان عن الإعجاز و المثل ) .
( و جاء مبتديا بالنصح مجتهدا بمعجزات لها حارت أولو النحل ) .
( منها كتاب مبين نظمه عجب فيه من الغيب ما أوحي إلى الرسل ) .
( فأفحم الشعراء المفلقين به لما تحداهم بالرفق في مهل ) .
( و أنبع الماء عذبا من أنامله من غير ما صخرة كانت و لا وشل ) .
( و شارف القوم وافاه و كلمه و قال إني من قتلي على وجل ) .
( و الذئب قد أخبر الراعي بمبعثه فجاء يشهد بالإسلام في عجل ) .
( و الجذع حن إليه حين فارقه حنين ذات جؤار ساعة الهبل ) .
( و أخبر الناس عما في ضمائرهم مفصلا بجواب غير محتمل ) .
( و نبأ الروم عن نصر يكون لها من بعد سبعة أعوام على جدل ) .
( و الفرس أخبرها عن قتل صاحبها ... برويز إذ جاءه فيروز في شغل ) .
( و إن تقصيت ما جاء النبي به طال النشيد و لم آمن من الملل )