الباب التاسع عشر : في آيات مولده و ظهور بركته صلى الله تعالى عليه و سلم .
شواهد النبوة : .
آيات الملك باهرة و شواهد النبوة قاهرة تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب يصدق و لا منتحل بمحق و بحسب قوتها و انتشارها يكون بشائرها و إنذارها .
أصحاب الفيل : .
و لما دنا مولد رسول الله تعالى صلى الله عليه و سلم تعاطرات آيات نبوته و ظهرت آيات بركته فكان من أعظمها شأنا و أظهرها برهانا و أشهرها عيانا و بيانا أصحاب الفيل أنفذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل رجالها و سبي ذراريها و هدم الكعبة .
و اختلف في سببه فذكر قومه أن إبراهيم الصباح استولى على اليمن معتزيا إلى النجاشي فبنى بصنعاء اليمن كنيسة للنصارى و استعان في بنيانها بقيصر و النجاشي حتى بناها في تشييدها و حسنها ليعدل بالعرب عن حج الكعبة إليها فأنكرته العرب و دخل هيكلها بعض بني كنانة من قريش فأحدث فيها .
فكتب إلى النجاشي يستمده بالفيل و جيش الحبشة ليغزو قريشا و يهدم الكعبة فسار بهم و أخذ أبا رغال من الطائف دليلا إلى مكة حتى أنزله بالمغمس و مات أبو رغال بالمغمس فدفن فيه فرجمت العرب قبره فهو المرجوم بالمغمس .
و قال آخرون بل سببه أن نفرا من تجار قريش مروا ببيعة للنصارى على شاطئ البحر فنزلوا بفنائها و أوقدوا نارا لعمل طعامهم فاحترقت البيعة فأقسم النجاشي ليسبين مكة و ليهدمن الكعبة فأنفذ جيشه و الفيل مع إبراهيم بن الصباح و ابن مكسوم و حجر بن شراحيل و الأسود بن مقصود .
من هم رؤساء أصحاب الفيل : .
و كان النجاشي هو الملك و أبرهة صاحب جيشه على اليمن و أبو مكسوم وزيره و حجر و الأسود من قواده فساروا بالجيش مع الفيل حتى نزلوا بذي المجاز و تقدمهم الأسود بن مقصود فاستاق سرح مكة فقال فيه عبد الله بن مخزوم : .
( لا هم اخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة بعد التقليد ) .
( و يهدم البيت الحرام المعبود ... و المروتين و المشاعر السود ) .
( اخزهم يا رب و أنت معبود ) .
الجيش الغازي يسلب أنعام مكة : .
و كان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب و قد قلد بعضها فخرج و كان وسيما جسيما إلى أبرهة و سأله في أبله فقال له إبرهة : قد كنت أعجبتني حين رأيتك و قد زهدت الآن فيك قال و لم ؟ قال : جئت لأهدم الكعبة بيتا هو دينك و دين آبائك فلم تسألني فيه و سألتني في إبلك فقال عبد المطلب : أنا رب إبلي و للبيت رب غيري سيمنعه منك فقال أبرهة : ما كان ليمنعه مني و رد على عبد المطلب إبله مستهزئا ليعود فيأخذها .
فأحرزها عبد المطلب في جبال مكة و أتى الكعبة فأخذ حلقة الباب و جعل يقول : .
( يا رب إن المرء يمنع ... حله فامنع حلالك ) .
( لا يغلبن صليبهم ... و محالهم أبدا محالك ) .
( إن كنت تاركهم ... و كعبتنا فأمر ما بدا لك ) .
( فلئن فعلت فإنه ... أمر يتم به فعالك ) .
( اسمع بارجس من أرا ... دوا العدو و انتهكوا حلالك ) .
( جروا جميع بلادهم ... و الفيل كي يسبوا عيالك ) .
( عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا و ما رقبوا جلالك ) .
جيش أبرهة يتقدم صوب مكة : .
و توجه الجيش إلى مكة من طريق منى و الفيل معهم إذا بعث على الحرم أحجم و إذا عدل عنه أقدم فوقعوا بالمغمس فقال أبو الطيب بن مسعود في ذلك و قيل بل قاله عبد المطلب : .
( إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري بها إلا الكفور ) .
( حبس الفيل بالمغمس حتى ... مر يعوي كأنه معقور ) .
طيور أبابيل تهاجم الجيش : .
و بصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر .
فقال عبد المطلب إن هذه غريبة بأرضنا ما هي نجدية و لا تهامية و لا حجازية و إنها لأشباه اليعاسيب و كان في مناقيرها و أرجلها حجارة فلما أظلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا فأفلت من القوم أبرهة .
و رجع إلى اليمن فمات في طريقه بعد أن كان يسقط من جسده عضو عضو حتى هلك و لما تأخر القوم عنهم و استعجم خبرهم عليهم قال عبد المطلب : .
( يا رب لا نرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا ) .
( إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا ) .
و بعث ابنه عبد الله ليأتيه بخبرهم فوجد جميعهم قد شدختهم الأحجار حتى هلكوا فعاد راكضا إلى عبد المطلب و أصحابه و أخذوا أموالهم فكانت أول أموال بني عبد المطلب فأنشأ مرتجزا يقول : .
( أنت منعت الجيش و الأفيالا ... و قد رعوا بمكة الأخيالا ) .
( و قد خشينا منهم القتالا ... و كل أمر لهم معضالا ) .
( شكرا و حمدا لك ذا الجلالا ) .
آية الرسول من قصة الفيل : .
و آية الرسول صلى الله عليه و سلم من قصة الفيل : أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل و بعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول و وافق بين شهور الروم العشرين من شباط في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان .
و حكى أبو جعفر الطبري أن مولده كان لاثنتين و أربعين سنة من ملك أنوشروان [ فكانت آيته ] في ذلك من وجهين : أحدهما أنهم لو ظفروا لسبوا و استرقوا فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا و وليدا .
و الثاني : أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم و ما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن او قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة .
و لكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة و تعظيما للكعبة و أن يجعلها قبلة للصلاة و منسكا للحج .
مقارنة بين عمل أبرهة و عمل الحجاج : .
فإن قيل : فكيف منع الكعبة قبل مصيرها قبلة و منسكا و لم يمنع الحجاج من هدمها و قد صارت قبلة و منسكا حتى أحرقها و نصب المنجنيق عليها فقال فيها على ما حكي عنه : .
( كيف تراه ساطعا غباره ... و الله فيما يزعمون جاره ) .
و قال راميها بالمنجنيق : .
( قطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد كل مسجد ) .
قيل : فعل الحجاج كان بعد استقرار الدين فاستغنى عن آيات تأسيسه و أصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة و مجيء الرسالة على أن الرسول قد أنذر بهدمها فصار انهدم آية فلذلك اختلف حكمها في الحالين و الله تعالى أعلم .
تهيب العرب الحرم و أعظموه : .
و لما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل تهيبوا الحرم و أعظموه و زادت حرمته في النفوس و دانت لقريش بالطاعة و قالوا : أهل الله قاتل عنهم و كفالة كيد عدوهم فزادوهم تشريفا و تعظيما و قامت قريش لهم بالوفادة و السدانة و السقاية .
و الوفادة مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون به طعاما للناس أيام منى فصاروا أئمة ديانين وقادة متبوعين و صار أصحاب مثلا في الغابرين .
قصة عمر بن الخطاب مع العشار : .
و روى هشام بن محمد الكلبي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج في الجاهلية تاجرا إلى الشام فمر بزنباع بن روح ـ و كان عشارا ـ فأساء إليه في اجتيازه و أخذ مكسه فقال عمر بعد انفصاله : .
( متى ألف زنباع بن روح ببلدة ... إلى النصف منها يقرع السن بالندم ) .
( و يعلم أن من لؤي من غالب ... مطاعين في الهيجا مضاريب في التهم ) .
فبلغ ذلك زنباعا فجهز جيشا لغزو مكة فقيل له : إنها حرم الله ما أرادها أحد بسوء إلا هلك كأصحاب الفيل فكف زنباع فقال : .
( تمنى أخو فهر لقاي و دونه ... قراطبة مثل الليوث الحواظر ) .
( فو الله لولا الله لا شيء غيره ... و كعبته راقت إليكم معاشري ) .
( لأقتل منكم كل كهل معمم ... و أسبي نساء بين جمع الأباعر ) .
فبلغ ذلك عمر رضوان الله تعالى عليه فأجابه و قال : .
( ألم تر أن الله أهلك من بغى علينا قديما في قديم المعاشر ) .
( و أردى أبا مكسوم أبرهة الذيأتانا مغيرا كالفنيق المخاطر ) .
( بجمع كثير يحرج العين وسطهعلى رأسه تاج على رأس باكر ) .
( فما راعنا من ذلك العبد كيده و كنا به من بين لاه و ساخر ) .
( و قال سابغي البيت هدما و لا أرى ... بمكة ماش بين تلك المشاعر ) .
( فرداه رب العرش عنا رداءة و لم ينجه إعظامه بالمرائر ) .
( فأهلكه و التابعين له معا و أسري به من ناصر و مسامر ) .
( و ليس لنا فاعلم و ليس لبيتنا ... سوى الله من مولى عزيز و ناصر ) .
( فدونك زرنا تلق مثل الذي لقوا جميعهم من دراعين و حاسر ) .
و كان شأنا الفيل رادعا لكل باغ و دافعا لكل طاغ و قد عاصر رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في زمن نبوته و بعد هجرته جماعة شاهدوا الفيل و طير الأبابيل منهم : حكيم بن حزام و حاطب بن عبد العزى و نوفل بن معاوية لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة و عشرين سنة منها ستين سنة في الجاهلية و ستين سنة في الإسلام .
حمل الرسول و ولادته عليه السلام : .
و لما حملت آمنة بنت وهب برسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم حدثت أنها أتيت فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا و رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى من أرض الشام .
قالت أم عثمان بن العاص : شهدت ولادة آمنة برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان ليلا فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور و إنني أنظر إلى النجوم تدنو و إني أقول لتقعن علي و لما وضعته تركت عليه في ليلة ولادته جفنة فانقلبت عنه فكان من آياته إن لم تحوه و أرسلت إلى جده عبد المطلب أن قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه و نظر إليه و حدثته بما رأت حين حملت به و ما قيل لها فيه و ما أمرت أن تسميه فقيل إن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في جوف الكعبة فقام عنده يدعو و يشكر بما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها و قال قد رأى فيه سمات المجد و ترسم فيه أمارات السؤدد و أن محمدا لن يموت حتى يسود العرب العجم و أنشأ يقول : .
( الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان ) .
( أعيذه بالواحد المنان ... من كل ذي عيب و ذي شنآن ) .
( حتى أراه شامخ البنيان ) .
قدوم المرضعات إلى مكة : .
و لم يزل موفور البركة على كل لائذ به و كافل له فروى جهم بن أبي الجهم عن عبد الله بن جعفر قال : لما ولد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قدمت حليمة بنت الحرث بن عبد العزى تلتمس الرضعاء في سنة شيبة قالت و معنا شارف و الله ما يبض لنا بقطرة من لبن و معي بني لي منه و ما نجد في ثديي ما نعلله إلا أنا نرجو الغيث و كانت لنا غنم فنحن نرجوها .
فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فلم تقبله و كرهناه ليتمه فأخذ كل صواحبي رضعاء و لم أجد غيره فأخذته و أتيت به رحلي فو الله إن هو إلا ثبت في الرحل و أمسيت فأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته و أرويت أخاه .
لبركة تصل إلى الناقة : .
و قام أبوه إلى شارفنا تلك ليمسها بيده فإذا هي حافل فحلبها ما رواني من لبنها و روى الغلمان فقال : يا حليمة و الله لقد أصبنا نسمة مباركة .
رجوع مرضعة النبي إلى بلدها : .
ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا فركبت أتاني و حملته معي فو الذي نفس حليمة بيده لقد طفت بالركب حتى إن النسوة ليقلن : يا حليمة أمسكي عنا أهذه أتانك التي خرجت عليها ؟ قلت : نعم فقلت : و الله إني لأرجو من الله أن أكون قد حملت عليها غلاما مباركا قالت : فكان الله يزيدنا به في كل يوم خيرا و إن غنما لتعود من الرعي بطانا حفلا و تعود غنم الناس خماصا جياعا .
شق صدر النبي عليه السلام : .
قالت : فبينا هو يلعب خلف البيوت و أخوه في بهم لنا إذ أتاني أخوه يشتد فقال : إن أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثوبان أبيضان فأخذاه فأضجعاه و شقا بطنه فخرجت أنا و أبوه فوجدناه قائما قد انتفع لونه فلما رآنا أجهش إلينا باكيا قالت : فالتزمته أنا و أبوه و قلنا له : ما لك ؟ فقال : جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني و صنعا بي يلم رداءه كما هو .
قال أنس بن مالك : جاءه جبريل فصرعه فشق بطنه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ثم غسله ثم لأمه ثم أعاده مكانه قال أنس : قد كنت أنظر إلى أثر المخيط في صدره .
حليمة ترجع الطفل محمدا إلى أهله : .
ثم إن زوج حليمة قال لها : يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك فاحتملته حليمة حتى قدمت به على أمه آمنه فقالت أمه : ما أقدمك به يا ظئر قالت : قد قضيت الذي علي و تخوفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين .
قالت : ما هذا شأنك فاصدقيني فأخبرتها حليمة بحاله و قالت : تخوفت عليه الشيطان فقالت أمه : كلا و الله ما للشيطان عليه سبيل و إن له لشأنا و إني رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى و وقع حين ولدته و إنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه في السماء دعيه فانطلقي راشدة و في هذا الخبر من آياته ما تذعن النفوس بصحة نبوته .
صيانة الله لمحمد صلى الله عليه و سلم و هو غلام : .
و روى محمد بن إسحق قال حدثني بعض أصحابنا : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : لقد رأيتني و أنا غلام يفع بمكة مع غلمان قريش نحمل حجارة على أعناقنا و قد حملنا أزرنا فوطأنا على رقابنا إذ دفعني دافع ما أراه و قال : اشدد عليك إزارك فشددت إزاري و هذا من نذر الصيانة ليكون عليها ناشئا و لها آلفا .
صيانة الله لمحمد و هو يافع : .
[ و روى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول : ما هممت بشيء مما كان في الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني و بين ما أريد .
فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة : لو أبصرت إلى غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها ما يسمر الشباب فقال : أدخل فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدفوف و المزامير فقلت : ما هذا ؟ قالوا : فلان بن فلان تزوج فلانة ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس قال : فجئت صاحبي فقال : ما فعلت ؟ فقلت : ما صنعت شيئا و أخبرته الخبر .
قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال : افعل فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت و دخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذني فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته ] .
فهذه أحوال عصمته قبل الرسالة و صده عن دنس الجهالة فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم و من الأدناس أسلم كفى بهذه الحالة أن يكون من الأصفياء الخيرة إن أمهل و من الأتقياء البررة إن أغفل و من أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة على النظرة و قد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص و طهره من الأدناس فانتفت عن تهم الظنون و سلم من ازدراء العيون ليكون الناس إلى إجابته أسرع و إلى الانقئاد له أطوع .
قريش ترغب في تجديد بناء الكعبة : .
و لما نشأ رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في قريش على أحمد هدى و صيانة و أكمل عفاف و أمانة سموه الأمين بعد اختباره و قدموه لفضله و وقاره و تشاوروا في هدم الكعبة و بنائها لقصر سمكها .
و كان فوق القامة و سعة حيطانها و كان يتهافت فأرادوا تجديدها و تعليتها و خافوا من الإقدام على هدمها و كان للكعبة كنز وجدوه عند دويك مولى لبني مليد بن خزاعة و أخذته قريش منه و قطعت يده و اتهموا به الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أن يكون قد تولى أخذه و أودعه عند دويك فنافروه إلى كاهنة من كهان العرب فسجعت عليه من كهانتها : أن لا يدخل مكة عشر سنين بما استحل من حرمة الكعبة فكان يجول حول مكة حتى استوفى العشر .
حية عظيمة منعت الهدم : .
و كان يظهر في الكعبة حية يخاف الناس منها لا يدنو منها أحد إلا اخزألت و فتحت فاها فتوقوها إلى أن علت ذات يوم على جدار الكعبة فسقط طائر فاختطفها فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا .
و كان البحر قد قذف سفينة على ساحل جدة لرجل من تجار الروم و كان بمكة نجار من القبط فهيأ لهم تسقيف الكعبة بخشب السفينة .
لا تبنى الكعبة إلا بمال طيب : .
فلما أزمعوا على هدمها قام أبو وهب بن عمير و كان خال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ذا شرف و قدر فأخذ حجرا من الكعبة فوثب الحجر من يده حتى عاد في موضعه فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا و لا تدخلوا فيها مهر بغي و لا بيع ربا و لا مظلمة أحد من الناس و تصورت قريش أن عود الحجر من يد أبي وهب إلى موضعه أن الله تعالى قد كره هدمها فهابوه .
بدء هدم الكعبة : .
و قال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول و قام عليها و هو يقول : اللهم لا نريد إلا الخير ثم هدم الركنين فتربض الناس به تلك الليلة و قالوا : ننتظر فإن أصيب لم نهدم و إن لم يصب هدمناها و قد رضي ما صنعنا .
فأصبح الوليد من ليلته و عاد إلى عمله و تحاصت قريش الكعبة فكان شق البيت لبني عبد مناف و زهرة و ما بين الركن الأسود و الركن اليماني لبني مخزوم و تيم و قبائل انضمت إليه من قريش و كان شق الحجر و الحطيم لبني عبد الدار و بني عبد العزى و بني عدي و كان ظهر الكعبة لبني جمح و بني سهم حتى انتهوا إلى الأساس فأفضوا إلى حجارة خضر قيل إنها كانت على قبر إسماعيل فضربوا المعول بين حجرين فلما تحركا انتفضت مكة بأسرها فكفوا و انتهوا إلى أصل الأساس .
بدء بناء الكعبة : .
و جمعت كل قبيلة حجارة ما هدمت و بنوا حتى انتهوا إلى ركن الحجر فتنازعت القبائل فيمن يضع الحجر في موضعه من الركن فأقبلوا حتى مكثوا أربع ليال أو خمسا ثم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا فقال أبو أمية بن المغيرة ـ و كان أمين قريش في وقته ـ : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول رجل يدخل من باب هذا المسجد فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقالوا : هذا محمد و هو الأمين فقالوا : قد رضينا به لما قد استقر في نفوسهم من فضله و أمانته فلما وصل إليهم أخبروه فقال : ائتوني ثوبا فأتوه بثوب فأخذ الحجر و وضعه فيه بيده و قال : ليأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب و ليرفعوه جمعيا ففعلوا فلما بلغ الحجر إلى موضعه وضعه فيه بيده فكان هذا الفعل من مستحسن أفعاله و آثاره و الرضاء به من أمارات طاعته و كان ذلك بعد عام الفجار بخمس عشرة سنة و رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يومئذ ابن خمس و ثلاثين سنة فكان ذلك تأسيسا لما يريده الله تعالى به من كرامته و توطئة لقبول ما تحمله من رسالته و الله أعلم بمغيب ما استأثر من علمه