المعجزات تخرق العادات .
و إذا كانت حجج الأنبياء على أممهم هي المعجز الدال على صدقهم فالمعجز ما خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلا بقدرة إلهية تدل على أن الله تعالى خصه بها تصديقا على اختصاصه برسالته فيصير دليلا على صدقه في ادعاء نبوته إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف و أما عند قيام الساعة إذا سقطت فيه أحوال التكليف فقد يظهر فيه من أشراطها ما يخرق العادة فلا يكون معجزا لمدعي نبوة و إنما اعتبر في المعجز خرق العادة لأن المعتاد يشمل الصادق و الكاذب فاختص غير المعتاد بالصادق دون الكاذب .
أنواع المعجزات : .
و إذا تقرر أن المعجز محدود بما ذكرناه من خرق العادة فقد ينقسم ما خرج عن العادة على عشرة أقسام : .
أحدها : ما يخرج جنسه عن قدرة البشر كاختراع الأجسام و قلب الأعيان و إحياء الموتى فقليل هذا و كثير معجز لخروج قليله عن القدرة كخروج كثيره .
و القسم الثاني : ما يدخل جنسه في قدرة البشر لكن يخرج مقداره عن قدرة البشر كطي الأرض البعيدة في المدة القريبة فيكون معجزا لخرق العادة .
و اختلف المتكلمون في المعجز منه فعند بعضهم أن ما خرج عن القدرة منه يكون هو المعجز خاصة لاختصاصه بالمعجز و عند آخرين منهم إن جميعه يكون معجزا لاتصاله بما لا يتميز منه .
و القسم الثالث : ظهور العلم بما خرج عن معلوم البشر كالإخبار بحوادث الغيوب فيكون معجزا بشرطين : .
أحدهما : أن يتكرر حتى يخرج عن حد الاتفاق .
و الثاني أن يتجرد عن سبب يستدل به عليه .
و القسم الرابع : ما خرج نوعه عن مقدور البشر و إن دخل جنسه في مقدور البشر كالقرآن في خروج أسلوبه عن أقسام الكلام فيكون معجزا بخروج نوعه عن القدرة فصار جنسا خارجا عن القدرة و يكون العجز مع القدرة على آلته من الكلام أبلغ في المعجز .
و القسم الخامس : ما يدخل في أفعال البشر و يفضي إلى خروجه عن مقدار البشر كالبرء الحادث عن المرض و الزرع الحادث عن البذر فإن برئ المرض المزمن لوقته و استحصد الزرع المتأكل قبل أوانه كان بخرق العادة معجزا لخروجه عن القدرة .
و القسم السادس : عدم القدرة عما كان داخلا في القدرة كإنذار الناطق بعجزه عن الكلام و إخبار الكاتب بعجزه عن الكتابة فيكون ذلك معجزا يختص بالعاجز و لا يتعداه لأنه على يقين من عجز لنفسه و ليس غيره على يقين من عجزه .
و القسم السابع : إنطاق حيوان أو حركة جماد فإن كان باسدعائه أو عن إشارته كان معجزا له و إن ظهر بغير استدعاء و لا إشارة لم يكن معجزا له و إن خرق العادة لأنه ليس اختصاصه به بأولى من اختصاصه بغيره و كان من نوادر الوقت و حوادثه .
و القسم الثامن : إظهار الشيء في غير زمانه كإظهار فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف فإن كان استبقاؤهما في غير زمانهما ممكنا لم يكن معجزا و إن لم يمكن استبقاؤهما كان معجزا سواء بدأ بإظهاره أو طوالب به .
و القسم التاسع : انفجار الماء و قطع الماء المنفجر إذا لم يظهر بحدوثه أسباب من غيره فهو من معجزاته لخرق العادة به .
و القسم العاشر : إشباع العدد الكثير من الطعام اليسير و إرواؤهم من الماء القليل يكون معجزا في حقهم غير معجز في حق غيرهم لما قدمناه من التعليل و هذه الأقسام و نظائرها الداخلة في حدود الإعجاز متساوية الأحكام في ثبوت الإعجاز و تصديق مظهرها على ما ادعاه من النبوة و إن تفاوت الإعجاز فيها و تباين كما أن دلائل التوحيد قد تختلف في الخفاء و الظهور و إن كان في كل منها دليل فأما فعل ما يقدر البشر على ما يقاربه و إن عجزوا عن مثله فليس بمعجز لأن الجنس مقدور عليه و إنما الزيادة فضل حذق به كالصنائع التي يختلف فيها أهلها فلا يكون لأحذقهم بها معجز يجوز أن يدعي به النبوة .
لا تقبل الخوارق ممن يكذب نفسه : .
فإن قيل : فقد جاء زرادشت و بولص بآيات مبهرة و لم تدل على صدقهما في دعوى النبوة .
قيل : لأنهما قد أكذبا أنفسهما ما ادعياه في الله تعالى مما يدل على جهلهما به لأن بولص يقول إن عيسى إله و زعم زرادشت أن الله تعالى كان وحده و لا شيء معه فحين طالت وحدته فكر فتولد من فكرته : أهرمن و هو إبليس فلما مثل بين عينيه أراد قتله و امتنع منه فلما رأى امتناعه وادعه إلى مدته و سالمه إلى غايته .
و من قال بهذا في الله تعالى و لم يعرف لم يجز أن يكون رسولا له ثم دعوا إلى القبائح و الأفعال السيئة كما شرع زرادشت الوضوء بالبول و غشيان الأمهات و عبادة النيران و كذلك بولص و ماني فخذلهم الله تعالى و لو دعوا إلى محاسن الأخلاق كانت الشبهة بهم أقوى و الاغترار بهم أكثر و لكن الله تعالى عصم بالعقول من استرشدها و قاد إلى الحق من أيقظه بها .
لا يظهر الله المعجز إلا لنبي : .
و لا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجز مما يجعله دليلا على صدقه في غير النبوة و إن كان فيه مطيعا لأن النبوة لا يوصل إلى صدقه فيها إلا بالمعجز لأنه مغيب لا يعلم إلا منه فاضطر إلى الإعجاز في صدقه و غير النبوة من أقواله و أفعاله قد يعلم صدقه فيها بالعيان و المشاهدة و تخرج عن صورة الإعجاز و إن نفذت و إن تشبه معجزات الأنبياء بغيرها .
و أما مدعي الربوبية إذا أظهر آيات باهرة فقد ذهب قوم إلى أنها قد تكون معجزة بطلت بكذبه فلم يمتنع لظهور بطلانها أن توجد منه و إن لم توجد منه إذا كان كاذبا في ادعاء النبوة لأنه لم يقترن بدعواه ما يبطلها كمدعي الربوبية .
و الذي عليه قول الجمهور أنه لا يجوز أن يظهر المعجز على مدعي الربوبية كما لا يجوز أن يظهر على مدعي النبوة لأن معصيته في ادعاء الربوبية أغلظ و إفكه فيها أعظم فكان بأن لا تظهر عليه أجدر و إذا استوضح ما أظهره مدعي الربوبية من الآيات ظهر فسادها و بان اختلالها فخرجت عن الإعجاز إلى سحر أو شعبذة .
ثبوت المعجزات بالأخبار المتواترة : .
و لما علم الله تعالى أن أكثر عباده لا يشهدون حجج رسله و لا يحضرون آيات أنبيائه إما لعبد الدار أو لتعاقب الأعصار طبع كل فريق على الأخبار بما عاين فيعلمه الغائب من الحاضر و يعرفه المتأخر من المعاصر و قد علم مع اختلاف الهمم أن خبر التواتر إذا انتفت عنه الريب حق لا يعترضه شك و صدق لا يشتبه بإفك فصار و روده كالعيان في وقوع العلم به اضطررا فثبت به الحجة و لزم به العلم .
و قد قال الطفيل الغنوي مع أعرابية في وقوع العلم بإستفاضة الخبر ما دلته عليه الفطرة و قاده إليه عليه الطبع فقال : .
( تأوبني هم من الليل منصب ... و جاء من الأخبار ما لا يكذب ) .
( تظاهرن حتى لم يكن لي ريبة ... و لم يك عما أخبروا متعقب ) .
ما يجوز لمدعي النبوة : .
و أما ما يجوز لمدعي النبوة فينقسم ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكلمه الله تعالى بغير واسطة الثاني : أن يخاطبه بواسطة من ملائكته و الثالث : أن يكون عن رؤيا منام .
1 - ـ كلام الله بلا واسطة : .
فأما القسم الأول إذا كلمه الله تعالى بغير واسطة مثل كلامه لموسى عليه السلام حين نودي من الشجرة على ما قدمناه في الاختلاف في صفته فيعلم اضطرارا أنه من الله تعالى و فيما وقع به علم الاضطرار في كلامه لأهل العلم قولان : .
أحدهما : أنه يضطره إلى العلم به كما يضطر خلقه إلى العلم بسائر المعلومات فعلى هذا يستدل بمعرفة كلامه على معرفته و يسقط عنه تكليف معرفته و يجوز أن يكون كلامه من غير جنس كلام البشر للاضطرار إلى معرفة ما تضمنه .
و القول الثاني : أن يقترن بكلامه من الآيات ما يدل على أنه منه فعلى هذا لا يسقط منه تكليف معرفة و لا يصح أن يكلمه إلا بكلام البشر لعدم الاضطرار إلى معرفته .
2 - ـ كلام الله بواسطة ملك .
و أما القسم الثاني و هو أن يكون خاطبه بواسطة من ملائكته الذين هم رسله إلى أنبيائه فعلى الأنبياء معرفة الله تعالى قبل ملائكته في رسالته و طريق علمهم به الاستدلال ثم يصير بعد نزول الملائكة بمعجزاتهم الباهرة علم الاضطرار و على الملائكة إذا نزلوا بالوحي على الرسول إظهار معجزاتهم له كما يلزم الرسول إظهار معجزته لأمته .
روي أن جبريل عليه السلام لما تصدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة في الوادي قال له قل يا محمد للشجرة أقبلي فقال لها ذلك فأقبلت و قال له : قل لها : أدبري فقال لها ذلك فأدبرت فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم حسبي يعني في العلم بصدقك فيما أتيتني به عن ربي .
فتستدل الرسل بالمعجزات على تصديق الملائكة بالوحي و تستدل الأمم بمعجزات الأنبياء على تصديقهم بالرسالة و يكون أخطب الملك لفظا إن كان قرآنا أو ما قام مقام اللفظ إن كان وحيا و لا يجوز أن يؤدي الملك إلى الرسول ما تحمله عن ربه إلا بلسان الرسول كما لا يؤدي الرسول إلى قومه إلا بلسانهم .
و يكون الملك واسطة بين الرسول و بين ربه و الرسول واسطة بين الملك و بين قومه و ما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان : قرآن و وحي .
فأما القرآن فيلزم الملك أن يؤديه إلى الرسول بصيغة لفظه و ليس للملك و لا للرسول أن يعدل بلفظه إلى غيره و يكون ما تضمنه من الخطاب المنزل متوجها إلى الرسول و إلى أمته .
إذا تضمن الوحي تكليفا : .
و أما الوحي إذا تضمن تكليفا بأمر أو نهى فصربان : .
أحدهما : أن يكون نصا غير محتمل و صريحا غير متأول فهذا يعلمه الرسول من الملك بنفس الخطاب و تعلمه الأمة من الرسول بالبلاغ من غير نظر و لا استدلال و ليس للملك أو للرسول أن يعدل بالنص إلى إجمال أو احتمال له .
و الضرب الثاني : أن يكون من المجمل أو المحتمل لمعان مختلفة فهذا يعلم المراد به من دليل يقترن بالخطاب و دليله ضربان : أحدهما عقل المستمع و الثاني : توقيف المبلغ فأما ما عقل دليله ببديهة العقل فمحمول على مقتضى العقل و يكفي فيه تبليغ الخطاب و أما ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبداية العقول كالعبادات فمحمول على التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته و من الملائكة إلى الرسول و من الرسول إلى أمته فأما معرفة الملك من ربه فهو غير مشاهد لذاته .
و اختلف أهل العلم في معرفته به على مذهبين كالرسول إن كلمه أحدهما : بأن يضطره إلى العلم به و الثاني : بسماع الخطاب المقترن بالآيات و أما معرفة الرسول من الملك و معرفة الأمة من الرسول فالرسول مشاهد لذات الملك و الأمة مشاهدة لذات الرسول و لمشاهدة الذوات تأثير في العلم بمراد الخطاب : فيتنوع بيان توقيفه فيما أريد بالخطاب أنواعا فيكون بعضه باللفظ الصريح و بعضه بالفعل الظاهر .
و بعضه بالإشارة الباطنة و بعضه بالإمارات التي تضطر المشاهد إلى العلم بما أريد بها و ليس لها نعت موصوف و لا حد مقدر و إنما يعلمه المشاهد بمفهوم أسبابه فيصير البيان باختلاف أنواعه توقيفا من الملك إلى الرسول و من الرسول إلى الأمة و يجوز أن يختلف نوع بيانهما إذا عرف .
3 - ـ كلام الله في الرؤيا : .
فأما القسم الثالث : و هو أن يكون عن رؤيا منام فإن لم يكن ممن تصدق رؤياه لكثرة أحلامه لم يجز أن يدعي به النبوة و إن كان ممن تصدق رؤياه فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ] لم يجز أن يدعي النبوة من أول رؤيا لجواز أن يكون من حديث النفس و أن الرؤيا .
قد تصح تارة و تبطل أخرى فإن تكررت رؤياه مرارا حتى قطع بصحبتها و لم يخالجه الشك فيها جاز أن يدعي النبوة فيما كان حفظا لما تقدمها من شرع و بعثا على العمل بها من بعيد و لم يجز أن يعتد بها في نسخ شرع و لا استئاف شرع و لا تعبد و يجوز أن يعمل على رؤيا نفسه فيما يلتزمه من استئناف شرع و لا يجوز أن يعمل عليها في نسخ ما لزمه من شرع ليكون بها ملتزما و لا يكون بها مسقطا .
شروط خطاب الرسول لأمته : .
و أما خطاب الرسول لأمته فيما بلغهم من رسالة ربه بعد ظهور معجزته و الإخبار بنبوته و لزومه للأمة فمعتبر بخمسة شروط : .
أحدها : العلم بانتفاء الكذب عنه فيما ينقله عن الله تعالى من خبر أو يؤديه من تكليف كما انتفى عنه الكذب في ادعاء الرسالة و يكون المعجز دليلا على صدقه في جميع ما تضمنه الرسالة .
و الثاني : أن يعلم من حاله أنه لا يجوز أن يكتم ما أمر بأدائه : لأن كتمانه يمنع من التزام رسالته لجواز أن يكتم إسقاط ما أوجب و إن جاز أن يكتم بيانه قبل وقت الحاجة و لا يكون كتمانا .
و الثالث : أن ينتفي عنه ما يقتضي التنفير من قبول قوله لأن الله تعالى حماه من الغلطة لئلا ينفر من متابعته و كان أولى أن لا ينفر عن قبول خطابه .
و الرابع : أن يقترن بخطابه ما يدل على المراد به لينتفي عنه التلبيس و التعمية في أحكام الرسالة حتى يعلم حقوق التكليف و إن جاز تعمية خطابه فيما لم يتضمنه التكليف قد اعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل في أطراف بدر و قال له : ممن أنت ؟ فقال : من ماء فورى عن نسبه بما استبهم على سائله لخروجه عما يؤديه شرعا إلى أمته .
و الخامس : العلم بوجوب طاعته ليعلم بها وجوب أوامره .
و اختلف في طاعته هل وجبت عقلا أو سمعا بحسب اختلافهم في بعثة الرسل هل هو من موجبات العقل أم لا .
خطاب الرسول مفهوم أو مبهم : .
و إذا تكلمت شروط الالتزام لم يخل خطابه من أن يكون مفهوما أو مبهما .
فالمفهوم أربعة : النص و فحوى الكلام و لحن القول : و مفهوم اللفظ و فحوى الكلام ما دل على ما هو أقوى من نطقه و لحن القول ما دل على مثل نطقه و مفهوم اللفظ مأخوذ من معنى نطقه فهذه الأربعة مفهومة المعاني بألفاظها مستقلة بذواتها معلومة المراد بظواهرها فلا احتياج بعد البلاغ إلى بيان .
و أما المبهم فثلاثة : المجمل و المحتمل و المشتبه فأما المجمل فما أخذ بيانه من غيره و لا يدخل العقل في تفسيره فلا يعلم إلا بسمع و توقيف و أما المحتمل فهو ما تردد بين معان مختلفة فإن أمكن الجمع بين جميعها حمل على جميع ما تضمنه و استغني عن البيان إلا أن يرد بالاقتصار على بعضها بيان و إن لم يمكن حملها على الجميع لتنافيها و كان المقصود أحد معانيها فإن أمكن الاستدلال عليه بمخرج الخطاب أو بمشاهدة الحال كان فيه بيان أو تعذر بيانه من هذا الوجه حمل على عرف الشرع فإن تعذر حمل على عرف الاستعمال فإن تعذر حمل على عرف اللغة فإن تعذر فبيانه موقوف على التوقيف و أما المشتبه فما أشكل لفظه و استبهم معناه .
شاهد على المبهم : .
[ روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله إنك تأتينا بكلام لا نعرفه و نحن العرب حقا فقال : رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إن ربي علمني فتعلمت و أدبني فتأدبت ] .
فإن تلوح في المشتبه إشارة إلى معناه جاز أن يكون استنباطه موقوفا على الاجتهاد و إن تجرد عن تجرد عن إشارة كان موقوفا على التوقيف و على الرسول تبليغ بيانه كما كان عليه تبليغ أصله و على من سمعه من الرسول أن يبلغه من لم يسمعه حتى ينتقل إلى عصر بعد عصر على الأبد فيعلمه القرن الثاني من الأول و الثالث من الثاني و كذلك أبدا لتدوم الحجة بهم إلى قيام الساعة و لذلك [ قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ليبلغ الشاهد الغائب ] .
الفرق بين الأنبياء و الرسل : .
فأما الفرق بين الأنبياء و الرسل فقد جاء بهما القرآن جمعا و مفصلا بقول الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } .
و اختلف أهل العلم في الأنبياء و الرسل على قولين : .
أحدهما أن الأنبياء و الرسل واحد فالنبي رسول و الرسول نبي .
و الرسول مأخوذ من تحمل الرسالة و النبي مأخوذ من النبأ و هو الخبر إن همز لأنه مخبر عن الله تعالى و مأخوذه من النبوة إن لم يهمز و هو الموضع المرتفع و هذا أشبه لأن محمدا صلى الله تعالى عليه و سلم قد كان يخاطب بهما .
و القول الثاني : أنهما يختلفان لأن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات و الرسول أعلى منزلة من النبي و لذلك سميت الملائكة رسلا و لم يسموا أنبياء .
و اختلف من قال بهذا في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل : .
أحدها : أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي و النبي هو الذي يوحى إليه في نومه .
و القول الثاني : أن الرسول هو المبعوث إلى أمة و النبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة قاله قطرب .
و القول الثالث : أن الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع و الأحكام و النبي هو : الذي يحفظ شريعة غيره قاله الجاحظ .
وجوب البلاغ و زمانه : .
و إذا نزل الوحي على الرسول و عين له زمان الإبلاغ لم يكن له تقديمه عليه و لا تأخيره عنه و إن لم يعين له زمانه فعليه تبليغه في أول أوقات إمكانه فإن خاف من تبليغ ما أمر به شدة الأذى و عظم الضرر لزمه البلاغ و لم يكن الأذى عذرا له في الترك و التأخير لأن الأنبياء يتكلفون من احتمال المشاق ما لا يتكلفه غيرهم لعظم منزلتهم و ما أمدوا به من القوة على تحمل مشاقهم .
و إن خاف منه القتل فقد اختلف المتكلمون في وجوب البلاغ فذهب بعضهم إلى اعتبار أمره البلاغ فإن أمر به مع تخوف القتل لزمه أن يبلغ و إن قتل و إن أمر به مع الأمن لم يلزمه البلاغ إذا خاف القتل و ذهب آخرون منهم إلى اعتبار حاله فإن لم يبق عليه من البلاغ سوف ما يخاف منه القتل .
فإن لم يكن الأمر بالبلاغ مرتبا لزمه أن يقدم بلاغ ما يأمن منه القتل ثم يبلغ ما يخاف منه القتل فإن قتل فإن كلام الأمر البلاغ مرتبا بابتداء ما يخاف منه القتل فإن الله تعالى يعصمه من القتل حتى يبلغ جميع ما أمر به لما تكفل به من إكمال دينه و الله تعالى أعلم