قال الله تعالى : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين * ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين * ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين * إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين * والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } .
وقال تعالى : { وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا * ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به * وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى * قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن آدم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي * قال فما خطبك يا سامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا * إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } .
يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه فمكث على الطور يناجيه ربه ويسأله موسى عليه السلام عن أشياء كثيرة وهو تعالى يجيبه عنها .
فعمد رجل منهم يقال له هارون السامري فأخذ ما كانوا استعاروه من الحلي فصاغ منه عجلا وألقي فيه قبضة من التراب كان أخذها من أثر فرس جبريل حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه فلما ألقاها في فيه خار كما يخوار العجل الحقيقي ويقال إنه استحال عجلا جسدا أي لحما يخور ودما حيا يخور قاله قتادة وغيره وقيل بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة فيرقصون حوله ويفرحون .
{ فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي } أي فنسى موسى ربه عندنا وذهب يتطلبه وهو هاهنا ! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وتقدست أسماؤه وصفاته وتضاعفت آلاؤه وهباته .
قال الله تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما أو شيطانا رجيما : { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } وقال : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } .
فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جوابا ولا يملك ضرا ولا نفعا ولا يهدى إلى رشد اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم عالمون في أنفسم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال .
{ ولما سقط في أيديهم } أي ندموا على ما صنعوا { ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } .
ولما رجع موسى عليه السلام إليهم ورأى ما هم عليهم من عبادة العجل ومعه الألواح المتضمنة التوراة ألقاها فيقال إنه كسرها وهكذا هو عند أهل الكتاب وإن الله أبدله غيرها وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين .
وعند أهل الكتاب : أنهما كانا لوحين وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل فأمره بمعاينة ذلك .
ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد و ابن حبان عن ابن عباس قال : قال رسول الله A : [ ليس الخبر كالمعاينة ] .
ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح فاعتذوا إليه بما ليس بصحيح قالوا : إنا { حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقي السامري } تحرجوا من تملك حلى آل فرعون وهم أهل حرب وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الذي له خوار مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار ! .
ثم أقبل على أخيه هارون عليهما السلام قائلا له : { يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن } أي هلا لما أرأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا فقال : { إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل } أي تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم .
{ قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين } وقد كان هارون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي وزجرهم عنه أتم الزجر .
قال الله تعالى : { ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به } أي إنما قدر الله أمر هذا العجل وجعله يخور فتنة واختبارا لكم { وإن ربكم الرحمن } أي لا هذا { فاتبعوني } أي فيما أقول لكم { وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } يشهد الله لهارون عليه السلام { وكفى بالله شهيدا } أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه .
ثم أقبل موسى على السامري { قال فما خطبك يا سامري } أي ما حملك على ما صنعت ؟ { قال بصرت بما لم يبصروا به } أي رأيت جبريل وهو راكب فرسا : { فقبضت قبضة من أثر الرسول } أي من أثر فرس جبريل وقد ذكر بعضهم أنه رآه وكلما وطئت بحوافرها على موضع أخضر وأعشب فأخذ من أثر حافرها فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب كان من أمر ما كان ولهذا قال : { فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } وهذا دعاء عليه بألا يمس أحدا معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه هذا معاقبة له في الدنيا ثم توعده في الأخرى فقال : { وإن لك موعدا لن تخلفه } وقرئ : { لن نخلفه } { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا } قال : فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل فحرقه : قيل : بالنار كما قاله قتادة وغيره وقيل بالمبادر كما قاله علي وابن عباس وغيرهما وهو نص أهل الكتاب ثم ذراه في البحر وأمر بني إسرائيل فشربوا فمن كان من عابديه علق في شفاههم من ذلك الرماد ما يدل عليه وقيل بل اصفرت ألوانهم .
ثم قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لهم : { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } .
وقال تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } وهكذا وقع وقد قال بعض السلف : { وكذلك نجزي المفترين } مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة .
ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه بتوبته عليه فقال : { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } .
لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل كما قال تعالى : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم } فيقال إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف وألقى الله عليهم ضبابا حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا .
ثم قال تعالى : { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } استدل بعضهم بقوله : { وفي نسختها } على أنها تكسرت وفي هذا الإستدلال نظر وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت والله أعلم .
وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي : أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر وما هو ببعيد لأنهم حين خرجوا : { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } وهكذا عند أهل الكتاب فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف ثم ذهب موسى يستغفر فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة .
{ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
ذكر السدي وابن عباس وغيرهما أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرإئيل ومعهم موسى وهارون ويوشع وناذاب وأبيهو ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعود النور ساطع صعد موسى الجبل .
فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام الله وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين وحملوا عليه قوله تعالى : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } .
وليس هذا بلازم لقوله تعالى : { فأجره حتى يسمع كلام الله } أي مبلغا وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغا من موسى عليه السلام .
وزعموا أيضا أن السبعين رأوا الله وهذا غلط منهم لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة كما قال تعالى : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } وقال هاهنا : { فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } .
قال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه بما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم .
فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله فقال : أفعل .
فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشي الجبل كله ودنا موسى فدخل في الغمام وقال للقوم : ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليه فقالوا : { يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فأتلفت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فإنا براء مما عملوا .
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج : إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل وقوله : { إن هي إلا فتنتك } أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف يعني أنت الذي قدرت هذا وخلقت ما كان من أمر العجل اختبارا تختبرهم به كما : { قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به } أي اختبرتم .
ولهذا قال : { تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } أي من شئت أضللته باختبارك إياه ومن شئت هديته لك الحكم والمشيئة ولا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت .
{ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك } أي تبنا إليك ورجعنا وأنبنا قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية وإبراهيم التيمي والضحاك والسدي وقتادة وغير واحد وهو كذلك في اللغة .
{ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء } أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها .
{ ورحمتي وسعت كل شيء } كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله A أنه قال : [ إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي ] { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } أي فسأوجبها حتما لمن يتصف بهذه الصفات : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } الآية .
وهذا فيه تنويه بذكر محمد A وأمته من الله لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع ولله الحمد والمنة .
وقال قتادة : قال موسى : يارب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رب اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم قال : رب اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فضول الضلالة حق يقاتلوا الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم قال : رب فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال : رب اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
قال : رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
قال قتادة : فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال : اللهم اجعلني من أمة أحمد .
وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه وحسن هدايته ومعونته وتأييده .
قال الحافط أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه : " ذكر سؤال كليم الله ربه D عن أدني أهل الجنة وأرفعهم منزلة " أخبرنا عمر بن سعيد الطائي ببلخ حدثنا حامد ابن يحيى البلخي حدثنا سفيان حدثنا مطرف بن طريف وعبد الله بن أبجر شيخان صالحان قالا : سمعنا الشعبي يقول : سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر عن النبي A : [ إن موسى عليه السلام سأل ربه D : أي أهل الجنة أدنى منزلة ؟ فقال : رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة فيقول : كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخاذاتهم ؟ فيقال له : أترضي أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : نعم أي رب فيقال : لك هذا ومثله معه فيقول : أي رب رضيت فيقال له : لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك وسأل ربه : أي أهل الجنة أرفع منزلة ؟ قال : سأحدثك عنهم غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ] .
ومصداق ذلك في كتاب الله D : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } .
وهكذا رواه مسلم و الترمذي كلاهما عن ابن عمر عن سفيان - وهو ابن عيينة - به ولفظ مسلم : [ فيقال له : أترضي أن يكون لك مثل ملك ملوك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : رضيت رب فيقال له : لك ذلك ومثله ومثله ومثله فيقول في الخامسة : رضيت رب فيقال : هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول : رضيت رب قال : رب فأعلاهم منزلة ؟ قال : أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ] .
قال : ومصداقه من كتاب الله : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } .
وقال الترمذي : حسن صحيح : قال : ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة فلم يرفعه والمرفوع أصح .
وقال ابن حبان : " ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع " : حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم ببيت المقدس حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا السمح حدثه عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي A أنه قال : [ سأل موسى ربه D عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة والسابعة لم يكن موسى يحبها .
قال : يارب أي عبادك أتقي ؟ قال : الذي يذكر ولا ينسى قال : فأي عبادك أهدى ؟ قال : الذي يتبع الهدى قال : فأي عبادك أحكم ؟ قال : الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال : فأي عبادك أعلم قال : عالم لا يشبع من العلم يجمع علم الناس إلى علمه قال : فأي عبادك أعز ؟ قال : الذي إذا قدر غفر قال : فأي عبادك أغني ؟ قال : الذي يرضي بما يؤتي قال : فأي عبادك أفقر ؟ قال : صاحب منقوص ] .
وقال رسول الله A : [ ليس الغني عن ظهر إنما الغني غني النفس وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه وإذا أراد بعبد شرا جعل فقره بين عينيه ] .
قال ابن حبان : قوله : " صاحب منقوص " يريد به منقوص حالته يستقل ما أوتي ويطلب الفضل .
وقد رواه ابن جرير في تاريخه عن ابن حميد عن يعقوب التميمي عن هارون بن هبيرة عن أبيه عن ابن عباس قال : سأل موسى ربه D فذكر نحوه وفيه : " قال : أي رب فأي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يجد كلمة تهديه إلى الهدى أو ترده عن ردي قال : أي رب فهل في الأرض أحد أعلم مني ؟ قال : نعم الخضر فسأل السبيل إلى لقياه فكان ما سنذكره بعد إن شاء الله وبه الثقة .
* * * .
ذكر حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي A أنه قال : [ إن موسى قال : أي رب عبدك المؤمن مقتر عليه في الدنيا ؟ قال : ففتح له باب من الجنة فنظر إليها قال : يا موسى هذا ما أعددت له فقال موسى : يارب وعزتك وجلالك لو كان مقطع اليدين والرجلين يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير بؤسا قط قال : ثم قال : أي رب عبدك الكافر موسع عليه في الدنيا قال : ففتح له باب إلى النار فقال : يا موسى : هذا ما أعددته له فقال موسى : أي رب وعزتك وجلالك لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير خيرا قط ] .
تفرد به أحمد من هذا الوجه وفي صحته نظر والله أعلم .
وقال ابن حبان : " ذكر سؤال كليم الله ربه جل وعلا أن يعلمه شيئا يذكره به " حدثنا ابن سلمة حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي A أنه قال : [ قال موسى : يارب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال : قل يا موسى : لا إله إلا الله قال : يارب كل عبادك يقول هذا قال : قل لا إله إلا الله قال : إنما أريد شيئا تخصني به قال : يا موسى لو أن أهل السموات السبع والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله ] .
ويشهد لهذا الحديث حديث البطاقة وأقرب شيء إلى معناه الحديث المروي في السنن عن النبي A أنه قال : [ أفضل الدعاء دعاء عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ] .
وقال ابن أبي حاتم عند تفسير آية الكرسي : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد ابن عبد الرحمن الدسكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى هل ينام ربك ؟ قال : اتقوا الله ! فناداه ربه D : يا موسى سألوك هل ينام ربك ؟ فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلثه نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال : يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك ! قال : وأنزل الله على رسوله آية الكرسي .
وقال ابن جرير : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله A يحكى عن موسى عليه السلام على المنبر قال : [ وقع في نفس موسى عليه السلام هل ينام الله D ؟ فأرسل الله ملكا فأرقه ثلاثة ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما .
قال : فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان قال : ضرب الله له مثلا : أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض ] .
وهذا حديث غريب رفعه والأشبه أن يكون موقوفا وأن يكون أصله إسرائيليا .
* * * .
وقال الله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم توليتم من بعد ذلك فولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين } وقال تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } .
قال ابن عباس وغير واحد من السلف : لما جاءهم موسى بالألواح فيها التوراة أمرهم بقبولها والأخذ بها بقوة وعزم فقالوا : أنشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها .
فقال : بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مرارا فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه ظلة - أي غمامة - على رءوسهم وقيل لهم إن لهم تقبلوها بما فيها وإلا سقط هذا الجبل عليكم فقبلوا ذلك وأمروا بالسجود فسجدوا فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة لليهود إلى اليوم يقولون : لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب .
وقال سنيد بن داود عن حجاج بن محمد عن أبي بكر بن عبد الله قال : فلما نشرها لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز فليس على وجه الأرض يهودي صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه .
قال الله تعالى : { ثم توليتم من بعد ذلك } أي ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم والأمر الجسيم نكثتهم عهودكم ومواثيقكم { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } بأن تدارككم بالإرسال إليكم وإنزال الكتب عليكم { لكنتم من الخاسرين }