فهم بدفع عتبة إليه فجزعت وقالت : يا أمير المؤمنين حرمتي وخدمتي ! .
أفتدفعني إلى رجلٍ قبيح المنظر بائع جرار متكسب بالشعر ؟ فأعفاها وقال : املأوا له البرنية مالاً ! .
فقال للكتاب : أمر لي بدنانير ! .
فقالوا : ما ندفع ذلك إليك ولكن إن شئت أعطيناك دراهم . إلا أن يفصح بما أراد . فاختلف في ذلك حولاً فقالت عتبة : لو كان عاشقاً كما يزعم لم يكن يختلف منذ حول في التمييز بين الدراهم والدنانير وقد أعرض عن ذكري صفحاً . وقال في عمر بن العلاء من الكامل : .
إنّي أمنِتُ من الزمان وصرفه ... لمّا علقتُ من الأميرِ حِبالا .
لو يستطيع الناس من إجلاله ... تَخِذوا له حرَّ الخدود نِعالا .
إنّ المطايا تشتكيك لأنّها ... قطعتْ إليك سباسباً ورِمالا .
فإذا وَرَدْت بنا وَرَدْنَ خفائفاً ... وإذا صَدَرْنَ بنا صَدَرْنَ ثقالا .
فأبطأ بره عنه قليلاً فكتب إليه من الطويل : .
أصابت علينا جودَك العينُ يا عمرْ ... فنحن لها نبغي التمائمَ والنُّشَرْ .
سنرقيك بالأشعار حتى تملّها ... وإن لم تُفِقْ منها رقيناك بالسُّوَرْ .
فأعطاه سبعين ألف درهم وخلع عليه حتى عجز عن القيام فغار الشعراء لذلك فجمعهم ثم قال : يا معشر الشعراء عجباً لكم ! .
ما أشد حسدكم بعضاً لبعض ! .
إن أحدكم يأتينا يمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته خمسين بيتاً فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره وقد أتانا أبو العتاهية فشبب بأبيات يسيرة ثم قال : وأنشد الأبيات . وقال أشجع السلمي : أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه فدخلنا وأمرنا بالجلوس . فاتفق أن جلس إلى جانبي بشار بن برد وسكت المهدي . وسمع بشار حساً فقال لي : من هذا ؟ فقلت : أبو العتاهية . فقال : أتراه ينشد في هذا المحفل ؟ فقلت : أحسبه سيفعل . قال : فأمره المهدي أن ينشد فأنشد من المتقارب : .
ألا ما لسيّدتي ؟ ما لها ... تُدِلّ وأَحمِلُ إدلالها .
وإلاّ ففيم تجنَّتْ ولا ... جنيتُ سقى الله أطلالها .
ألا إنّ جاريةً للإما ... م قد أسكن الحسنُ سربالَها .
مشت بين حورٍ قصار الخطا ... تُجاذبِ في المشي أكفالها .
وقد أتْعب الله نفسي بها ... وأتعبَ باللوم عُدّالها .
فقال بشار : ويحك يا أخا سليم : ما أدري من أي أمريه أعجب : أمن ضعف شعره أم تشبيبه بجارية الخليفة ويسمعه ذلك بإذنه ! .
حتى أتى على قوله من المتقارب : .
أتته الخلافة منقادة ... إليه تُجرِّر أذيالها .
فلم تك تصلح إلاّ له ... ولم يك يصلح إلاّ لها .
ولو رامها أحدٌ غيرهُ ... لزُلزِلت الأرض زلزالَها .
ولو لم تُطِعْه بناتُ القلوب ... لما قَبِل الله أعمالها .
وإن الخليفةَ من بُغضِ لا ... إليه لَيُبْغِضُ مَن قالها .
فقال بشار : ويحك يا أشجع هل طار الخليفة عن فرشه ؟ قال أشجع : فو الله ما انصرف أحد عن ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية . ونسك آخر عمره وقال في الزهد أشعاراً كثيرة . وقد عجز الرواة أن يضبطوا شعر بشار بن برد والسيد الحميري وأبي العتاهية لكثرة أشعارهم . ولقب أبا العتاهية لاضطراب كان فيه وقيل : بل كان يحب الخلاعة والمجون فلقب بذلك لعتوه . وكان أبو نواس يعظمه ويخضع له ويقول : والله ما رأيته إلا أني أرضي وأنه سماوي . وحكي أن أباه كان حجاماً ولذلك قال من الطويل : .
ألا إنّما التقوى هي العزم والكرَمْ ... وحبّك للدنيا هو الفقر والعدّمْ .
وليست على عبدٍ تقيّ نقيصةٌ ... إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجمْ .
ومن شعره من الطويل : .
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه ... تملّكه المالُ الذي هو مالكُهُ .
ألا إنّما مالي الذي أنا منفقٌ ... وليس ليَ المال الذي أنا تاركُهُ .
إذا كنتَ ذا مالٍ فبادِرْ به الذي ... يحقُّ وإلاّ استهلكَتْه مَهالكُهُ