فقيل له لما أنشد هذه الأبيات : كيف تقول هذا وتحبس عندك سبعاً وعشرين بدرة في دارك لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ؟ فقال : لهو الحق ولكني أخاف الفقر والحاجة ولقد أشتري من عيد إلى عيد ولقد اشتريت في يوم عاشوراء لحماً وتوابله بخمسة دراهم . وكان له جار ضعيف الحال جداً متجمل يلتقط النوى وكان يمر بأبي العتاهية فيقول : اللهم أعنه على ما هو بسبيله ! .
ويدعو له إلى أن مات الشيخ نحواً من عشرين سنة ولم يزده على الدعاء شيئاً فقيل له : يا أبا إسحاق نراك تكثر الدعاء لذلك الشيخ وتزعم أنه فقير معيل فلم لا تتصدق عليه بشيء ؟ فقال : أخشى أن يعتاد الصدقة والصدقة آخر مكاسب العبد وإن في الدعاء لخيراً كثيراً .
وقال محمد بن عيسى الحرقي وكان جاراً لأبي العتاهية قال : كان سائل من العيارين الظرفاء وقف على أبي العتاهية وجماعة جيرانه حوله فسأله فقال : صنع الله لك ! .
فأعاد السؤال ورد مثل ذلك فأعاد الثالثة فرد مثل ذلك فغضب وقال : ألست الذي يقول من المديد : .
كلّ حيٍ عند ميتته ... حظُّه من ماله الكفنُ .
قال : نعم . قال : فبالله أتريد أن تعد مالك كله لثمن كفنك ؟ قال : لا . قال : بالله كم قدرت لكفنك ؟ قال : خمسة دنانير . قال : هي حظك إذاً من مالك ؟ قال : نعم . قال : فتصدق علي من غير حظك بدرهم واحد ! .
قال : لو تصدقت عليك لكان حظي . قال : فاعمل على أن ديناراً من الخمسة وضيعته قيراط وادفع إلي قيراطاً واحداً وإلا فواحدة أخرى ! .
قال : وما هي ؟ قال : القبور تحفر بثلاثة دراهم فأعطني درهماً وأقيم لك كفيلاً بأني أحفر لك قبرك متى مت وتربح درهمين لم يكونا في حسابك فإن لم أحفر لك رددته على ورثتك أو رده كفيلي عليهم . فخجل أبو العتاهية وقال : اغرب قبحك الله وغضب عليك ! .
وضحك جميع من حضر ومر السائل يضحك فالتفت إلينا أبو العتاهية وقد اغتاظ فقال : من أجل هذا وأمثاله حرمت الصدقة ! .
فقلنا له : من حرمها ومتى حرمت ؟ فما رأينا أحداً ادعى أن الصدقة حرمت قبله ولا بعده .
ولما حضرته الوفاة قال : أشتهي أن يجيء مخارق ويغني عند رأسي من الطويل : .
إذا ما انقضتْ عنّي من الدهر مدّتي ... فإنّ عزاء الباكيات قليلُ .
سيُعرَض عن ذكري وتُنْسى مودّتي ... ويحدث بعدي للخليل خليلُ .
والبيتان له من جملة أبيات : وأوصى أن يكتب على قبره من الخفيف : .
إنّ عيشاً يكون آخرهُ المو ... ت لَعيشٌ معجَّلُ التنغيص .
وكانت ولادته سنة ثلاثين ومائة ووفاته سنة ثلاث عشرة ومائتين وقيل : سنة إحدى عشرة ومائتين . وأخباره مستقصاة في كتاب الأغاني .
أبو علي القالي