ولما قدم من طبرستان إلى بغداد تعصب عليه أبو عبد الله ابن الجصاص وجعفر ابن عرفة والبياضى وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل يوم الجمعة في الجامع وعن حديث الجلوس على العرش فقال أبو جعفر أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافة فقالوا له : فقد ذكره العلماء في الاختلاف فقال : ما رأيته روى عنه ولا رأيت له أصحابا يعول عليهم وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد : .
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس .
فلما سمعوا ذلك وثبوا ورموه بمحابرم وقد كانت الوفا فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه وكان قد كتب على بابه البيت المتقدم فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث : .
لأحمد منزل لا شك عال ... إذا وافى إلى الرحمن وافد .
فيدنيه ويقعده كريما ... على رغم لهم في أنف حاسد .
على عرش يغلفه بطيب ... على الأكبار يا باغ وعاند .
إلا هذا المقام يكون حقاً ... كذاك رواه ليث عن مجاهد .
فخلا في داره وعمل كتاب المشهور في الاعتذار إليهم وذكر مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات فوجدوه مدفونا في التراب فأخرجوه ونسخوه .
ابن جعفر .
محمد بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم كان مع أخيه محمد بن أبي بكر الصديق فلما هزم ابن أبي بكر اختفى فدل عليه رجل من عك ثم من غافق فلحق بفلسطين فلجأ إلى رجل من أخواله خثعم فأرسل معوية إليه أن يوجه به إليه فمنعه فقال محمد : .
لو لم تلدني الخثعمية لم يكن ... لصهري جد في قريش ولا ذكر .
لعمري للحيان عك وغافق ... أذل لوطئ الناس من خشب الجسر .
أجرتم فلما أن أجرتم غدرتم ... ولن تجد العكى إلا على غدر .
محمد بن جعفر بن عبيد الله بن العباس كان صاحب مروءة وفضل متصديا لقضاء حوايج الناس جوادا عاقلا سمحا وكانت له من المنصور منزلة ويعجب به ويلتذ بمحادثته وكان مكانته من المنصور يفزع الناس إليه بحوايجهم فلما افرط في ذلك حجبه المنصور عنه أياما ثم اشتاق إلى محادثته فقال يا ربيع أن جميع اللذات عندي قد اخلقن إلا محادثة محمد ومؤانسته وقد كدرها علي بما يحملني من حوايج الناس فاحتل عليه لعله يقصر من ذلك فجاء الربيع إلى محمد وعاتبه واتفقا على أنه لا يحمل لأحد قصته فلما غدا إلى المنصور بلغ الناس خبره فوقف له أرباب الحوايج على الطرق وبايديهم الرقاع فاعتذر إليهم فالحوا عليه فقال لست اكلم أمير المؤمنين في حاجة فإن أحببتم أن تودعوا رقاعكم كمى فافعلوا فقذفوا بالرقاع في كمه ودخل على المنصور وهو في القبة فعاتبه وتحادثا ساعة وكان المنصور يشرف على دجلة والفرات والبساتين والمزارع فقال له ما ترى ما أحسن مشترفنا فقال محمد يا أمير المؤمنين ما بنت العرب والعجم في الإسلام والكفر مدينة احسن منها ولا أحصن ولا اجمع لخصال الخير لكن ليس لي فيها ضيعة فقال اقطعتك ثلث ضياع في اكنافها فاغد على أمير المؤمنين ليسجل لك بها فبينا هو يحادثه إذ بدت الرقاع من كمه فضحك المنصور فقال له ما هذه فاخبره الخبر فقال له المنصور أبيت يا ابن معلم الخير إلا كرماً ثم أمره فنثرها بين يديه فوقع عليها وقضى حوايج أربابها وتمثل بقول الشاعر : .
لسنا وإن احسابنا كرمت ... يوماً على الإحساب نتكل .
نبنى كما كانت أوايلنا ... تبنى وتفعل مثل ما فعلوا .
توفي محمد سنة اثنتين وستين وماية