وكان الصاحب محيي الدين يترسل جيداً من ذلك ما كتبه إلى أخيه الصاحب عماد الدين وقد طلب منه شيئاً من ملبوسه وهو : أين أنت مما نحن فيه أكتب إليك وتكتب إلي والغفلة شاملة والحيرة سابغة وقد رين على القلوب وزاد الوله حتى إلهي العقول وفاض حتى أعشى الأبصار لقد كما في غفلة من هذا فوا عجبا كيف لا ينفطر ما لا أسميه وينشق لكثرة ما أحوم حول القول فيه ولا أوفيه إن شرحت فاضت نفوس فضلاً من عيون وترامت إلى مهاوي الإثم فيه ظنون ولو أبديت بعضه أخاف أن يفطن بعض الناس ولو أفضت أخشى أن لا يحمله سمع ولا يسمع قرطاس والرضا بالقضاء يمنع من استبطاء مقدر اللقاء ومن غرائب هذه الحال أنك تكون في شرق الأرض وأكون في غربها فتستدرج الآمال الأجسام حتى تجعلها كقاب قوسين أو أدنى ثم يفطن بنا الزمان فيجعل أجسامنا سهاماً ويرمينا بقوسه إلى البعد الأقصى : .
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يجتمعان .
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان .
ولقد عام السابح في بحر الفكر ليستخرج من قعره ما يستعين به على هذا الدهر فلم ير إلا أثراً بعد عين فبعث شعاراً بليه واستدعى دثاراً من ساميه لتيلاقى فيها جسوم ما تلاقى قانعاً في الوقت الحاضر بقليل هو كثير راجياً من الله جمع الشمل وهو على جمعهم إذا يشاء قدير .
فليت هوى الأحبة كان عدلاً ... فحمل كل قلب ما أطاقا .
وبالجملة أليس إذا صار المرء في غامض علمه يقال من حيث الصورة كان أمل بطانته وظهارته أن يصل منه نبأ يقر العين ويسر السمع ويبهج النفس من كونه في نعيم وفي غرف من علتين وفي جنة عالية قطوفها دانية وأكلها دائم وبين أشجار وأنهار وأثمار وفي جنات ونهر في مقعهد صدق عند مليك مقتدر فصاحبكم وبعيدكم في هذه الحالة يتقلب وفي هذه النعمة يصلكم خبر التواتبر عنه بهذه الخطوة فليرض بهذا المقدار في الاجتماع واحسبوه في غامض علم الله تعالى من حيث المعنى ولما توجه فلذة الكبد وسر الروح وسواد الناظر وسويداء القلب وشارفنا ثنايا الوداع أهملت مشروع التشييع حذراً أن تفيض عيون وتتقرح جفون ويظهر مكتوم وتلجي ضرورة إلى ما لا يليق بذوي المراير الأبية واللحايز العظيمة : .
ولما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع الأسرار قلت لها قفى .
مخافة أن يسطو علي دخيلها ... فيظهر مني بعض ما كان قد خفي .
والله المشكور وبه المستعان في جميع الأمور وهو الخليفة عليكم لي وعلي لكم والسلام .
ابن الجنان الشاطبي .
محمد بن محمد كذا قرأته على الشيخ أثير الدين أبي حيان وأخبرني الشيخ شمس الدين الذهبي ومن خطه نقلت أنه محمد بن سعيد بن محمد بن هشام بن الجنان بتشديد النون بعد الجيم الشيخ فخر الدين أبو الوليد الكناني الشاطبي الحنفي ولد سنة خمس عشرة وست مائة بشاطبة وقدم الشأم وصحب الصاحب كمال الدين ابن العديم وولده فاجتذباه بإحسانهما ونقلاه من مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة ودرس بالإقبالة وكان أديباً فاضلاً وشاعراً محسناً وكان يخالط الأكابر وفيه حسن العشلارة والمزاح توفي سنة خمس وسبعين وست مائة أخبرني الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس : قال أخبرني والدي قال كنا عند القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان وهو ينوب في الحكم بالقاهرة والشيخ فخر الدين ابن الجنان حاضر وهو إلى جانبي فأنشد أبياتاً له وهي : .
عرف النسيم بعرفكم يتعرف ... وأخو الغرام بحبهم يتشرف .
شرف المتيم في هواهم أنه ... طوراً يبوح وتارة يتلهف .
لطفت معانيه فهب مع الصبا ... فرقيبه بهبوبه لا يعرف .
وإذا الرقيب درى به فلأنه ... أخفى لديه من النسيم وألطف .
ولأنه يعدو النسيم ديارهم ... ولها على تلك الربوع توقف .
فقال القاضي شمس الدين : يا شيخ فخر الدين لطّفته لطفته إلى أن عاد لا شيء فالتفت إلي وقال بلسانه الكاضي حمار هوّس مالو ذوك شي يعني القاضي حمار ماله ذوق وأنشدني له الشيخ أثير الدين أبو حيان : .
أفناني القبض عني ... حتى تلاشى وجودي .
وجاءني البسط يحيى ... روحي بفضل وجودي .
فقلت للنفس شكراً ... لذاك بالنفس جودي