لن تستطيعَ أن تحوِّلَ قلوبَهُم عمَّا هي عليه من الإِباء ولا تملِكُ أن تُوقعَ الإِيمانَ في نفوسِهم مع إصرارِهم على كُفْرهم واستمرارِهم على جَهْلِهم وصدِّهم بأسْماعِهم عما تقولُه لهم وتتلوه عليهم . كان اللائقُ بهذا أن يُجعَلَ حالُ النبيِّ حالَ مَن قد ظَنَّ أنه يَمْلكُ ذلكَ ومَنْ لا يَعْلَمُ يقينا أنه ليس في وُسْعِه شيءٌ أكثرُ من أن ينذِرَ ويحذِّر . فأخرجَ اللفظ مُخْرَجَه إذا كان الخطابُ مع مَنْ يَشُكُّ فقلَ : ( إنْ أنتَ إلا نذيرٌ ) ويبينُ ذلك أنك تقول للرجل يطيلُ مناظرةَ الجاهل ومُقاولَته : إنك لا تستطيعُ أن تُسمعَ الميِّتَ وأن تُفهمَ الجمادَ وأن تُحوِّل الأعمى بصيرا وليس بيدك إلا أن تُبَيِّنَ وتحتجَّ ولستَ تملكُ أكثرَ من ذلك لا تقولُ هاهُنا : فإنَّما الذي بيدك أن تُبَيِّنَ وتحتجَّ . ذلك لأنك لم تَقُلْ له : إنك لا تستطيع أن تُسمِعَ الميِّتَ حتى جعلتَه بمثابَةِ مَن يظنُّ أنه يملك وراء الاحتجاج والبيانِ شيئاً . وهذا واضحٌ فاعرفْه . ومثلُ هذا في أنَّ الذي تقدَّم منَ الكلام اقتضى أن يكونَ اللفظُ كالذي تراهُ من كونِه بإن وإلا قولُه تعالى : ( قُلْ لا أملِكُ لنفسي نَفْعاً ولا ضَراًّ إلا ما شاءَ اللهُ ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثَرْتُ منَ الخيرِ وما مَسَّنيَ السُّوءُ إنْ أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون ) .
فصل هذا بيان آخرُ في " إنما " .
اعلمْ أنها تفيدُ في الكلام بعدَها إيجابَ الفعل لشيءٍ ونفيَه عن غيرِه . فإذا قلتَ : إنما جاءني زيدٌ عُقِلَ منه أنك أردتَ أن تنفيَ أن يكونَ الجائي غيرَه . فمعنى الكلامِ معها شبيهٌ بالمعنى في قولِك : جاءني زيدٌ لا عمرٌو إلا أنَّ لَهَا مَزيّةً وهي أنك تعقِلُ معها إيجابَ الفعل لشيءٍ ونفيَه عن غيرِه دفعةً واحدة وفي حالٍ واحدةٍ . وليس كذلك الأمرُ في : جاءني زيدٌ لا عمرٌو . فإنَّك تعقِلُهما في حالين . ومزيّةً ثانيةً وهي أنها تجعلُ الأمرَ ظاهراً في أن الجائي زيدٌ ولا يكونُ هذا الظهورُ إذا جعلتَ الكلامَ بلا فقلتَ : جاءني زيدٌ لا عمرُو .
ثم اعلمْ أن قولَنا في " لا " العاطفة : إنها تَنفي عن الثاني ما وجبَ للأوَّل ليس المرادُ به أنها تنفي عن الثاني أنْ يكون قد شارك الأولَ في الفعل بل إنها تنفي أن يكونَ الفعلُ الذي قلتَ إنه كانَ من الأول قد كان مِنَ الثاني دونَ الأول . ألاَ ترى أنْ ليس المعنى