76 - { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } الآية قال أهل التفسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه يقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام .
وقال السدي : رأى نمرود في منامة كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشرة رجال رجلا فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض فإذا طهرت حال بينهما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم عليه السلام .
وقال محمد بن إسحق : بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية حديثة السن لم يعرف الحبل في بطنها وقال السدي : خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلا آزر فبعث إليه ودعاه وقال له : إن لي حاجة أحببت أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى وقعها فحملت بإبراهيم عليه السلام .
وقال ابن عباس Bهما : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت أمه تختلف إليه فترضعه .
وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه .
قال أبو روق : وقالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء ومن أصبع لبنا ومن أصبع عسلا ومن أصبع تمرا ومن أصبع سمنا .
وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل ؟ فقالت : ولدت غلاما فمات فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمه أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي الذي مالي إله غيره ثم نظر إلى السماء فرأى كوكبا فقال : هذا ربي ثم أتبعه ببصره لينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين ثم رأى القمر بازغا قال هذا ربي وأتبعه ببصره حتى غاب ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهه وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك فأخبره أنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا .
وقيل : إنه كان في السرب سبع سنين وقيل : ثلاث عشرة سنة وقيل : سبع عشرة سنة قالوا : فلما شب إبراهيم عليه السلام وهو في السرب قال لأمه : من ربي ؟ قالت : أنا قال : فمن ربك ؟ قالت : أبوك قال : فمن رب أبي ؟ قالت : نمرود قال فمن ربه ؟ قالت له : اسكت فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم عليه السلام : يا أبتاه من ربي ؟ قال : أمك قال : فمن رب أمي ؟ قال : أنا قال : فمن ربك ؟ قال : نمرود قال : فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال له : اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا قال : هذا ربي .
ويقال إنه قال لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذه ؟ فقال : إبل وخيل وغنم فقال : ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال : الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فيها فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله D { فلما جن عليه الليل } أي : دخل يقال : جن الليل وأجن الليل وجنه الليل وأجن عليه الليل يجن جنونا وجنانا إذا أظلم وغطى كل شيء وجنون الليل سواده { رأى كوكبا } قرأ أبو عمرو { رأى } بفتح الراء وكسر الألف ويكسرهما ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر وفتحهما الآخرون { قال هذا ربي } .
واختلفوا في قوله ذلك : فأجراه بعضهم على الظاهر وقالوا : كان إبراهيم عليه السلام مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حال الاستدلال وأيضا كان ذلك في حال طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرا .
وأنكر الآخرون هذا القول وقالوا : لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه برئ وكيف يتوهم هذا على من عصمة الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأخبر عنه فقال : { إذ جاء ربه بقلب سليم } ( الصافات 84 ) وقال : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكبا قال : هذا ربي معتقدا ؟ فهذا مالا يكون أبدا .
ثم قالوا : فيه أربعة أوجه من التأويل : .
أحدها : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدعون ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثر من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره فقال : الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون فأسلموا .
والوجه الثاني من التأويل : أنه قال على وجه الاستفهام تقديره : أهذا ربي ؟ كقوله تعالى { أفإن مت فهم الخالدون } ( الأنبياء 34 ) ؟ أي : أفهم الخالدون ؟ وذكره على وجه التوبيخ منكرا لفعلهم يعني : ومثل هذا يكون ربا أي : ليس هذا ربي .
والوجه الثالث : أنه على وجه الاحتجاج عليهم يقول : هذا ربي بزعمكم ؟ فلما غاب قال : لو كان إلها لما غاب كما قال : [ { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ( الدخان 49 ) أي : عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى أنه قال : ] { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه } ( طه 97 ) يريد إلهك بزعمك .
والوجه الرابع : فيه إضمار وتقديره يقولون هذا ربي كقوله { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا } ( البقرة 127 ) أي : يقولون ربنا تقبل منا { فلما أفل قال لا أحب الأفلين } ومالا يدوم