@ 154 @ غربة في بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم . فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدّخر ، ولا تروّي في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا تنظر في إدخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر . والإدخار جاء في حديث : ( كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين ؟ ) قيل : ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى . وقال الحسن : { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها الله . وقال ابن عباس : لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ، وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ، ويقال : للعقعق مخابىء ، إلا أنه ينساها . وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك ، وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على ضعفها . { وَإِيَّاكُمْ } : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو الله ، { وَهُوَ السَّمِيعُ } لقولكم : نخشى الفقر ، { الْعَلِيمُ } بما انطوت عليه ضمائركم . .
ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله . وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ، فقال : { اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء } أن يبسطه ، { وَيَقْدِرُ } لمن يشاء أن يقدره . والضمير في له ظاهره العود على من يشاء ، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت . ويجوز أن يكون الضمير عائداً عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } : أي من عمر معمر آخر . وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق . وقرأ علقمة الحمصي : ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، { عَلِيمٌ } : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم . .
ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله ، كان ذلك الإقرار ملزماً لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به . وأمر رسوله بالحمد له تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره . .
{ وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا ؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون . والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع . قال مجاهد : لا موت فيها . وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر . وجعلت الدار الآخرة حياً على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة . ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذاً ، وجواب لو محذوف ، أي لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها . وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللهيان ، والجولان ، والطوفان . والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة . .
ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا : من خلق العالم ؟ { وَمِنْ * نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } ؟ ذكر أيضاً حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله ، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ } ؟ قلت : بمحذوف