قوله : ( ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ماكلفهم وهو تفسير لا حول ولا قوة الا بالله نقول : لا حيلة لأحد [ ولا تحول لأحد ] ولا حركة لأحد عن معصية الله الا بمعونة الله ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره غلبت مشيئته المشيئات كلها [ وعكست إرادته الإرادات كلها ] وغلب قضاؤه الحيل كلها يفعل ما في يشاء وهو غير ظالم أبدا { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ) .
ش : فقوله : لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون - قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ { لا نكلف نفسا إلا وسعها } ] وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ثم تردد أصحابه [ أنه ] : هل ورد به الشرع أم لا ؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن [ وانه سيصلى نارا ذات لهب فكان مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وهذا تكليف بالجمع بين الضدين وهو محال والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم بأنه مأمور ] بأن يؤمن [ بأنه لا يؤمن ] والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : { نبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } مع عدم علمهم بذلك ولا للمصورين يوم القيامة : [ احيوا ما خلقتم ] وأمثال ذلك - لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه بل هو خطاب تعجيز وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفا بل يجوز أن يحمله جبلا لا يطيقه فيموت وقال ابن الأنباري : أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك وهو مطيق لذلك لكنه يثقل عليه ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها .
ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة دون الممتنع لذاته لأن ذلك لا يتصور وجوده فلا يعقل الأمر به بخلاف هذا .
ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده فإنه يجوز تكليفه وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركا له مشتغلا بضده - بدعة في الشرع واللغة فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه ! وهم التزموا هذا لقولهم : إن الطاقة - التي هي الاستطاعة وهي القدرة - لا تكون إلا مع الفعل ! فقالوا : كل من لم يفعل فعلا فإنه لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف وخلاف ما عليه عامة العقلاء كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة .
وأما ما لا يكون إلا مقارنا للفعل فذلك ليس شرطا في التكليف مع أنه في الحقيقة [ إنما ] هناك إرادة الفعل وقد يحتجون بقوله تعالى : { ما كانوا يستطيعون السمع } { إنك لن تستطيع معي صبرا } وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة وهو ما لا يكون إلا مع الفعل فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع ولو أراد بذلك المقارن لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع ! فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى ولكن هؤلاء لبغضهم الحق وثقله عليهم إما حسدا لصاحبه وإما اتباعا للهوى - لا يستطيعون السمع وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع وليس عنده منه علم وهذه لغة العرب وسائر الأمم فمن يبغض غيره يقال : إنه لا يستطيع الإحسان إليه ومن يحبه يقال : إنه لا يستطيع عقوبته لشدة محبته له لا لعجزه عن عقوبته فيقال ذلك للمبالغة كما تقول : لأضربنه حتى يموت والمراد الضرب الشديد وليس هذا عذرا فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السماوات والأرض قال تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن } .
وقوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم به إلى آخر كلامه - أي : ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات و لا حول ولا قوة إلا بالله - دليل على إثبات القدر وقد فسرها الشيخ بعدها ولكن في كلام الشيخ إشكال : فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي وهو قد قال : لا يكلفهم إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ما كلفهم وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد ولا يصح ذلك لأنهم يطيقون فوق ما كلفم به لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف كما قال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى : { يريد الله أن يخفف عنكم } وقال تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه ولكنه تفضل علينا ورحمنا وخفف عنا ولم يجعل علينا في الدين من حرج ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم : أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق لا من جهة التمكن وسلامة الآلات ففي العبارة قلق فتأمله .
وقوله : وكل [ شيء ] يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره - يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي فإن القضاء يكون كونيا وشرعيا وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات ونحو ذلك أما القضاء الكوني ففي قوله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } والقضاء الديني الشرعي في قوله تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } وأما الإرادة الكونية والدينية فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ : ولا يكون إلا ما يريد وأما الأمر الكوني ففي قوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وكذا قوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا } في أحد الأقوال وهو أقواها والأمر الشرعي في قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية وقوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } وأما الإذن الكوني ففي قوله تعالى : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } والإذن الشرعي في قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } وأما الكتاب الكوني ففي قوله تعالى : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير } وقوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } والكتاب الشرعي الديني في قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } وأما الحكم الكوني ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه السلام : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } وقوله تعالى : { قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } والحكم الشرعي في قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } وقال تعالى : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } وأما التحريم الكوني ففي قوله تعالى : { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } والتحريم الشرعي في قوله : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } و { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية وأما الكلمات الكونية ففي قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ وفي قوله A : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ] .
والكلمات الشرعية الدينية في قوله تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } .
وقوله : يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا - الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد يقتضي قولا وسطا بين قولي القدرية والجبرية فليس ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون منه ظلما وقبيحا كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم ! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه ! وقياس له عليهم ! هو الرب الغني القادر وهم العباد الفقراء المقهورون وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم يقولون : إنه يمتنع أن يكون [ في ] الممكن المقدور ظلم ! بل كان ما كان ممكنا فهو منه - لو فعله - عدل إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي والله ليس كذلك فإن قوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما } وقوله تعالى : { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } وقوله تعالى : { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } وقوله تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } وقوله تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب } يدل على نقيض هذا القول .
ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله : [ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ] فهذا دل على شيئين : أحدهما : أنه حرم على نفسه الظلم والممتنع لا يوصف بذلك الثاني : أنه أخبر أنه حرمه على نفسه كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي والله ليس كذلك فيقال لهم : هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه لا ما هو ممتنع عليه .
وأيضا : فإن قوله : { فلا يخاف ظلما ولا هضما } - قد فسره السلف بأن الظلم : أن توضع عليه سيئات غيره والهضم : أن ينقص من حسناته كما قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } .
وأيضا فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يأمن من ذلك وإنما يأمن مما يمكن فلما آمنه من الظلم بقوله : { فلا يخاف } - علم أنه ممكن مقدور عليه وكذا قوله : { لا تختصموا لدي } إلى قوله : { وما أنا بظلام للعبيد } - لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن وهو أن يجزوا بغير أعمالهم فعلى قول هؤلاء ليس الله منزها عن شيء من الأفعال أصلا ولا مقدسا عن أن يفعله بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله بل فعله حسن ولا حقيقة للفعل السوء بل ذلك ممتنع والممتنع لا حقيقة له ! ! والقرآن يدل على نقيض هذا القول في مواضع نزه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له فعلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم وذلك كقوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثا وأنكر على من حسب ذلك وهذا فعل وقوله تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } وقوله تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } - إنكار منه على من جوز أن يسوي الله بين هذا وهذا وكذا قوله : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } - إنكار على من حسب أنه يفعل هذا وإخبار أن هذا حكم سيء قبيح وهو مما ينزه الرب عنه .
[ وروى أبو داود و الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس و عبادة بن الصامت و زيد بن ثابت عن النبي A : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ] وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة ! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل ! ! وأسعد الناس به أهل السنة الذين قابلوه بالتصديق وعلموا من عظمة الله وجلاله قدر نعم الله على خلقه وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم إما عجزا وإما جهلا وإما تفريطا وإضاعة وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ولو من بعض الوجوه فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر وتكون قوة الحب والإنابة والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء - : جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتأليهه بل على إفراده بذلك واللسان محبوسا على ذكره والجوارح وقفا على طاعته ولا ريب أذ هذا مقدور في الجملة ولكن النفوس تشح به وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه وإن أتى به من وجه آخر فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه ؟ ومن [ ذا ] الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ولو في وقت من الأوقات ؟ فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه لعذبهم بعدله ولم يكن ظالما لهم وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه وقبول التوبة محض فضله وإحسانه وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدر أنه تاب منها لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب وقد كتب على نفسه الرحمة فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار أو يدخل الجنة [ كما قال أطوع الناس لربه وأفضلهم عملا وأشدهم تعظيما لربه وإجلالا : لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ] وسأله الصديق دعاء يدعو به صلاته فقال : [ قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك الغفور الرحيم ] فإذا كان هذا حال الصديق الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - فما الظن بسواه ؟ بل إنما صار صديقا بتوفيته هذا المقام حقه الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته وما ينبغي له وما يستحقه على عبده ومعرفة تقصيره فسحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها ! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية ! ! فإن لم يتسع فهمك لهذا فانزل إلى وطأة النعيم وما عليها من الحقوق ووازن من شكرها وكفرها فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم