قوله : ( والإيمان : هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان وجميع ما صح عن رسول الله A من الشرع والبيان كله حق والإيمان واحد وأهله في أصله سواء والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى ) .
ش : اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافا كثيرا : فذهب مالك و الشافعي و أحمد و الأوزاعي و إسحق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين : إلى أنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي C : أنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان ومنهم من يقول : إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي C ويروى عن أبي حنيفة Bه وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به ! وقولهم ظاهر الفساد وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب ! وهذا القول أظهر فسادا مما قبله ! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما ولهذا قال موسى لفرعون : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } وقال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي A كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين به بل كافرين به معادين له وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمنا فإنه قال : .
( ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا ) .
( لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا ) .
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمنا كامل الإيمان ! فإنه لم يجهل ربه بل هو عارف به { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } { قال : رب بما أغويتني } { قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين } والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ولا أحد أجهل منه بربه ! فإنه جعله الوجود المطلق وسلب عنه جميع صفاته ولا جهل أكبر من هذا فيكون كافرا بشهادته على نفسه ! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود أعرضت عن ذكرها اختصارا ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره .
وحاصل الكل [ يرجع ] إلى أن الإيمان : إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله كما تقدم أو بالقلب واللسان دون الجوارح كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفه وأصحابه رحمهم الله أو باللسان وحده كما تقدم ذكره عن الكرامية أو بالقلب وحده وهو إما المعرفة كما قاله الجهم أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي C وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر .
والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة - اختلاف صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءا من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه - : نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى وإلا فقد نفى النبي A الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقا ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل لكن هذا المطلوب من العباد : هل يشمله اسم الإيمان ؟ أم الإيمان أحدهما وهو القول وحده والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر وإن أطلق عليهما كان مجازا ؟ هذا محل النزاع .
وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه - : [ أنه ] عاص لله ورسوله مستحق للوعيد لكن فيمن يقول : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال : لما كان الإيمان شيئا واحدا فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر Bهما ! بل قال : كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام ! ! وهذا غلو منه فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه فمنهم الأخفش والأعشى و [ من ] يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها ومن يرى عن قرب زائد على العادة وآخر بضده .
ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ C : وأهله في أصله سواء يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله ولا يلزم منه التساوي من كل وجه بل تفاوت [ درجات ] نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى : فمن الناس من نور [ لا إله إلا الله ] في قلبه كالشمس ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري وآخر كالمشعل العظيم وآخر كالسراج المضيىء وآخر كالسراج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علما وعملا وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنبا إلا أحرقه وهذه حال الصادق في توحيده فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق ومن عرف هذا عرف معنى [ قول النبي A : إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ] [ وقوله : لا يدخل النار من قال لا إله إلا الله ] وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار وأول بعضهم الدخول بالخلود ونحو ذلك والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب صاحبها ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية فغفر لها وهكذا العقل أيضا فإنه يقبل التفاضل وأهله في أصله سواء مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين وبعضهم أعقل من بعض وكذلك الإيجاب والتحريم فيكون إيجاب دون إيجاب وتحريم دون تحريم هذا هو الصحيح وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب .
وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل - : فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره كما في حق النجاشي وأمثاله وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح - : [ فهو ] أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم ولهذا [ قال النبي A : ليس المخبر كالمعاين ] وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح فلما رآهم قد عبدوه ألقاها وليس ذلك لشك موسى في خبر الله لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر فقد لا يتصور [ المخبر به نفسه كما يتصوره ] إذا عاينه كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال : أولم تؤمن قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي } وأيضا : فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلا يجب عليه [ من ] الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره [ الإيمان به ] إلا مجملا وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان ولا شك أن من قال بقلبه التصديق الجازم الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة - : لا تقع معه معصية ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي ولهذا - والله أعلم - [ قال A : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ] الحديث فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا وإن بقي أصل التصديق في قلبه ثم يعاوده فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } قال ليث عن مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه والشهوة والغضب مبدأ السيئات [ فإذا أبصر رجع ثم قال تعالى : { وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } أي : وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون قال ابن عباس : لا الإنس تقصر عن السيئات ] ولا الشياطين تمسك عنهم فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى والشيطان يمده في غيه وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب فذلك النور والإبصار وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى وإن لم يكن أعمى فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر [ وجاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي A : أنه قال : إذا زنا العبد نزع منه الإيمان فإذا تاب أعيد إليه ] .
إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعا لفظيا فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والإفتراق بسبب ذلك وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول : أنا مؤمن مسلم حقا كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله ! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي وبهذا المعنى قالت المرجئة : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ! وهذا باطل قطعا فالإمام أبو حنيفة Bه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافا وشرائط كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك .
فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة C : أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق قال تعالى خبرا عن إخوة يوسف : { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق لنا ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك ثم هذا المعنى اللغوي وهو التصديق بالقلب هو الواجب على العبد حقا لله وهو أن يصدق الرسول A فيما جاء به من عند الله فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا هذا على أحد القولين كما تقدم ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما وقوله : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان ولأنه لو كان مركبا من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه ولأن العمل قد عطف على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة قال تعالى : { آمنوا وعملوا الصالحات } وغيرها في مواضع من القرآن .
وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق - بمنع الترادف بين التصديق والإيمان وهب أن الأمر يصح في موضع فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقا ؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان ومما يدل على عدم الترادف : أنه يقال للمخبر إذا صدق : صدقه ولا يقال آمنه ولا آمن به بل يقال : آمن له كما قال تعالى : { فآمن له لوط } { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف } وقال تعالى : { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام فالأول يقال للمخبر به والثاني للمخبر ولا يرد كونه يجوز أن يقال : ما أنت بمصدق لنا لأن دخول اللام لتقوية العامل [ كما إذا تقدم المعمول أو كان العامل ] إسم فاعل أو مصدرا على ما عرف في موضعه فالحاصل أنه لا يقال : قد آمنته ولا صدقت له إنما يقال آمنت له كما يقال : أقررت له فكان تفسيره بأقررت - أقرب من تفسيره بصدقت مع الفرق بينهما لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى فإن كل مخبر عن مشاهد أو غيب يقال له في اللغة : صدقت كما يقال له : كذبت فمن قال : السماء فوقنا قيل له : صدقت وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب فيقال لمن قال : طلعت الشمس - : صدقناه ولا يقال : آمنا له فإن فيه أصل معنى الأمن و الإئتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له - إلا في هذا النوع ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق وإنما يقابل بالكفر والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك - : لكان كفرا أعظم فعلم أن الايمان ليس التصديق فقط ولا الكفر التكذيب فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب فكذلك الإيمان يكون تصديقا وموافقة وانقيادا ولا يكفي مجرد التصديق فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان ولو سلم الترادف فالتصديق يكون بالأفعال أيضا كما ثبت في الصحيح [ عن النبي A أنه قال : العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع ] إلى أن قال : [ والفرج يصدق ذلك ويكذبه ] وقال الحسن البصري C : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال ولو كان تصديقا فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم وليس هذا نقلا للفظ ولا تغييرا له فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق بل بإيمان خاص وصفه وبينه فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعا من التصديق العام فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص من غير تغير اللسان ولا قلبه بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفا من العام والخاص كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح فإن هذه من لوازم الإيمان التام وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم ونقول : إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ولئن الشارع زاد فيه أحكاما أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي فهو حقيقة شرعية مجاز لغوي أو أن يكون قد نقله الشارع وهذه الأقوال لمن سلك هذا الطريق .
وقالوا : إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان وعلمنا من مراده علما ضروريا أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك ولا صلى ولا صام ولا أحب الله ورسوله ولا خاف الله بل كان مبغضا للرسول معاديا له يقاتله - : أن هذا ليس بمؤمن كما علمنا أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما فقد [ قال A : الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ] [ وقال أيضا A : الحياء شعبة من الإيمان ] [ وقال ايضا A : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ] .
[ وقال أيضا A : البذاذة من الايمان ] فإذا كان الإيمان أصلا له شعب متعددة وكل شعبة منها تسمى : إيمانا فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة والصوم والحج والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من اللة والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه من شعب الايمان وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها [ إجماعا ] كشعبة الشهادتين ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا كترك إماطة الأذى على الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما منها ما يقرب من شعبة الشهادة ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى وكما أن شعب الإيمان إيمان فكذا شعب الكفر كفر فالحكم بما أنزل الله - مثلا من شعب الإيمان والحكم بغير ما أنزل الله كفر وقد [ قال A : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] رواه مسلم وفي لفظ : [ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ] [ وروى الترمذي عن رسول الله A أنه قال : من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله - : فقد استكمل الإيمان ] ومعناه - والله أعلم - أن الحب والبغض أصل حركة القلب وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك فإن المال آخر المتعلقات بالنفس والبدن متوسط بين القلب والمال فمن كان أول أمره وآخره كله لله كان الله إلهه في كل شيء فلم يكن فيه شيء من الشرك وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه فيكون مستكملا الإيمان إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل .
وسيأتي في كلام الشيخ C في شأن الصحابة Bهم : وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان فسمى حب الصحابة إيمانا وبغضهم كفرا .
وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره عن استدلالتهم بحديث شعب الإيمان المذكور وهو : أن الراوي قال : بضع وستون أو بضع وسبعون فقد شهد الراوي بفعله نفسه حيث شك فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ولا يظن برسول الله A الشك في ذلك ! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب .
فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه ! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه مع أن البخاري C إنما رواه : بضع وستون من غير شك وأما الطعن بمخالفة الكتاب فأين في الكتاب ما يدل على خلافه ؟ ! وإنما فيه ما يدل على وفاقه وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب .
وقالوا أيضا : وهنا أصل آخر وهو : أن القول قسمان : قول القلب وهو الإعتقاد وقون اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام والعمل قسمان : عمل القلب وهو نيته وإخلاصه وعمل الجوارح فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأخر فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة ! ! .
ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب إذا لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة [ قال A : إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ] فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلم ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء فيزول عنه الكمال فقط