مظاهر الوحدة، تتجلى في العبادة الدكتور أبو الفضل محمد بن محمد أستاذ التعليم العالي بكلية الشريعة جامعة التروييه بفاس ـ المغرب بسم الله الر حمن الرحيم قال اللّه تعالى في كتابه المكنون: (وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض، كما أستخلف الذين من قبلهم. وليمكنَّن لهم دينهم الذي أرتضى لهم، وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)([1]) صدق اللّه العظيم وبلّغ رسوله المصطفى الكريم، فإن المتأمل في النص القرآني يجد لا محالة أن الإسلام الذي أرتضاه اللّه لعباده المؤمنين دين أمن وأمان، وطمأنينة وسلام، ومحبة ووئام، دين يدعو إلى الوحدة والتمسك بحبل اللّه المتين، ونشر الرحمة بين أولياء اللّه المتقين. فقد ختم اللّه تعالى به الأديان السماوية، وجعله دينا جامعا لكل مقومات الأخلاق العالية التي عن طريقها تزدهر الأمة الإسلامية، وبسببها تزهو وتحلق في سماء العلى، فالإيمان بالله قوة دافعة إلى المجد والسؤدد، وعن طريق الايمان بالله عزوجل تكون الريادة، والزعامة، والقيادة: قيادة الإنسانية بالحكمة والأخذ بيدها وتنويرها لتلمس بكلتي يديها الطريق الصحيح، والصراط القويم الذي تسلكه وتتبعه لتسعد في الحياة، وتسمو إلى أعلى عليين، ولأنه صراط الذين أنعم عليهم الله بهدايتهم إليه، فجنبهم تيهة الطريق التي هي أسس الفرقة، والتفرقة، ورمز الشتات والتفكك الذي هو منبوذ في الإسلام جملة وتفصيلا: وقد بين ذلك الرسول عملياً، ولقنه لأمته منهجياً فخط على الأرض خطا مستقيماً وبجانب ذلك الخط خطوطا ثم حذر أمته من اتباع تلك الخطوط الهامشية التي تمثل الخطر الأكبر على كل من اتبعها من أفراد الأمة الإسلامية وفي عدم اتباعها يكون تنفيذا لأمر الله واتباعاً لوصية الله عزوجل (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)([2]). التي نستلها من الوصايا العشر، وهي وصية من حكيم عليم، وإله حليم، ورحمن رحيم، قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ). فتنفيذ الوصية رمز للطاعة، وإذعان للأوامر، واتباع سبيل المتقين المؤمنين. وهذه الغاية التي ينشدها الإسلام، والصرخة المدوية التي يرفع بها صوته منقذ البشرية من ضلالها الأول. فمنذ أن كرم اللّه محمداً(صلى الله عليه وآله) بالنبوة، وشرفه بالرسالة منذ ذلك الحين ومن يوم البعثة الأولى ورسول الإنسانية يدعو الناس قاطبة إلى الاتحاد وإلى الوحدة والتمسك بالعروة الوثقى التي لا أنفصام لها، والاعتصام بحبل الله الذي لا ينقطع لكونه قويا ومتماسكة أجزاؤه، ومن كانت هذه صفاته فالفرقة لا تبصر نوره، والأرضة لا تصل إلى لحمته، لأن نسيجه متماسك ومتلاحم. يتجلى ذلك في العبادة التي أمر اللّه تعالى بها عباده بقوله: (يعبدونني)فالعبادة هي الأمر الجامع لكل ما يحبه اللّه ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة فالكلمة الطيبة عبادة، وإزالة كل مايؤذي الإنسانية في طريقها عبادة، والسعي في إيصال الخير لأولئك الذين لا يسألون الناس إلحافا للمانع الإيماني الذي هو الحياء، والحياء من الإيمان عبادة، ووضع قطعة لحم، أو قطعة خبز لزوجك عبادة، وهذا منهج قويم في التربية والتعليم، فمن خلال هذا السلوك العالي والمنهج المحمدي يتعلم من خلاله الأطفال والأبناء الخلق الكريم الذي يتحلى به الأب فيعامل زوجته بلطف، واحترام، ويقدم لها أجود الطعام، على مسمع ومرأى من الأبناء الكرام. فمن خلال هذه المدرسة النموذجية، التي تقدم لأسرة البيت الدروس التطبيقية، ينشأ الطفل باراً بوالديه، مطيعا لهما، سميعا لنصائحهما، ملتفا حولهما، متجنباً أسباب الفرقة، داخل العش الذي يعيش فيه مع أسرته، يكبر الطفل وقد أحيط بسياج المنعه من الانزلاق في منحدر الاختلاف، لأن الاختلاف شر مستطير، وبلاء تطيير أدرك ذلك في بيته مع أسرته وهو لازال يدرج ويحبو، ويكبر وينمو فترسخت تلك الأخلاق في خلده، وترعرعت معه، فهو جدير بالوفاء بها، لأنه تلقاها درسا عمليا من أبيه فوقر ذلك في قلبه، وأصبح أمر الاتحاد سجية في طبعه، لا ينفك عنه، ومن أمثاله تتكون الأسرة الصغيرة، ثم تكبر تلك الأسرة إلى مجتمع كبير الملزم بأداء العبادات التي جاء بها الإسلام والتي من منظورها يتكون الاتحاد، فنأخذ ركنا من أركان الإسلام لنقف على أرض صلبة وقوية، ومن خلاله نطل إطلالة على المعنى السامي والعظيم الذي نستنتجه منه، ففريضة الحج تعد من الأركان الخمسة التي جاء بها الإسلام، وشعيرة يتطلب القيام بها البذل من المال والنفس لأنها عبادة مالية وفعلية، وهي عبادة لا يتم للقادر عليها والمستطيع الاستطاعة الشرعية دينه إلا بالاضطلاع بها لقوله (صلى الله عليه وآله): «من مات ولم يحج فليمت ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا» والحج يعتبر عملا اجتماعيا، ذلك أن تركيب الإنسان مكون من عنصرين إثنين: عنصر التراب وهو الجسد، وعنصر سماوي وهو الروح. ونتيجة لهذه التركيبة قام النزاع قديما بينهما، والناس في ميلهم لهذا العنصر أو ذاك مفرط، ومفرط، إلا من كان حكيماً فعرف لكل حقه، وأرضاه بقدر، ولم ترتطم الإنسانية في هذه الغمرة التي نراها مسعورة، ومكشرة عن أنيابها الا بسبب انحيازها كليا للناحية المادية وانغماسها في شهواتها، وانزلاقها في وديان الرذيلة، وتنكبها عن كل فضيلة لهذا كان لابد من عمل يلفتنا عن هذه الحياة بما يستلزمه من إعراض عن زينة الدنيا، وملذاتها، وطيباتها، وبما يوحيه من مساواة تشعر الغني منا بأنه أخ كريم لمن يعيش بينهم من عباد اللّه، لايتميز عنهم في مظهره وملبسه وجميع أحواله. هذا العمل الذي هذه صفاته، والذي قيل فيه: إنه يعتبر في الشريعة الإسلامية عوضا عن الرهبانية في المسيحية هو الحج، إذ فيه مافيه من كبت الشهوات، والعزوف عن الدنيا وملذاتها، والإقبال على اللّه عزوجل، والسمو بالروح إلى الملأ الأعلى، وقد سلم مما يلازم الرهبانية من عنت وإرهاق دائمية. وفي الحج أيضاً مع هذا، زيارة البيت العتيق، الذي أضافه اللّه إلى نفسه لشرفه، وجمع لأكبر عدد من المسلمين في صعيد واحد، ويوم واحد، ولغرض واحد. ولكل من هذين حكمته، وأثره البعيد في حياة الأمة الإسلامية: أفراداً وجماعات. إنّما تشقى الأمة إذا تناكدت، وتفرقت بها، وتشتت شذر مذر. والاسلام الذي حث المسلمين على أن يأتمروا بينهم بالمعروف جعل لهم مؤتمرات بعضها يومي، وهو صلاة الجماعة، وبعضها أسبوعي أوسع وأعم، من سابقه وهو صلاة الجمعة، وبعضها كل عام، على نحو أشمل، وهو صلاة العيدين، وأخيراً المؤتمر الأكبر، الذي يجب أن يشهده كل مسلم، قادر، مستطيع مرة واحدة على الأقل في حياته وعمره. ومن الناس من فهمه بطئ وعقله متخلف لا يدرك الحكمة من التشريع الإسلامي، ولا الحقيقة، الا متمثلة ومجسَّمة فكان من الحكمة أن يكون من شعائر الحج الطواف بالبيت العتيق فالعبادات الإسلامية لها أثر كبير في تحقيق الوحدة، من أجلها خلق هذا الإنسان الذي يعمر الأرض، وينتشر في أرجائها قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين)([3]). يتضح جليا من النص القرآني ان الحكمة من خلق هذا الإنسان الذي تتكون منه أمة الإسلام خلق من أجل إيجاد غاية واحدة، وتحقيق هدف واحد وهو عبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وهنا تتجلى الوحدانية بمفهومها الواسع، ويتحقق التوحيد توحيد اللّه في ربوبيته وتوحيد اللّه في عبوديته، فالعبد الموحد عندما يصاب بوعكة أو صدمة أو عثرة يتجه تواً إلى اللّه عزوجل الذي تتجلى في عظمته الوحدانية، والذي يحب أن يفرد بها. لأنها رمز المؤمن المسلم الملتزم وقد بين القرآن ذلك في مدة نزوله في مكة المكرمة وجعل الذنوب اليومية التي تصدر من الإنسانية إن حادت عن الوحدانية ذنبا كبيرا لا يغفر إلا بالتوبة سأل أبو بكر (رضي الله عنه)الرسول(صلى الله عليه وآله) عن أي الذنب أكبر عند اللّه فقال: أن تجعل للّه ندا وهو خلقك، قلت ثم أي، قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي قال أن تزاني بحليلة جارك، يبين هذا المعنى قوله تعالى: (ولا تجعلوا للّه أنداداً وأنتم تعلمون) ثم يستمر أبو بكر في الوصف الدقيق الذي رأى والرسول يجيب عن السؤال فقال وكان متكئا ثم جلس وقال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور حتى قلنا ياليته سكت إشفاقا عليه، فالرسول الكريم عندما وصل إلى نقطة مهمة تتعلق بالأخلاق تفاعل لأنه يعلم علم اليقين أن الكذب في الإشهاد خلق ذميم، وأن أفراد الأمة الإسلامية إذا انتشر فيها هذا الخلق السيء تداعى كيانها، وتساقطت جدرانها بمعاول الهدم الذي يقوض المجتمعات، ويسبب في التفرقة، ويبعث الاحقاد التي نشأت بسبب التهور في استعمال وسائل الإثبات عند مايقع الاختلاف، ولذلك أوجد باب التفرقة، وحذر من إيلاجه، ونبه أن ركوب مثل هذه الأخطار لايخدم الأمة الإسلامية المتماسكة في أصولها، والمتحدة في سلمها وحروبها فهي أمة واحدة، على قلب واحد، تعبد إلهاً واحدا، وتتبع نبيا واحد، وتهتدي بكتاب واحد الذي هو القرآن الكريم. ولهذا كان مدلول العبادة في الإسلام مدلولا واسعا، يشمل كل عمل يريد به الإنسان وجه اللّه، ويقصد من ورائه امتثال أمره في تحقيق الوحدة بين هذه الأمة التي لايمكن لها الظفر والنصر في جميع الميادين إلا بها. والأمة الإسلامية من يوم ولادتها، إلى مبعث رسولها، إلى زمن الخلفاء الراشدين بنيت على أسس الوحدة، وأسست على قوائم التوحيد لأنها أمة التوحيد والتجديد، تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وكلما دار الزمن دورته واستدار الفلك، فأتم قرنه بعث الله لها من يجدد لها أمر دينها، ويغري توحيدها، ويبعث فيها روح الجهاد والتضحية والدعوة إلى التمسك بهذا الدين الذي فيه سعادتها السرمدية، وسعادتها الدنيوية، وتصحيح المفاهيم بـإعادة الكلمات إلى مدلولاتها الأولى لغة وشرعاً كما فهمها السلف الصالح تلك المدلولات التي اقتنع بها الصحابة، ونهضوا لنصرة الإسلام على بصيرة نيرة تحت لواء الوحدة الإسلامية وحفزتهم بقوة لاستمرار الإصلاح، لأنهم أدركوا المعنى الصحيح لتلك الكلمات، وفي عصور الضعف تميزت أحوال الناس فلجأوا إلى تفسير الكلمات بما يناسب ضعفهم، هروباً من اللوم، ومغالطة للضمير. بيد أن الإمام الكبير الخميني رحمه الله تعالى، وجزاه أحسن الجزاء، أدرك بفهمه العميق، وذهنه الوقاد، وبعد النظر أن الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها تغط في نومها العميق، وتسبح في بحر خضم من الخلافات التي مزقت كيانها، وشتت أجزاءها، وأصبحت لقمة سائغة في يد عدوها المتربص لها منذ زمن بعيد، فعز عليه أن هذه الأمة الكبيرة تصبح أمة صغيرة تعبث بأغصانها الرياح، وتجتث أصولها العواصف الهوجاء، بلا رحمة ولا هوادة، تقتلعها من جذورها. فأعلنها صرخة مدوية، أنه لابد من تحرير الأمة المحمدية، وتجديد أمر دينها. فاتبع في ذلك سياسة الإسلام الخارجية التي تقوم على أساس الدعوة إلى اللّه بالتي هي أحسن، وعلم علم اليقين بما أوتي من حكمة ودهاء سياسي الذي يودعه اللّه في قلوب أصفيائه من المؤمنين والمتقين، أن الظروف التي تحيط بالدعوة تحتم أن تكون مصحوبة بقوة عسكرية لحمايتها، وتأمين القائمين بها، ومن هذا المنطلق كان الجهاد من لوازم الدعوة على نمط مايسمى في العرف الدولي اليوم «بالسلام المسلح» ثم نادى بأعلا صوته «الوحدة، الوحدة» فقرعت هذه الكلمات الرنانة أذن كل مخلص من المسلمين سنيا كان أو شيعيا وأيقظت ضمائر الغافلين من المؤمنين، فنظمت ندوات، وعقدت مؤتمرات، وخصصت لقاءات كلها تصب في مصب الوحدة والتوحيد، لأن هذه الكلمة سلاح ذو حدين، الحد الأول يفتك العدو المتربص بالأمة الإسلامية الدوائر. والحد الثاني يمنع كل من يريد أن ينال من كرامتها ومجدها، ويعبث بمصالحها العامة التي تقوم عليها. وهذه حسنة من حسنات الإمام الكبير (رحمه الله) له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء إلى يوم القيامة. هذا ومتى تحققت العبودية بكل أشكالها لله تعالى من العبد، وانصهر العبد في بوتقة من الحب والإجلال لخالق الكون، وفاطر السماوات والأرض تحققت الوحدة في الأمة الإسلامية، وتجلت معالمها في منار الأرض، وأصبح الإنسان مدركا لأخطائه التي تتمثل في الاعراض عن العبودية لله، وعن اتباع النبي (صلى الله عليه وآله)في جميع المجالات في أقواله وأفعاله وتقديراته وتلك هي الوحدة المنشودة. وأخيراً فإني أشكر سماحة الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني الذي يعمل ليل نهار بقلمه وفكره وسعادته على تحقيق الوحدة الإسلامية حفظه اللّه ووعاه وأبقاه ذخرا لأمة الإسلام آمين. -------------------------------------------------------------------------------- [1]- نور / 55 . [2]- الانعام 153 . [3]- الذاريات / 60 .