من أجل حضور فعّال لمواجهة الهجوم الثقافي والإعلامي الإستشراف الثقافي .. تأصيل وتعبير عن الهوية والذات عبد الرزاق هادي الصالحي التحدي الثقافي ووعي المرحلة لقد كانت ضريبة (الجري) خلف الآخر والتفيء بمظلته باهضة كلفت أمتنا الكثير من استنزاف القدرات وفقدان الثقة «بالذات» واهدار طاقاتها مما أدى إلى سكونية الحالة والرضا بالأمر الواقع وتكريس التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية، وكلها مؤشرات على التبعية في (الفكر والمنهج)([1]) والتي تقرأ بوصفها «تخلف» وفقدان للرؤية المستقبلية، وبعد سلسلة من محاولات (التجربة والخطأ) استشعرت الأمة ومن خلال الفعل الواعي لطلائع الصحوة الإسلامية بضرورة العودة والالتجاء إلى عقيدتها والتي هي معلم شخصيتها ومقوم وجودها الحضاري لتخطي التخلف والسكون اللذان كبلاها أثر ابتعادها عن إسلامها وركونها إلى زوايا الآخر المظلمة. وإن وعي المرحلة الراهنة ضرورة موضوعية للتفاعل معها بإيجابية وهدفية ـ أي بآلية مخططة ـ وبالتي نكون قد خطونا خطوة مستقبلية المآل، فالاختيار في القراءات بمناسبة آلية التحرك والمرحلة التي نمر بها للتأثير في الحالة المعاشة والنحو بها باتجاه غائي ملاحظ فيه وعي «الذات» وفهم وإدراك توجهات الآخر من اجل الارتفاع بالأمة إلى مستوى الرؤية الإسلامية لتعي دورها ومسؤولياتها التاريخية من ناحية، وللحد من نفوذية وتأثير توجهات ورؤى الآخر في ثقافتها من ناحية أخرى، وبذلك نكون قد وضعنا لبنة وخطوة تغييرية تناغم التصور الإسلامي للحياة وفاعلية الشخصية الإسلامية في الأحداث واستيعاب المستجد والمتغيّر منها تبعاً لذلك التصور. والمرحلة التي شهدت قيام الدولة الإسلامية المباركة قد رافقتها أيضا الصحوة الإسلامية التي عمّت أرجاء العالم، وحيث يوجد من آمن بالإسلام مبدأ وعقيدة واُطروحة حياة. وإنّ المسار التصاعدي هذا قد أفقد الآخر صوابه ودفعه إلى حالة من التخبط في التصدي ومواجهة الوعي الإسلامي بأي درجة كان وفي أي مكان، فتفنن أعداء الإسلام في ابتداع واختيار وسائل المواجهة، حيث أن الوسائل التقليدية قد استنفدت أغراضها أو أن تأثيرها أصبح محدودا، وعليه ومراعاة لكل ذلك لابد أن يؤدي المثقف المسلم دوره المؤطر بالهدفية وبالوعي بما تقدم، فكما أن الاحتياج إلى الانماء في الإنتاج الثقافي ـ من حيث الكم لابد من مراعاة الكيف ـ في ما يصدر باسم الثقافة الإسلامية ليكون معبرا وعطاءً عن المفهوم الإسلامي في معالجاته لإشكاليات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فلابدّ أن يُعتمد ذلك ويلاحظ فيما إذا كان منطلقنا الثقافي أُسِّس على المسار التغييري أي بمنظور الهدفية التي غالبا ما يراعى فيها النظر في الإشكاليات المثارة أو الناشئة بلحاظ الزمن وحركة الواقع الدائمة، وما يفرضه التصور الإسلامي الذي يشكل ويصوغ ذهنية وشخصية الإنسان المسلم وأهم خصائص الشخصية الإسلامية، الإيجابية والهدفية وهما إطار ثقافية هذه الشخصية أي أسلوبيتها في التعبير والتعامل. إن عالمية الرسالة الإسلامية وشموليتها لظرفي الزمان والمكان تدعو المثقفين الإسلاميين لطرح الرؤية الإسلامية في ميادين الحياة المختلفة ولابد لنا من الاعتراف بأن طروحاتنا قاصرة عن بلوغ الرؤية الإسلامية في جوانب كثيرة، فضلا عن كثير من الآراء الإسلامية التي لم تزل في دور البذرة أو البادرة وهي تحتاج إلى الإبراز من مكامن السبات والكمون ليقول الإسلام كلمته عالية في المجتمع وروابطه واُسس وعناصر هيكليته ونظرية السلوك الإسلامية ونظريته السياسية التي لم تزل في قال و قيل مع الاحتياج في الكل للخضوع إلى القاعدة: «ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكم»; ليكون المطروح رؤية الإسلام لا رؤيتنا ومتبنياتنا نحن. وان البعد والقرب عن المفهوم الإسلامي يُثير جملة من التساؤلات حول ما يصدر هنا أو هناك من قراءات تنسب بشكل أو آخر إلى الثقافة الإسلامية وإلى الفكر الإسلامي فهل استوعبت نتاجاتنا الثقافية الواقع بلحاظ الرؤية الإسلامية؟. وهل كان ما يصدر عن المثقفين الإسلاميين هو تعبير عن الفكر والثقافة الإسلامية؟. ماهو المعيار الثقافي؟ الذي يحتكم إليه للتعرف على بعد أو قرب الصادر عن المفهوم الإسلامي إلى غيرها من التساؤلات التي يفرضها الواقع ويتطلبها بلوغ الهدف في الفكر الإسلامي بفاعليته وتأثيره الذي شيّد حضارة إنسانية امتدت وعاش في ظلالها الوارفة أجيال ونحن اليوم نعيشها بدولة وصحوة هما نتاج تلك الحضارة، والتي تجسدت مبادئها وعقيدتها واقعاً حياً متحركاً مع امتداد تاريخ الوجود الإسلامي. وان البحث عن إجابات لتلك الأسئلة لا يعني أن الثقافة الإسلامية تعاني شحة في الإنتاج أو النقص بل ربما تعاني من التضخم في الموضوع الاوحد بالنسبة للمطالع والقارىء وهو الذي يدعو إلى البحث عن معيارية ثقافية. والمعيارية كما لها دور الإفادة في التمييز من جهة فلا يهمل أهميتها في الإبداع والابتكار والتأسيس من جهة اُخرى فالقيد «مهر الحرية» وإننا حملة رسالة وفكر فلابد أن يكون عطاؤنا ونتاجنا عنها ويعود إليها فالإسلام هو المحور في حياتنا وثقافتنا وفكرنا وتعاملنا بأوجهه المتعددة وبهذه تكون مساهمتنا تجاه إسلامنا وتجاه الإنسانية التي ترسف في قيود الضلال والتيه والضياع والقلق، فقد أحاطت، بها كل تلك العاهات المزمنة لانحسار الإسلام، وتفرد الغرب بالقوة وسبل الدمار والهلاك المُقنن لما أحرزه من تقدم في الجوانب التكنولوجية والعلمية «سحر العصر» وأن الحربين الاُولى والثانية مظهران لرؤية الغرب ومنهجه في التعامل مع الشعوب الاُخرى حيث يعكسان نظرة الاستعلاء للذات ونظرة دونية للآخر. وان اختلفت الرؤى في تحديد مفهوم الثقافة، وما يمكن أن تنطوي عليه المفردة من دلالة وسواء كانت تعني، الكل المركب من الأخلاق والفنون والمعتقدات (تايلور) أو أنها المحيط الذي يشكل الفرد شخصيته فيه (مالك بن نبي) أو غير هذه من التحديات التي عرفت بها الثقافة، فتبقى حقيقة في كونها سمة تميز الفرد والامة وتصبغ شخصيتهما فهي نتاج حضارة وليس مرحلة متقدمة للحضارة كما هي في بعض القراءات الغربية التي مرجعيتها الفكرية تنحصر بالمنفعة الشخصية، والتي مقياسها المفهومي في التعامل «دعه يعمل دعه يمر»([2]) مظهرا لـ«اللاقيد» الذي يؤطر حياة الغرب. وبنظرة تحليلية أو إذا ما قمنا بتفكيك لمفهوم الثقافة ووفقا للمعطيات المعرفية والعملية نجد إن للثقافة شقين: الأول: منهما يرتبط بالاسس والاصول المفهومية والمنظومة المعرفية والذي يتسم بالثبات والذي على وفقه تتحدد قيمة الأشياء والقبول والرفض. والثاني: وهو ما يتصل بـ«الأسلوبية» في التعامل والتفاعل والتعبير ممارسة للواقع مظهرا للشق الأول ومرتكزا عليه وبهذا تتقوم ثقافة الإنسان المسلم. وتصاغ شخصية الامة ويضيفان عليها صبغة وطابعا تتميز به عن غيرها من الامم مع ملاحظة أن النسبي والتغير يكون في الشق الثاني أي في وسائل وطرق التعامل مع خضوعها صدورا وعودا إلى الإطار المرجعي الإسلامي ـ العقيدة الإسلامية ـ ومن هنا يتضح لنا أن الثقافة الإسلامية تستند إلى تصور شمولي في جانبها المعرفي وبالتالي فهذه حقيقة تشير إلى مسألة الثبات في الثقافة الإسلامية أي أنها لم تتشكل وتتهيكل مع التقادم في الزمن وعلى وفق ممارسات وخبرات اجتماعية وموضوعية تألفها أُمة أو شعب كما هي في (حالة الغرب) التي أفرزت التطورية الدارونية والتي أُسس على ضوئها العديد من النظريات في ميادين شتى والنسبية الاجتماعية وكل هذا يعزى إلى عدم وضوح مفهومي وتجميعية البنية الثقافية لتلك الحالة، فكثرة النظريات التي يشتملها خطابه في تفسير التأريخ والنظر إلى دور الإنسان والاجتماع، والسياسة هي مظهر لفقدان تلك المرجعية العقائدية والفكرية أو عدم واقعيتها وعدم شموليتها، بيد أنا نجد أن واقعية وحيوية العقيدة الإسلامية قد كان مظهرها حضارة إنسانية امتدت أربعة عشر قرنا، ـ والتي لولاها كما يقول (غوستاف لوبون) لتأخرت حضارة أوربا خمسة قرون ـ وفي إنسانية التعامل مع الآخر ـ أهل الذمة ـ الذين رعتهم الدولة الإسلامية وسمحت لهم بممارسة شعائرهم وطقوسهم دون ضغط أو إكراه وكانت معاملتهم وفقاً لمبدأ بأن الخلق ينتسبون لآدم (ع) وأنهم عباد الله تعالى بغض النظر إلى ديانتهم وقد جسد التسامح معهم من قبل المسلمين تعاوناً مع الجيش الإسلامي مقابل الكيانات التي كانت تسومهم الذل كما ينقل لنا التاريخ. فلم تكن تلك التعاملية، لتختزلهم فكريا وثقافيا وإنسانيا هكذا منطق الإسلام وفقا لقاعدته الفكرية للتعامل مع الآخر، ويضاف إلى ذلك لتكتمل لنا واقعية مرجعيتنا العقائدية وحيويتها أننا نعيشها اليوم في ظل دولة مباركة وصحوة عمت أرجاء العالم الإسلامي وعلى مختلف المستويات. وتعزيزاً لدور عقيدتنا في الحياة وصحوتنا أن ندرك عظم المسؤولية التي علينا حمل عبئها كمسلمين آمنا بالإسلام عقيدة ومنهجا ونظام حياة أولاً في توسيع دائرة تفعيل المفاهيم الإسلامية في الواقع والارتفاع به إلى مستواها، وتظهر لنا أهمية دور المثقف المسلم ثانيا في استناد مرجعيته العقائدية والصدور عنها في تحجيم دائرة تأثير الآخر في الوسط الإسلامي فكريا وثقافيا وذلك يشكل مظهر الحضور المفهومي والذي هو مرآة تعكس وضوح الرؤيا التي يتمتع بها المثقف الذي يصدر عن «مرجعيته» مُبتعداً في ممارسته عن تغيب المفهوم العقيدي ومؤطراً نتاجه به وصادراً عنه وذلك دالة الانتمائية والاعتقاد بالله والإسلام، فـ«بعد أن آمن الإنسان بالله والإسلام والشريعة ـ يصبح ملزما بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الإسلامية، وباتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة ولأجل هذا كان لزاما على الإنسان أن يعين هذا الموقف العملي ويعرف كيف يتصرف في كل واقعة»([3]). فعطاء النص والدلالة المفهومية التي ينطوي عليها هي استبعاد وتغيب المواقف ـ إزاء ما يصادفه المسلم من الهموم والقضايا المتبناة على أساس خيال تصوري مسبق أو تبعي في المحاكاة والتقييم والحكم بل وحتى في القبول والرفض وبالتالي مؤدى ذلك ـ أي المواقف المتبناة ـ إلى اختزال وإبعاد ممارسة الواقع على وفق «التصور الإسلامي» وهو يعني أخيرا التكيف مع الظرف الطارىء لا تكييفا للواقع وتحريكه تبعا لذلك التصور ومن ثم الارتفاع بالواقع وتغييره بإخراجه من دائرته المفهومية التي هي مظهر لحالات الصدور عن السائد من المفاهيم التي خلقت المسار الاجتماعي والثقافي على وفق تصور الآخر، والمحصل هو خروج ورد على «المرجعية العقائدية» وبذلك يكون «الاغتراب» عنها ويلاحظ في قراءات كثيرة هنا أو هناك هي دون شك ليست بالمؤسسة ولا هي بالمبررة وتعزى إلى قصور في الفهم وفصام عن تلك المرجعية وأخيرا يعود إلى عدم توافر الكثيرين على مقوم الشخصية الإسلامية «وضوح الرؤيا» المرتكز على واقعية المفهوم المرجعي وشموليته. وبعد هذه المقربات لابد من النظر في جملة من القضايا ذات العلاقة الموضوعية في النماء الثقافي بلحاظ التأصيل والتعبير عن الهوية والذات وفقا للمنظور والرؤية التي تعد «الثقافة» حقيقة موضوعية وسمة شخصية الامة والفرد فهي مظهر «المرجعية العقيدية» المتصل بالمنظومة المعرفية واسلوبية التعبير توسيعا لدائرتها أو مراعاة للتبادل والتأثير والتأثر بالآخر وفي الوسط الاجتماعي المعاش. الفعل والنظرة المستقبلية إن أطرادية الصحوة الإسلامية وموقف الآخر المتشنج إزائها مؤشري حيوية العقيدة الإسلامية في القيمومة على حياة الامة، واستيعاب مشاكلها والرقي بمستواها والنهوض بها على صعيد أداء دورها الرسالي ـ المرجعي والشهادي ـ بوصفها أمة وسطا أي حاضرة وفاعلة وعليه فلابد من الإسهام تأسيسا في الفكر والثقافة بشقيها المعرفي والأسلوبي لرفد وإدامة الصحوة وتعميم الوعي واليقظة الإسلامية، ولا يتأتى ذلك إلا بتخطيط وبرمجة ممنهجة لعمل ثقافي على ضوء استراتيجية ـ أولويات ـ محددة المعالم، وبذلك يتيح لنا الخروج من قيد الإنشداد للحالة الماضوية التي تختزل «الفعل» و«الزمن» ـ الكينونة الحضارية ـ والمعبرة عن عدم توافر أسلوبية ممنهجة فيتاح بذلك للآخر فرص نفوذ أكثر على حياتنا بأبعادها الفكرية والثقافية والسياسية... الخ. وان تحديد الغاية والأهداف المرحلية والبعدية على ضوء المتاح من الإمكانات والتطلع إلى غد أفضل ومن ثم توسل الطرق والسبل الموصلة إليها بلحاظ الزمن على أي مستوى كان فرديا أو اجتماعيا ضرورة يفرضها عالم التغير ويتطلبها تجذير وجودنا الحضاري، فالسعي والعمل الدؤوب الجاد منحى نحو مستقبل يشير إلى تحول حالوي، وتجاوز «سكون الحالة الدوران» كما هو مستوى معبر عن تطور ورقي في السلوك الإنساني ـ المعرفي والتعاملي ـ والذي يعد تلبية لحاجة أو ميل إنساني صوب «الخلود» تحقيق الذات و«التكاملية» وهما نقطتا اشتراك في الطبيعة الإنسانية ابتداء وانتهاء. وما الركون إلى الماضي ضمن الحالة الساكنة إلا تعبيرا عن التيه والنكوص الفعلي والسير في دائرة الإنغلاق التي تتساوى فيها البداية والنهاية، وبالتالي فلا نقلة للفعل و لا للعقل في صيرورة التكامل والحضور والإشهاد. وبذلك فلا الفرد أسهم في بناء وترميم المركب الإجتماعي الذي هو لبنة فيه، ولا مجتمعه له مساهمة في رفد الإنسانية بنتاج حضاري موسوم كشارة عطاء وثراء ذلك المجتمع. وما حالتي «الجري» و«التقليد» في أية دائرة كانت خصوصا الفكرية والثقافية إلا تعبيرا عن الجمود أو الدوران الموضعي «غير الانتقالي» والذي لاشك انه ماضي معاش يحكي تخلف، أو ماضي حاضر لا أكثر. أي ليس له إمكانية التفعيل، فالوقوف أو الرجوع كلاهما يعدان ماضيا ـ جريا أو تقليدا ـ دون ما إدراك أو إخضاع إلى معيارية ترقى وتسمو بالإنسان ـ «الفرد والمجتمع» نحو مستقبل مؤمل ـ منتزعة من وجهة النظر إزاء الإنسان ودوره في الوجود. وان الحاضر خطوة وبدء مسيرة مستقبلية إذا ما استبطن وحمل «الحاضر» التحول والتغيير وعبر عن نمو وتطور معرفي وأسلوبي منظور في ذلك الواقع بظرفيه ـ الزمان والمكان ـ والغاية المنتظر تحققها في نهاية الشوط بوصفها مؤشر مبدئية الفعل، وان قراءة الأثر «الحي» عن أمير المؤمنين(ع) حيث قال: «فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع؟»([4]) تظهر أن للأثر ديمومة الحضور المعياري في جانبي الشخصية الإسلامية ـ المعرفي والسلوكي ـ في مسارها التعاملي، فيرسم لنا صورة عن فاعلية الإنسان المسلم في المسيرة التكاملية وهي الانتقال السلمي المراعى فيه عنصر الزمن تفاعلا بين المستقبل ـ وهو السير ـ وبين الماضي وهو العودة إلى نقطة البدء فالإبداع والتأسيس الفكري والثقافي هي عملية مصاحبة القصد والهدفية لعمل المفكر والمثقف المسلم بلحاظ الواقع من خلال اكتشاف وضبط آلياته، ومتغيراته وما يصدر عن الآخر سواء ما ينفذ إلى المحيط الإسلامي أو سواه دون إغفال وسائله المتكثرة كماً وكيفاً وما يمتلك من إمكانات هائلة كلها تصب في التمهيد له، وتيسير عملية النفوذ محاولة منه للتأثير بأي قدر ممكن فينا. فمعرفة مؤشرات التغير الإجتماعي، فكرية، ثقافية، واجتماعية ـ إنسانية أو موضوعية ـ تسهم في الإرتقاء بفعلنا وما ينتج عنا إلى مستوى المفهوم الإسلامي عند منهجة برنامج زمني بمعية خطة محددة الأهداف، لنكون قد وضعنا قدمنا على طريق مستقبلي واضح المعالم، وخرجنا بذلك من (دوامة الجري والتقليد) غير الواعي فنسير بدليل على خط مستقيم. فالتوقف وإعادة التقييم ـ سمة حضارية ـ بين الحين والآخر للموازنة والنظر فيما نحن فيه ومانبغي الوصول إليه أي المحاسبية لما قدمنا من مساهمة في إثارة الوعي والتثقيف وإسهامها في البناء واستمرار الصحوة ومن ثم الإنطلاق بخطى اخرى في سبيل تقويمية الفكر والسلوك، فعن أمير المؤمنين(ع) قال: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لاتزيده سرعة السير إلا بعدا»([5]). وأخيرا فان بقراءة نصي الأمام علي(ع) يكون: ـ النظر: ممارسات العقل المكون بمقايسة الفعل. ـ السير: النتاج الصادر إسهاما في بناء المستقبل (الديمومة والإستمرار). ـ الرجوع: عودة إلى نقطة الشروع والوقوف كلاهما ماضي غير منتج فلا «إسهام نهضوي». ـ العامل: الشخصية الإسلامية تكاملية العقل بالفعل. ـ البصيرة: هي المعيارية والإطار المرجعي الذي تحاكيها نتاجاتنا ـ وهو ما يصح أن يطلق عليه «عقل مكون» ـ للارتفاع بالواقع بمتغيراته إلى مستوى المفهوم، لأننا حملة رسالة ربانية وبذلك «النظر» و«السير» على (بصيرة) تحدد معالم المستقبل. إستشراف المستقبل في النتاج الثقافي تكون قراءة الفعل بلحاظ الزمن فكل عمل يسهم في البناء الإجتماعي ديمومة، وتجديداً بأية نسبة كانت هو فعل مقروء فيه تحديد ملامح ومعالم المستقبل فإن موقف الشخصية الإسلامية إزاء الأحداث والظواهر يرتكز المقياس العملي وهو يعد خطوة نحو غاية مستقبلية ويتحدد هذا المفهوم على ضوء مدلول الآية المباركة: (ولتنظر نفس ما قدمت لغد)([6]). وان دل النتاج والفعل عن اقتفاء أثر الغير ـ أعم من الآخر ـ أيضا تقليد فيكون النتاج والفعل قد فقدا الغاية أولاً ولم يستندا لوجهة النظر الإسلامية ثانياً، فهي حالة تكرارية للسائد أي لاتعد ابداعا وابتكارا وبكلمة حصر لكل ذلك أنها لا تضيف شيئا بل تأكيد الحالة السائدة فهي ماضي دون شك. وإن الفعل المنتج يؤسس على ضوء معيارية أو إطار مرجعي لتجاوز وتخطي الحالة السائدة الناشئة عن الإبتعاد عن تحكيم الإسلام في الحياة، وبذلك يحرك ويفعل الواقع وفق وجهة النظر المتبناة فيها فالحاضر خطوة بدء دائما. فالزمن والفعل خط إنتاج تتام فيه الخطوات كي يكتمل البناء بتتابع وضع اللبنات بعضها فوق بعض فكل يسهم فيه حسب استطاعته فالمستقبل إيضاح لمبهم أو إضافة أو إبداع في جانب لم يتناول بما يتناسب والواقع ـ بظرفيه الزمان والمكان ـ والإرتفاع به إلى مستوى المفهوم فيكون بذلك سمة خصوصية لنمو وتغير الوضع تجاه ما خطط له أو ما هو مطلوب أن يكون. يفهم الإنشداد إلى الماضي أو الحالة الماضوية بفقدان الهدفية والقصد في الفعل والتصرف بأي شكل كان لإنعدام الرؤية المستقبلية والتي تعني أما توقف، (تكرارية الفعل) وما ينتجه العقل واما رجوع وعودة إلى حالة سابقة والتي تعبر عن الإعتياد إستسهالاً لأنه عبارة عن نقل وإستنساخ لفعل وناتج الغير فلا يحتاج إلى عناء كثير وبذل جهد كالتأسيس والإكتشاف والإبداع والتي تظهر الإمكانات والقدرة العقلية والقابلية على تشخيص المتغيرات. الثقافة والتأثير المتبادل إن الثقافة ظاهرة موضوعية رافقت الوجود الإنساني على البسيطة، فكما هي تسم شخصية الأمة فهي عنصر مقوم لها وهي الإطار الذي تتأطر به الشخصية الفردية، والتعبير عن مستوى ودرجة ما تحمل هذه الشخصية من وعي ووضوح رؤيوية من خلال التعامل داخل دائرة المجتمع أو مع الآخر فالثقافة هي (أسلوب الحياة في المجتمع) كما يراها (هاري شاپيرو)([7]). الثقافة: المعنى اللغوي والإصطلاحي: لقد استعملت كلمة (ثقافة) في لغة العرب للدلالة على معان متعددة، سرعة الفهم والتعلم والضبط والحذق والفطنة، والذكاء والتقويم، والتهذيب والظفر بالشيء والتغلب عليه، كما في قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)([8])، ويقال للرجل ثقف بتسكين القاف وبكسرها وضمها، ويقال للمرأة ثقاف ويقال رجل ثقف، كقف إذا كان ضابطا لما يعلم قائما به([9]). واستعمل الرومان (الثقافة) للدلالة على القانون والآداب والعلوم وقد استعاروا كلمة Culture اللاتينية والتي تعني الزراعة وتحسين الأرض وتيهئتها إلى التعبير عن الواقع الإجتماعي وعطاء الفكر. وفي عصر النهضة الأوروبية أصبح اللفظ يطلق على الآداب والفنون يقول (هنري لاوست) أن الثقافة هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لأمّة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمّة تمتاز عن سواها)([10]). ويعرف إدوارد تايلور (1871) الثقافة ـ إن الثقافة هي الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين([11]). ويرى الأستاذ مالك بن نبي «الثقافة هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد شخصيته وطباعه»([12]). إن التقييد ـ ثقافة «إسلامية» وثقافة «غربية» انجليزية، فرنسية وألمانية.. الخ ـ ذو دلالة في التعبير عن خصوصية ذات صلة بالإطار المرجعي والمعتقدات للأمم والشعوب والأقوام. الحراك الثقافي إن ثقافية التعامل مع الآخر تتخذ أوجهاً أهمها: 1 ـ التبادلية الثقافية في المجال المسموح به وفق معيارية مستندة إلى تصور شمولي يرجع إليه في التقبل والنقل من الآخر دون مساس في الشكل والمحتوى الذاتي للشخصية الحضارية بسمتها المميزة. 2 ـ التعارض: ويبنى عليه الرفض لنتاج الآخر والتحصن إزاءه تبعاً للمعيارية المرتكزة في الحكم والتقييم ومن ثم الرفض والتسور تجاه ما يصدر من الآخر بالتأسيس لا بالإعراض والإحجام فحسب محاولة لتجاوز خطوط الدفاع ووضع الحواجز خارج الدائرة الثقافية والإجتماعية بغية اشغاله والتأثير فيه بأي مستوى كان. 3 ـ الازدواج: وإنه يمثل حالة انقسامية أو خروج عن البنية الثقافية التي تتسم بها الشخصية الفردية والاجتماعية، وتعود مثل هذه الحالة للشعور المفرط بضرورة تقليد الغالب أو المتفوق، ويعزيها التحليل النفسي إلى (عقدة الحقارة) والشعور (بمركب النقص) التي يعيشها الأفراد لفقدانهم الوضوح المفهومي، والذي يترتب عليه أو ينشأ عنه إزدواجية الشخصية، وقد ورثنا تلك الحالة عن مرحلة التخلف وعصر تسلط الآخر الذي عمل بكل ما أتيح له من سبل ووسائل لإبقائنا على تلك الحالة وإذابة أمتنا في كيانه الحالوي لا الحضاري من أجل استمرار ذلك الشعور، وتحذير التبعية فينا. وعلى ضوء ما تقدم تظهر ضرورة المعيار والضابط في المقايسة والإستعارة أو الرفض والقبول لنتاج وثقافة الآخر، وفي صيغة التعامل معه وسواء أكانت الثقافة هي (المحيط) أو (الكل المركب) أو (الموروث) من عادات وأفكار يتكون فيها (مبدأ خلقي) وتنشأ منها عقلية خاصة حسب (مالك) أو (تايلور) أو (لاوست) أو سواهم فالثقافة لها شقان إحداهما يرتبط بالأسس والأصول المفهومية والمنظومة المعرفية والثاني يرتبط أو يتصل بـ(الأسلوبية) في التعامل والتفاعل والتعبير عن الشق الأول مع أن كليهما يؤطر شخصية الامة وأفرادها ويضفي عليها الطابع المميز والصيغة الخاصة التي تسمها عن غيرها (على رأي الكثير من علماء الإجتماع والانترويولوجيا الحضارية)([13]). وإن الثقافية تستند إما وجهة نظر مرتكزة إطار منهجي محدد واما أنها تتشكل وتتهيكل مع التقادم الزمني ووفق ممارسات وخبرات إجتماعية وموضوعية تألفها أمة أو شعب وتتواضع عليها وفي كلا الحالتين تحدد وسائل وطرق التعامل مع الآخر في منحنى نمطي للقيد أو اللاقيد في الإنفتاح عليه ولكل منهما درجة أو نسبة سماح تبع المقياس المعتمد في هذا المجال. التأثير الثقافي فالتأثير والتأثر الثقافي حقيقة قائمة لا يمكن تجاهلها ولها حضورها النسبي على الإمتداد الزمني لمحور العلاقات والإحتكاك بين الأمم والأقوام فليس لأمة أو شعب الإستقلال أو الإنعزال في ظرفية زمانية أو مكانية معينة، وإن استقراء التاريخ المدون والواقع الحالي يدلنا على ذلك. كما أن التأثير الثقافي (التفاعل) بشقيه السلبي والإيجابي له مناحي نمطية فالإيجابي أما أن يكون بالإفادة من نتاج الآخر أو تفعيله لإدخاله ضمن الدائرة الثقافية في أحد المستويين المعياري أو الأسلوبية. ويكون التأثير الثقافي السلبي بنمطين اما (بالغزو الفكري الثقافي) للآخر أو التقبل غير المشروط وعلى ضوءهما تنشأ حالة الإزدواجية والتهجين الثقافي، وربما يكون للتأثير السلبي منحنى آخر كمحفز للتأصيل وبذل الجهد في عملية تنمية وبناء تأسيسي وثقافي مقابل الصادر من الآخر بوضع حاجز محيطي للحفاظ على بنيوية الثقافة كسمة للشخصية الحضارية. فحالة التبعية والإنقياد والخضوع التام الذي ألفه بعض أبناء الأمة الإسلامية قد عاشه إنسان الغرب يوما ما حين كان مبهورا ومشدودا لنتاجنا الثقافي وعطاءنا الحضاري (الفكري والمعرفي) وقد تنبه الأوروبيون أنفسهم منذ زمن بعيد إلى تأثير الفنون الإسلامية في فنون الغرب. فكتب (سمث) مقالا حاول فيه تفسير شريط الكتابة الكوفية في صندوق العاج الشهير بكاتدرائية «بايه» وأشار إلى تحفة فنية ـ موجودة الآن في متحف ليون ـ ظن أن فيها تقليد حروف عربية([14])وإن احتجاج تراث البابا (اتسونت الرابع) قد سبق (سمث) هذا بما يزيد على خمسة قرون على ما فعله البنادقة ـ عمل البندقية من صك نقود ذهبية للتعامل مع المسلمين وعليها كتابات عربية وآيات قرآنية فضلا عن التاريخ الهجري، وقد تحدث أميل بوتو سنة 1865 عن التأثيرات الإسلامية في بعض العمائر المسيحية بإيطاليا وفرنسا([15]). وان الملك (أوقا) ملك (مرسية 796 ـ 757)م قد صك عملة نقدية ـ وهي محفوظة في المتحف البريطاني الآن ـ وقد نقل حرفياً كتاباتها وهي تقليد لدينار عربي وظاهر فيه التاريخ الهجري (157هـ) فقد وضع اسم الملك (أوقا) في وسط العملة تحيطه الكتابة العربية والتاريخ الهجري. كما ويختم كريستي كتابه بقوله: «وخلاصة ما ذكرناه في هذا البحث أن دين العالم الغربي للإسلام في فن العمارة كبير في مجموعه»([16]). وكذلك ينقل أن واجهات وشرفات جوامع وبناءات لكنائس وقبور مسيحية قد تأثرت بالمساجد والجوامع الإسلامية، وان يدل هذا النقل والتقليد من قبل الأوروبيين على تفوق المسلمين آنذاك لتمسكهم بإسلامهم وحفاظهم على أصالتهم، وصفة المغلوب والضعيف هو تقليد من يتوسم به صفات الغلبة والتفوق عليه بأية درجة كانت تلك الخصائص الإبداعية والتفوقية. ولابد أن نشير إلى اعترافات مفكري وفلاسفة ـ النخبة ـ الغرب فيقول غوستاف لوبون (لولا حضارة العرب لتأخرت حضارة الغرب خمسة قرون) كما وان (هاري شاپيرو) أشار إلى دور الثقافات التي استولى عليها الغرب في عصر الاكتشافات والاحتلال في بناء تقدمه وازدهاره الحالي([17]). ولقد قدر (سير دوك) هذه الثقافات التي نقلت إلى الغرب بنحو ثلاثة آلاف ثقافة متميزة بخصائص معينة كل على حدة وهي تعود إلى عصر الإكتشافات الذي افتتحه الملاحون البرتغاليون في القرن الخامس عشر الميلادي والأوروبيون ينتشرون في كل نواحي العالم([18]). إن عمليات الانفتاح والإزدواج أو التهجين والغزو الثقافي والفكري ملاحظة ولها واقع دون أدنى شك فالغرب حين أخذ منا لم يكن لديه معيارية أو ضابطة للاستعارة غير إنه كان يرى مثلما ننظر إليه اليوم بأنه قد احرز سبق التقدم والتطور واعمل وسائله المختلفة في إستغلال موارده فهو متفوق علينا اليوم كما كنا نحن سابقا، غير أنا نباينه في حالته السابقة بإمتلاكنا معيارية في التقييم والحكم لم يمتلكها هو آنذاك. وعليه نسأل وبغية أن يكون لمثل هذه المواضيع أهمية على ساحتنا الثقافية والفكرية ـ لماذا نطالب نحن بالإنفتاح على الآخر!! ولماذا يسعى الآخر لإفنائنا فيما ينتج وتصطبغ شخصيتنا بصبغته؟!! فإنّا أمّة عطاءها حاضر خلال أربعة عشر قرنا وآثارها شاخصة في أرجاء العالم الغربي واليوم المعاش. في التنمية الثقافية إن المقوم الأهم في عمليات التغيير الإجتماعي ومحاولة إيصال الفرد والمجتمع إلى مستوى معين من الوعي وتمثل المفاهيم المرتكزة في احداث التغيير والتحول الإجتماعي هو بث وتوسيع المساحة المفعلة ـ أي المصاغة وفقا لها ـ بتلك المفاهيم المراد صياغة وبناء شخصية الإنسان على ضوئها، ولا يتم ذلك إلا عن طريق اتباع منهج مخطط وإستراتيجية محددة الأهداف وبالتالي تفعيل الواقع الإجتماعي ضمن الإطار المفهومي والإفادة من التجسيد الواعي لحملة الفكر في تيسير عملية التبني وإيضاح واقعية المفاهيم في حل إشكاليات الحياة الإجتماعية، والتي تسهم دون شك في إتباع دائرة التأثير والجذب تجاهها والتنمية مفهوم شاع إستعماله وتداوله عقيب الحرب العالمية الثانية وكان إطلاقه قبالة التخلف والتردي الذي تعاني منه المجتمعات المتخلفة خصوصا في الجانب الإقتصادي. فالتنمية بالمعنى الشامل وضع أهداف وإختيار وسائل لبلوغ تلك الأهداف في أي ميدان من الميادين بلحاظ أن تكون تلك الأهداف والوسائل مؤسسة في ضوء التصور المنتجة عنه لتلافي حالات الإخفاق والإحباط الذي تصادف الخطط التنموية لتعارضها مع توجهات الإنسان وتطلعاته وآماله التي لها ارتباط بأي درجة كانت مع ما يؤمن به وما يعتقده والذي يمثل الإطار المرجعي له الذي يحتكم إليه في تعامله وسلوكيته بل قد تنبثق عنه آلية السلوك والتصرف واتخاذ المواقف إزاء الأحداث والظواهر المختلفة فكلما كانت تلك الأهداف والوسائل منظور فيها الموافقة والتطابق أو الانبثاق عن التصور العام الذي يعود إليه الإنسان في المحاكاة والحكم كان ضمان النجاح وإحراز نسبة عالية من التجاوب والتفاعل مع الأهداف والتفاني في تحقيقها لأنها تعبر بدرجات متفاوتة عن الوجود وأداء الدور والذي هو وجه الشعور بالمسؤولية المتفرع عن الإيمان والإعتقاد والإنتمائية لفكرة وعقيدة ومذهب ما، وما نقصده بالتنمية الثقافية هو المحاولة الجادة التي لابد أن يقوم بها المثقف الإسلامي والمؤسسات الإسلامية في الإسهام في نشر الوعي الإسلامي بالصورة التي يضمن فيها التأثير في سلوكية المجتمع مع تعزيز الممانعة في ذهنية الإنسان المسلم حيال الوافد من الأفكار والثقافات الاخرى أن النزاعات الانحرافية التي تطلق هنا أو هناك في أرجاء الوطن الإسلامي الكبير والتي تحسب على الفكر والثقافة الإسلامية وهي في الحقيقة بعيدة كل البعد عنهما والتي لا تعبر إلا عن التبعية ومحاولة الإرضاء الناشئة عن القصور المفهومي وقلة الوعي الذي يتصف بها أصحابها والمعززة لفقدان حالة التمييز التي تتمتع بها الشخصية الإسلامية والتي تعد أحد عناصرها (وضوح الرؤيا). ولابد من النظر في جملة من القضايا ذات العلاقة الموضوعية في الإنماء الثقافي بلحاظ التأصيل والتعبير عن الهوية والذات وفقا للمنظور والرؤية التي تعد الثقافة سمة مميزة للأمم والشعوب خصوصا ما يتصل بالمنظومة المعرفية واسلوبية التعبير عنها توسيعا لدائرتها أو مراعاة للتبادل الثقافي والتاثير والتأثر بالآخر. 1 ـ تحديد المفاهيم: لكل علم من العلوم وباب من أبواب المعرفة مصطلحات متداولة وربما تختص في تلك المجالات دون غيرها ومن له أدنى إطلاع فيها عند سماعها يتعرف على المراد بها، ونتيجة لتسارع التطور والنمو والتواصل والتبادل الثقافي والعلمي بين الأمم والشعوب كان لبعض المفاهيم والمصطلحات عمومية وشمول في الإستعمال لخلوها وإبتعادها عن الخلفية التي ترتبط بالمتبنيات والإعتقاد والبعض الآخر، المتبادر منه عدم الفصل بينه وبين الرؤية والتصور المستند عليه والمرتكز إليه. والإسلام رسالة سماوية، وعقيدة، ومنهج حياة فله مفاهيمه والمدلولات المرتبطة بها والمعبرة بنسب مختلفة عن الصلة بالرؤية الإسلامية، تجاه الأشياء، وقد لاحظ ذلك الكثير من المفكرين المسلمين والتزموا ذلك في التعبير عن وجهة النظر الإسلامية في خطاباتهم وقراءاتهم الموضحة لجوانب حياتية وحل إشكالياتها وفق التصور الإسلامي فالشهيد الصدر(رض) قد خصص لهذا الموضوع بابا في إقتصادنا في ما أفاده في اكتشاف النظرية الإقتصادية الإسلامية وأوضح انعكاسات المفهوم على الحكم الشرعي كما هو في مفهوم الملكية والتداول وما يترتب على ذلك من التزامات وحقوق وما إليها. وكذا أن سيد قطب قد أشار إلى ذلك عندما عنون كتابه «نحو مجتمع إسلامي» بإضافة (متحضر) إليه ثم عاد وإعتمد الإطلاق في العنوان (مجتمع إسلامي) لأنّ الإسلام هو الحضارة والمجتمع الملتزم به دون شك مجتمع حضاري فلا ضرورة للجري والتقليد مراعاة للآخر على حساب العقيدة ومداليل مفاهيمها. غير أنا نطالع في قراءات متعددة ومختلفة المصادر والإتجاهات محاولات متعددة لوصف الإسلام بصفات ليس لها مرتكز في المنظومة المعرفية، وهذه المحاولات الإستجدائية ما هي إلا تعبير لضعف الوعي الإسلامي لهؤلاء وعدم إحاطتهم المعرفية بالإسلام عقيدة ومنهج حياة فضلا عن الارتباط بالسماء، والمثقف الإسلامي المؤمن بالإسلام نتيجة لوعي سابق لا يكون له الحرية في التعبير كيفما اتفق دون الخضوع للإطار المرجعي الإسلامي. وإن القرآن الكريم يضع أمامنا منهجا متميزا للتعامل مع الآخر وفي التعبير عن وجهات النظر حتى إنه منع من استعمال الألفاظ التي لها صلة وإرتباط وخلفية غيرية كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا...)([19]). والمعروف أن هذه الكلمة سب بالعبرانية كما ورد في بعض الروايات([20]) وعلى غرارها في الوقت الحاضر نجد الكثرين ممن يحسبون على الفكر الإسلامي يحاولون أن يؤطروا الديمقراطية بالإسلام أو الإسلام بالديمقراطية وان الديمقراطية كما هي في تصور البعض «ليست مجرد شكل وإنما أيضا مضمون ورؤية للفرد والقيم والعلاقات السياسية والإجتماعية» وعلى هذا المدلول فهي مقابل الإسلام عقيدة ونظام ومنهج حياة فإذا كان «ما من واقعة إلا ولله فيها حكم» فقطعا هذه المحاولات تعبر عن تبعية ونكوص وشعور نقص إزاء ما يصدر عن الغرب ليس إلا والنظر إليه بنظرة الإكبار تقابلها نظرة إلى الذات بالحقارة والإستصغار. وإن هذا المصطلح أخذ مدلولات متعددة ومختلفة (حكم الشعب) أو (حكم الأغلبية) ثم أخيرا تطلق ويراد بها التعددية الحزبية وهي بجملتها بعيدة محتوى ومضمونا عن الرسالة الإسلامية بأبعادها ومرجع هذه التبعية وحالة الإستجداء تعزى دون شك إلى الاستغراق في البعد السياسي غير المؤسس على منظومة معرفية، والتوجه الخاطئ صوب السلطة بنظرة غيرية تفتقد الجذر العقيدي المقوم. 2 ـ الإسلام والواقع: والثابت أن الإسلام، رسالة ربانية تتصف بالشمول والعالمية، وأنها إلى الناس كافة منذ البعثة المحمدية المباركة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولازم هذه الدعوى أن تكون الرسالة مستوعبة لكافة إشكاليات الحياة الإنسانية سواء ما يتعلق بالعلاقة بين أبناء المجتمع الإسلامي أو سواء ما يتعلق بالعلاقة بين الفرد وأسرته والعلاقات بين الدولة الإسلامية والدول الاخرى، ولكل ضوابطه ومحدداته وفق التصور ووجهة النظر الإسلامية، وكان المجتمع الإسلامي يضم أهل الكتاب اليهود والنصارى وكانت هناك قوانين توضح ما لهم وما عليهم ضمن أجواء المجتمع والدولة الإسلامية، ونقد روعيت حقوقهم ومنحوا الحريات الكفيلة بممارسة شعائرهم ومعاملاتهم فيما بينهم أو بينهم وبين المسلمين. وكان لسماحة الرسالة الإسلامية والحكام المسلمين في التعامل معه الأثر البارز في تعاونهم مع الدولة الإسلامية فضلا عمن آمن واعتقد بالإسلام، وقد أسس الإسلام حضارة لم تعرف الإنسانية مثيل لها لازلنا نحيا ظلالها الوارفة، غير أن انحسار الإسلام عن الجانب السياسي من الحياة الإجتماعية افقدها عنصر أساسي في إغناء التجربة، وتعزيز معطياتها وكان لعوامل متعددة بمناحي مختلفة وعن مصادر متعددة الدور في محاصرة وتضييق دائرة التأثير الإسلامي، ووضع الحواجز بين الإسلام وأبنائه. فتعدد الأحزاب والمذاهب والتيارات داخل العالم الإسلامي بحثا عن طريق للخلاص من عوامل التخلف والتردي والنكوص فطرحت بدائل أيديولوجية للقيمومة على حياة المسلمين بدلا وعدلا عن الإسلام وقيادته وقيمومته فكان الإنكفاء والتبعية ونقل تجارب الآخر تعليلا لبلوغ ما بلغه من تقدم وتطور في الميادين المختلفة إلا في الجانب القيمي الإجتماعي فإن الآخر يعاني التيه والضياع فلم تمكنه من الإرتفاع والسمو في مجال العلاقات الإجتماعية والإنسانية، فضلا عن العلاقة الإستعلائية والإستغلالية تجاه الآخر المغلوب اللاهث في جريه خلفه. وبعد قيام الدولة المباركة (الجمهورية الاسلامية) ازداد وترسخ الإيمان بقدرة وقابلية الإسلام في قيادة الحياة لأجيال عاشت بعد عهود الإستقلال التي كان الدور القيادي البارز والأهم لمساهمة الإسلام وعلمائه وأبنائه في إبعاد المستعمر عن البلدان الإسلامية وهذا كان باعتراف المستعمر نفسه حيث علل الروح الثورية بالإرتباط بالإسلام والقيادات الإسلامية آنذاك. وإذا كان لايجهل هذا الدور والأثر الذي تركه الإسلام على هذا المستوى كذلك لا ينكر دوره البارز وأثر حضارته في واقع التجربة التي يعيشها الآخر والتي هي مدينة في بعض جوانبها إلى الثقافة والحضارة الإسلامية، لذا عمل ويعمل الآخر متخذا كافة الوسائل للسيادة والسيطرة على العالم خصوصا بعد فشل تجربة الماركسية وتلاشيها أشلاء موزعة مما أطمعه في الإنفراد بقيادة العالم، ولاخطر ولا شيء يقلقه غير الإسلام بمبادئه وتعاليمه السامية التي هي منشأ مخاوفه وعدم إستقراره مما دفعه إلى الصراع العلني في موطنه كما نرى ذلك في فرنسا الديمقراطية وغيرها من بلاد الغرب فضلا عما غرسه من عملاء وإفادته من المنافقين الذين يمثلون محطات تعبير وسطية لمفاهيم الآخر وإبرازها بالشكل الذي يغري الجهلاء وأنصاف المثقفين والتبعيين الذين يرون أن تقدم الآخر يعني الإقتداء والإحتفاء بما يصدر عنه بلا قيد أو شرط متجاهلين أو متغافلين عن قيمومة الإسلام وقدرته وحيويته في إعادة البناء وصياغته وفقا لوجهة نظر إستقلالية فلا يصلح آخر هذه الامة إلا بما صلح به أوّلها، ومنشأ الجهل والغفلة هو إختلاف المفاهيم والإبتعاد عن الخط الممثل للإسلام والمجسد له فضلا عن الإكتفاء الذاتي للبعض بما توافر له من فهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة فكانت قراءاتهم وما يصدر عنهم بإسم الإسلام مجاراة للمتغيرات وإرضاء للواقع الذي يعيشه حيث الآخر متقدم وهو متخلف فلا سبيل أن يوصف بالثقافة والتقدم إلا بالجري والتقليد وتبني نتاج وطروحات الآخر وفهمه لوقائع الحياة فان لم ينجح الآخر ويوفق في المواجهة المباشرة فقد نجح في خلق هذه الطبقة المسلمة بالجنسية والمحسوبة ثقافيا على الإسلاميين وهم بالحقيقة ممن حول المدينة. 3 ـ المساهمة الثقافية: ولابد من مشروع ثقافي تنموي يلحظ فيه إتجاهات ومسارات الآخر وفي ذات الوقت يراعى فيه تعميم الثقافة والوعي الإسلامي بين الجماهير للمساهمة في الحد من تأثير الآخر بتوجهاته المختلفة وبأساليبه التي يتوافر فيها مراعاة الظرفية الزمانية والمكانية مما يساهم في ضمان توسيع دائرة نفوذه والتي لا تقابل بأساليب مضادة إلا ضمن دوائر ضيقة والسبب يعزى إلى الإمكانات المختلفة له والتي يعاني منها المثقف المسلم حيث لا مؤسسات ولا هيئات تتكفل ذلك إلا ما يتاح لأفراد مبثوثين هنا أو هناك للتصدي والمواجهة على قدر إستطاعتهم وما أتيح لهم من أساليب التعبير المحدودة. ولابد أن يتوافر في المساهمة الثقافية جملة من العناصر لضمان الفاعلية والتأثير في اللحاظين أعلاه تجاه الآخر أولاً وتجاه تنمية وعي وثقافة الجماهير الإسلامية ثانيا. 1 ـ إرتكاز التأسيس في الصادر من النتاج إبداعا واكتشافا للنظريات الإسلامية التي تعالج الإشكاليات المختلفة. 2 ـ متابعة الصادر (الفكري والثقافي) عن الآخر، واعتماده للمقارنة مع الفكرة الإسلامية بأصالة الفكر الإسلامي في المحاكاة والمقايسة. 3 ـ متابعة الصادر داخل الدائرة الإسلامية والذي لا يمثل وجهة نظر إسلامية بل يعبر عن ازدواجية البعض الحامل والناقل لثقافة الآخر، ومحاولة بيان وجهة النظر الإسلامية المقابلة لتعزيز حالة التمييز بين النتاجين لدى القارىء المسلم وهو عامل في بث وتنمية المفاهيم والثقافة الإسلامية. 4 ـ إن الدور الأكبر يبقى للمؤسسات ورعايتها للحركة الثقافية ومساهمتها وتبنيها لذلك عن طريق الندوات الثقافية أو تشكيل اللجان والهيئات الثقافية على مستوى الرقابة ورعاية الحركة الثقافية من أجل الإسهام في إحياء الفكر الإسلامي والتصدي للهجمة الشرسة المؤسسة من أجل إفناء واذابة المثقف والمفكر فضلا عن الحد من تأثير التيار الإسلامي في دائرة الأمة ودائرة الآخر. وعليه ووفقا لذلك يكون بالمقدور مواجهة التحديات التي تواجهها أمتنا وعقيدتنا والأجيال الإسلامية اللاحقة ونضع بالتالي إشارات دالة كما هي في الوقت نفسه حواجز أمام الأفكار والعقائد الأخرى من التأثير الواسع في الوسط الثقافي والفكري الإسلامي. -------------------------------------------------------------------------------- [1]- يراجع السيد الشهيد الصدر، إقتصادنا مقدمة الطبعة الثانية، بيروت، دار الفكر، ص7 ـ 27. [2]- العلوان، د. هاشم عباس، النظرية الاقتصادية، مطبعة الجامعة، بغداد، العراق، 1970، ص57. [3]- السيد الشهيد الصدر، دروس في علم الأصول، ج1، ص41. [4]- الآمدي، درر الحكم وغرر الكلم. [5]- الآمدي، م. س، ص320. [6]- سورة الحشر، الآية: 18. [7]- هاري شاپيرو، نظرات في الثقافة، ص3. [8]- سورة الأنفال، الآية: 18. [9]- لسان العرب، لسان العرب (مادة ثقف) ج2 ص111. [10]- د. نادية العمري، أضواء على الثقافة الإسلامية، بيروت، ص15. [11]- د. نادية، م. س، ص16. [12]- يراجع، مالك بن نبي، شروط النهضة ومشكلة الثقافة، دار الفكر بيروت. [13]- اوتو كلنبرغ، علم النفس الإجتماعي، ص91. [14]- كريستي إرنولد، تراث الإسلام، ص 3 ـ 5. [15]- كريستي، م. س، ص9. [16]- كريستي، م. س، ص155. [17]- محمد حبش، المسلمون ص30. [18]- نظرات في الثقافة، م. س، ص22. [19]- سورة البقرة، الآية: 104. [20]- الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، بيروت، مؤسسة الأعلمي ج1 ص178.