بحث موجز بعنوان: أشكال الحروب الصليبية الحديثة في محاربة الإسلام وبيان أنّ الحروب الصليبية لم تنته G علي الدهواري السراواني بسم ا لله الر حمن الر حيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: بحث موجز قدمته إلى المؤتمر العالمي الثالث عشر الذي سيعقده بإذن الله مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية بمناسبة أسبوع الوحدة لعام 1421 هـ. بطهران. أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا القول الصحيح والعمل السديد. يتضمن البحث ثلاثة أقسام: تحت كل قسم منها عدة قضايا شارحة له. ثم ألحقت بها خاتمة تحتوي على كلمة الشكر بالإيجاز. 1 ـ المقدمة وتحتوي على بيان خطر الصليبية والإشارة إلى أنّ الحروب الصليبية لم تنته. 2 ـ شرح الوسائل التي يستعملها أعداء الإسلام في حربهم ضد الإسلام وهي: أ ـ الإستشراق ب ـ التبشير ج ـ محاربة اللغة العربية د ـ الحط من شأن العرب الجاهلين هـ ـ محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة. 3 ـ بيان أهم التيارات الفكرية: أ ـ المادية ب ـ الوحدوية ـ ج ـ العلمانية. الخاتمة: تحتوي على كلمة الشكر للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية. 1 ـ المقدمة: بسم الله الر حمن الر حيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأكملان والأتمّان على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين وبعد: فإنّ الشيء الذي يجب أن لا يشك فيه المسلمون هو عداوة اليهود والنصارى للإسلام وأتباعه وأنّ الحروب الصليبية لم تنته. فمنذ خرجت أوربا من ظلام القرون الوسطى تطلعت الى الشرق، الذي كان الضعف قد دبّ فيه. فصار فريسة للدول الأوربية فاستعمرت أكثر دوله. وكانت أوطان المسلمين أول ما احكمت عليه قبضتها.. وكان الإستعمار الغربي يهدف من وراء السيطرة على أوطان المسلمين إلى استغلال هذه الأوطان أرضاً وبشراً. ثم إلى محاربة العقيدة وإجلائها من قلوب المسلمين ومحاولة تحقيق ما عجزت عنه الحروب الصليبية من قبل. وذلك لما يعلمه المستعمرون من خطر الإسلام على خططهم، لأن المسلم الذي يستظل براية التوحيد لا يخفض رأسه إلا لله ولا يحني قامته لغير الله. وهذا من شأنه أن يبعث في نفسه العزة والكرامة وإباء الضيم ولهذا عمل المستعمرون على محاربة الإسلام حرباً خفية بالعلم، بعد أن حاربوا المسلمين حرباً سافرة بالحديد والنار. وهكذا استمرت الحروب الصليبية بعد أن اتخذت أشكالاً مختلفة وألواناً متعددة. ولذلك يخطىء من يظن أن الحروب الصليبية قد انتهت. لأن الحقيقة والواقع أن الحروب الصليبية لم تنته وأنّ أعداء الإسلام في العصر الحديث يستعملون أسلحة جديدة في حربهم ضد الإسلام وحقائقه الناصعة وفي محاولاتهم الدؤوبة للتشويش على الدعوة الإسلامية بتلفيق الأباطيل لتشكيك المسلمين في حقائق دينهم وصرف الشباب عنه بكل وسيلة ممكنة... وقد اتخذت الحروب الصليبية في العصر الحديث أشكالاً. سأحاول بعون الله أن أعرض أهمها في هذه المقالة حتى يتنبه المسلمون إليها، ويفطنوا إلى ما يُدبره أعداء الإسلام من ورثة الصليبيين ضد الإسلام للتشكيك في مصادره. ومحاولة إغراق أقطار الإسلام بالتيارات الفكرية المضللة، واستغلال وسائل الإعلام المختلفة في إفساد شباب المسلمين، بإبعادهم عن دينهم والحرص على تضليل أبناء المسلمين الذين يدرسون خارج أوطانهم، بإلقاء كثير من المفتريات في محيط الإسلام للتهوين من شأن الدعوة الإسلامية والتقليل من أثرها في الحياة، وفي الإرتفاع بالمستوى الإنساني، وبدورها في انقاذ الإنسانية وتحريرها من العبودية وإخراجها من الظلمات إلى النور. كما أنّ هذه المفتريات والأباطيل تحاول التقليل من شأن الثقافة الإسلامية ودورها في نشر العلوم والمعارف وفي نقل أوربا من العصور الوسطى ـ عصور ـ الجهل والظلام الى مشارف العصر الحديث. وما ظهر فيه من علوم ومعارف يفخر بها العلم والعالم الغربي. 2 ـ الوسائل التي يستعملها أعداء الإسلام في حربهم: ينبغي ان نكشف الأسلحة التي يستعملها أعداء الإسلام ورثة الصليبيين في حربهم السافرة والخفية ضد الإسلام والوسائل التي نتّقي بها شرّهم ونُردّ بها كيدهم في نحورهم وبالله التوفيق. أولاً: الإستشراق: إن الإستشراق في الحقيقة امتداد للحروب الصليبية ضد الإسلام وحقائقه الناصعة. فالمستشرق يجيء الى الإسلام لابساً لباس العلم في الظاهر ومدعياً البحث عن الحقيقة ولكنه في الباطن عاقد النية على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام وهو بهذا يتنكر لمنهج العلم الصحيح الذي من شأنه أن يعرض الحقائق دون أن يمزجها بمرارة حقده. ودون أن يحاول تشويهها بصورة من الصورة. والمتتبع لحركة الإستشراق يجد انّه مواكب لحركة الإستعمار الغربي لبلاد الشرق والإسلام مما يدل على أنه امتداد للحروب الصليبية. والإستشراق مصدر الفعل استشرق أي اتجه الى الشرق ولبس زي أهله وقد اتخذ المستشرقون من دراسة لغات الشرق وسيلة للإتجاه اليه. وأقبلوا على دراسة اللغة العربية خاصة والتحقيق في علومها. ثم نظروا في علوم الدين الإسلامي من عقيدة وشريعة لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة لتلفيق الأباطيل للتشكيك في حقائق الإسلام وصرف المسلمين عن دينهم الذي يهديهم الى طريق العزة والتقدم. ولذلك يخطىء من يقول أن الإستشراق حركة علمية لاهدف لها إلاّ دراسة التراث الشرقي، لأن الاستشراق يتخذ من دراسة هذا التراث وسيلة لمحاربة الإسلام والتشكيك في مصادره ليصرف المسلمين عن دينهم، فلا تتحقق لهم قوة ولا عزة، بل يظلون تابعين للغرب، مقلّدين كل ما في بلاده من ألوان الفساد والإنحلال. وأوضح دليل على صلة الإستشراق بالإستعمار وأنه شكل من أشكال الحروب الصليبية أن سوق الإستشراق رائجة في أوربا وأمريكا في الدول التي لها مصالح في الدول الشرقية بصورة عامة وفي الدول الإسلامية بصورة خاصة، وأن هذه السوق أكثر رواجاً في الدول الاستعمارية التي تحاول غزو الدول الشرقية بأية صورة من صور الغزو المعروفة في العصر الحديث، سواء كان هذا الغزو عسكرياً أم اقتصادياً أم سياسياً أم ثقافياً، بل لا تكاد توجد سفارة من سفارات هذه الدول الاستعمارية في دولة من دول الشرق الإسلامية لا يوجد فيها مستشرق أيا كانت رتبته بين رجال السفارة والعاملين بها. إن الإستشراق يواصل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، لان هذا الدين الحنيف هو السد المنيع الذي يقف في وجه الإستعمار والعبودية لغير الله ولأن المستشرقين يعلمون من دراساتهم للإسلام أن العقيدة التي جاء بها ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإسلامية العامة، والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة. بحيث لا يمكن لعقول المفكرين أن ينقضوا أصلاً من أصولها اذا التزموا منهج العلم الصحيح. ولذلك يحاول الإستشراق التشويش على دعوة الإسلام بتلفيق الأباطيل واتخاذ البحث العلمي ستاراً يلفق المستشرقون من ورائه هذه الأباطيل. وقد أصبح الإستشراق مظلة لكل أعداء الإسلام فأخذ يستظل بها أصحاب العقائد الفاسدة الباطلة من الشيوعيين وأنصار المذاهب الإلحادية الإنحلالية في العصر الحديث. فقد جمع هؤلاء بغضهم للإسلام لأن أساسه التوحيد وهو زبدة الرسالات الآلهية وغايتها ترتكز كلها عليه، وتستند في وجودها اليه وتبتدىء به وتنتهي اليه. فكل رسول ابتدأ دعوته لقومه بقوله «إعبدوا الله مالكم من إله غيره...»([1])، والدين فطرة غرزها الله في البشر وقد كانوا أول الأمر متفقين على التوحيد قبل أن تزين لهم الشياطين عبادة الطواغيت واتخاذ الأصنام. والعقيدة الإسلامية عقيدة واضحة بعيدة عن إغراق الوهم وجموح الخيال وتحكم الأهواء. وهذا ما يسعى اليه العقل في تفكيره الدائب للوصول الى الحقيقة التي ينشدها ومن هنا فإن الاستشراق هو المطية التي يركبها أعداء الإسلام في محاولاتهم للتشويش على دعوته التي تتفق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها. وقد بذل المستشرقون جهوداً عديدة متواصلة في محاربة الإسلام واصطنعوا وسائل متعددة في حربه واستفادوا من تقصير المسلمين في الدفاع عن دينهم وانخداع بعضهم بكلام المستشرقين الذين يضعون السم في العسل. فينبغي على المهتمين بتوجيه الدعوة الإسلامية وإعداد الدعاة أن يكونوا على دراية تامة بالجهود التي يبذلها المستشرقون في محاربة الإسلام. لأنهم في الحقيقة ألدّ أعدائه لأنهم يتخذون العلم وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية ويلفقون الأباطيل ويلقون بها في ساحة الشريعة الإسلامية ويحاولون تضليل شباب المسلمين الذين يتتلمذون عليهم وإقناعهم بآرائهم الفاسدة الخبيثة، ليشركوهم معهم في الإساءة إلى الإسلام دون وعي، ولا تتسع المقالة لضرب أمثلة ولكن كتابات المستشرقين موجودة وهي مليئة بما يرمون به الإسلام نتيجة لما في صدورهم من غلّ وعداوة وعصبية تغلبهم عن أن يقولوا كلمة الحق وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد، فهم يكابرون ويلجون في الضلال، فيجب أن نحتاط ونكون على حذر ونحن نقرأ كتابات المستشرقين لأنهم متأثرون بأهوائهم ونزعاتهم الموروثة منذ أيام الصليبيين. فهم يعرفون جهودهم في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته دعوة الحق التي يزيغ أمامها كل باطل ولكن ردّ الله كيدهم في نحورهم وحرس دينه الذي ارتضاه لعباده، والله من ورائهم محيط. وينبغي على المسلمين أن يكونوا على وعي ويقظة دائماً وأن يدافعوا عن دينهم ويبنوا حقائقه ويدعوا الله. «ولينصرن الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز»([2]). ثانياً: التبشير الصليبي: وقد ظهر شكل آخر من أشكال الحروب الصليبية الحديثة في تجنيد جماعة من المبشّرين بالنصرانية ودفع هؤلاء المبشّرين الى بلاد المسلمين وحمايتهم بجيوش المستعمرين والتمكين لهم من التغلغل في المدن والقرى وإمدادهم بالمال ليقيموا المستشفيات والمدارس والملاجىء، ليتخذوا منها شباكاً لتضليل المسلمين، مختفين في زي المبعوثين اليهم لإنقاذهم من المرض والجهل والفقر باسم المسيح. وكانت أهداف التبشير الصليبي بعد الحروب الصليبية التشويش على الدعوة الإسلامية لكسب مواقع جديدة من أرض المسلمين ولكن المبشّرين الصليبيين فشلوا في بلوغ أهدافهم وعجزوا عن حمل المسلمين على التخلي عن دينهم، لأنهم كانوا يعملون في اتجاه مضاد لطبيعة الأشياء، لأنّ الإسلام دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فلا يمكن للفطرة أن تنفصل عنه، مهما بذل أعداء الإسلام من الجهد والمال. وهذا السر الذي دخل به الإسلام الى أوطان كثيرة بدون جيوش زاحفة وحملات تبشيرية غازية على أيدي بعض التجّار، كانت الدعوة الى الدين تأتي عرضاً في أحاديثهم فإذا هي تسري بين الناس سريان العافية في الأجسام العليلة واذا الناس على دين الله وعلى فطرة الله. هكذا دخل الإسلام كثيراً من بلاد افريقيا ومن بلاد آسيا ودخل بلاداً عديدة في اوربا ودخله كثيرون في أمريكا ولم يدخله أحد في تلك البلاد بحملات حربية أو تبشيرية وإنما دخله بدعوة من الفطرة لهذا فشلت حملات التبشير في بلاد الإسلام وتكسّرت نصالهم على صخرة هذا الدين. ولما فشل المبشّرون الصليبيون في بلوغ أهدافهم حاولوا ان يشوشوا على دعوة الإسلام بإلقاء الأباطيل والمفتريات في ساحة شريعته الغرّاء، كما فعل المستشرقون خصوصاً بعد ان كشف العلم الحديث للنصارى ما في دينهم من أمور لا يقبلها العقل، كالتثليث الذي يجعل الإله الواحد ثلاثة: أب وابن وروح القدس. فخشى المبشّرون الصليبيون ان يطلّ الإسلام بوجهه المشرق على أوربا وأمريكا فيجد قلوباً مهيأة له وعقولاً متجاوبة معه فشجع رجال الكنيسة حركة الإستشراق فكثر عدد المستشرقين الذين يتصلون بالكنيسة اتصالاً مباشراً ليشوشوا على الدعوة الإسلامية لإضعاف سلطان الدين على نفوس المسلمين. ومنع الحيارى الضالين من الإهتداء بنوره..«يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون»([3]). ثالثاً: محاربة اللغة العربية: ومن أشكال الحروب الصليبية الحديثة في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته محاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم. وقد اتخذت هذه المحاربة وسائل مختلفة بدأت بمحاولة إجلائها من الألسنة حتى تنقطع الصلة بين المسلمين وبين كتاب الله الذي هو دستور دينهم ولسان شريعتهم. فأشار المبشّرون الصليبيون على المستعمرين بأن يقربوا اليهم كل من يحسن لغتهم. وأن يمكنوا لهم من تولي المناصب العالية، الأمر الذي دعا كثيراً من المتعلمين من المسلمين الى تعلم لغة المستعمر والإنصراف عن لغتهم العربية. وبهذا أصبحت دول إسلامية كان لسانها عربياً لا تكاد تنطق بالعربية ولا تعرف من كلماتها إلا ما تؤدي به الصلاة في ركاكة أعجمية، كما كان ذلك مشاهداً في البلاد العربية الإسلامية الواقعة في شمالي افريقية وهذه البلاد تحاول الآن بعد أن جلا الإستعمار عنها أن تسترد لسانها العربي. ولما عجز أعداء الإسلام عن القضاء على اللغة العربية وإجلائها عن الألسنة أخذوا يروجون بين المثقفين من المسلمين من تلاميذهم ان اللغة العربية في حاجة إلى تطور وتجديد، زاعمين أن اللغة العربية عاجزة بقاموسها اللغوي عن حمل العلوم والفنون التي جاء بها العصر الحديث، وأن التخلف الذي أصاب المجتمع الإسلامي سببه قصور اللغة العربية وعجزها عن نقل ما جاءت به العقول والقرائح عند الأمم الغربية ومسايرة ركب الحضارة الحديثة... وهذه دعوى باطلة من أساسها، فاللغة العربية أوسع اللغات وأقدرها على توليد الألفاظ الجديدة. والدليل على هذا أنها حين خرجت الى ما وراء موطنها العربي استوعبت بألفاظها كل ما وجدته من حضارات الفرس والروم واليونان والرومان وترجمت كل ما انتجته عقول حكمائها وعلمائها وكان للتراث العلمي المشرق الذي انتجته العربية أثره البعيد في تنوير أوربا وإخراجها من ظلام القرون الوسطى.، وإدخالها الى هذا العصر الحديث الذي تفخر به، فلا يعقل ـ بعد هذا ـ أن تعجز اللغة العربية عن نقل العلوم والفنون التي جاء بها العصر. ومن وسائل محاربة اللغة العربية التي استعملها أعداء الإسلام تلقينهم بعض تلاميذهم من المسلمين الدعوة الى العدول عن الكتابة بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية بحجة ان الطباعة بالحروف العربية شاقة بطيئة، لأن لكل حرف صوراً عديدة بحسب موقع الحرف في الكلمة وقد فشلت هذه الدعوة الخبيثة التي كانت تهدف الى قطع الصلة بيننا وبين تراثنا القديم وصرف أبنائنا عما تضم مكتباتنا العربية من مورثنا من العلوم والمعارف في الدين واللغة وفنون العلم المختلفة. ومثل هذا ما حاوله أعداء الإسلام من تلقين بعض تلاميذهم من العرب الدعوة الى استعمال اللغة العامية بدل الفصحى أو الدعوة الى ترك الإعراب وتسكين أواخر الكلمات العربية تسكينا لازماً في جميع الأحوال شأنها في ذلك شأن اللغات الأوروبية بحجة ان هذا الأمر ييسر تعلمها. وكان الهدف من كل هذه المحاولات هدم اللغة العربية من أساسها ومحاربة الإسلام بصرف المسلمين عن قراءة كتاب الله عزوجل وقراءة أحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه لتنقطع الصلة بينهم وبين دينهم، فينبغي أن يتنبه المسلمون إلى هذا وأن يدافعوا عن دينهم وعن اللغة التي يتعلمون بها أمور هذا الدين الحنيف حتى يردوا سهام أعدائهم إلى نحورهم «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون»([4]). رابعاً: الحط من شأن العرب الجاهلين: ومن أشكال الحروب الصليبية الحديثة أيضاً الحط من شأن العرب، ويقصدون محاربة الإسلام على دعوته بهذه الوسيلة. فأعداء الإسلام يرمون العرب بتهم ظالمة فيصورون حياتهم في الجاهلية، وكأنّ العرب كانوا وحوشاً ضارية تعيش في أرض قفر ومكان جريب، وأن قلوبهم كانت أقفر من أرضهم ومشاعرهم كانت أكثر جدباً منها ويخلص أعداء الإسلام ـ من ورثة الصليبيين ـ من هذا الى القول بأنّ الإسلام دين بداوة لا يصلح في أحكامه وتشريعاته إلاّ في المناطق المتبدية المتوحشة المقفرة، فهو ـ كما يزعمون ـ ليس الدين العالمي الذي يصل عليه أمر الناس في البدو والحضر وفي الحاضر والمستقبل. ومن العجيب المؤسف أن كثيراً من المثقفين من المسلمين أصبحوا يسايرون أعداء الإسلام في الحط من شأن العرب الجاهلين ظناً منهم أن في هذا خدمة للإسلام. وحتى الذين تصدوا للرد على المستشرقين الذين زعموا هذا الزعم سلّموا لهم بما قالوه في العرب الجاهلين وخدعوا بقولهم، وسلّموا لهم بأنّ الأمة العربية لم تكن شيئاً قبل الإسلام وهم مخطئون من الناحية العلمية، لأن هذا القول فيه حق ولكن فيه باطلاً أيضاً. أما الحق فيه فهو أن الإسلام قد ارتقى بالعرب في عالم الفضائل والمكارم والكمالات وجعلهم في سنوات قليلة قادة الأمم وأساتذة الشعوب وبناة الحضارة في كل موقع نزلوا فيه. وأما الباطل في ذلك القول فهو ان الأمة العربية لم تكن خالية من الفضائل. فقد وجد الإسلام فيها كثيراً من الفضائل التي زكاها وأبقى عليها مثل حماية الجار ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وإكرام الضيف والغيرة على الحرمات من أموال وديار وأعراض. فكان ذلك ركيزة للأخلاق الفاضلة التي بنى الإسلام عليها دولته. لقد كانت الأمة العربية تحمل في كيانها أسلم القلوب ويكفيها فخراً أن الله تبارك وتعالى تخيرها، كما تخير موطنها لتكون هذه الأمة مطلع شمس دين الإسلام واُفقه الذي يشع منه نوره على هذا العالم. فوصف الأمة العربية بالسوء وتجريدها من كل فضيلة لا يتفق مع الحق، وهو تقليد لما يقوله أعداء الإسلام من ورثة الصليبيين ليتخذوا منه سلاحاً يحاربون به الإسلام ويشوشون به على دعوته. وينبغي أن يتنبه المسلمون إلى هذا جيداً وخاصةً غير العرب من المسلمين وأن يحذروا التقليد والإنخداع بأقوال أعداء الإسلام. ومن الحق والإنصاف أن نقرر هنا ان الثقافة الإسلامية هي في صميمها ثقافة عربية، عربية برسولها العربي وعربية بلسانها الذي نزل به القرآن دستور شريعتها وعربية بعروبة من استقبلوا دعوتها ورفعوا رايتها وأذنوا بشريعتها في العالمين في بداية الأمر. وذلك ما يشير إليه قول الله عزوجل: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»([5]) ولهذا ينبغي على أمة الإسلام من العرب وغير العرب أن ترد كيد أعدائها وأن تردّهم على أعقابهم خائبين خاسرين. خامساً: محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة: ومن أشكال الحروب الصليبية الحديثة في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته محاولة اغراق المسلمين في مختلف أقطارهم بالتيارات الفكرية المضللة، وتصدير هذه التيارات الى أقطار المسلمين لتضليل الشباب وصرفهم عن دينهم. 3 ـ بيان أهم التيارات الفكرية أما المادية: فأخطر ما فيها أنها تتملق الشهوات في الناس وتأتي إليهم من الجانب الضعيف فيهم حيث تميل النفوس إلى العاجل من كل محبوب ومرغوب عندها. وقد بين الله عزوجل طبيعة النفس البشرية فقال «كلاّ بل تحبّون العاجلة وتذرون الآخرة»([6]). وقال جل شأنه: «إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً»([7]). وقد حاول أعداء الإسلام ان يستغلوا هذا الميل الى المادية في تضليل الشباب المسلمين عن حقيقة دينهم. واستفاد هؤلاء الأعداء من ورثة الصليبيين من أقوال بعض الصوفية الذين يروجون أن الزهد في متاع الدنيا دليل الإتباع الصحيح للدين. وهذا زعم باطل ولكن أعداء الإسلام حاولوا الاستفادة منه في إغراق شباب المسلمين بتيار المادية ليشوشوا على الدعوة الإسلامية ويشككوا في مقررات الإسلام ويغرقوا شباب المسلمين في الشهوات. ليتخذوا من حبّها ديناً وينصرفوا عن دين الحق. وينبغي على من يحملون أمانة الدعوة الى دين الله ان يبينوا للشباب بخاصة أن الإسلام حين يدعو الى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والحساب والجنة والنار وكل مالا يقع في مجال المدركات الحسية، لايحرم الناس شيئاً من طيبات الحياة الدنيا، بل إنه يطلق كل قوى الخير فيهم ليعملوا جادين في كل ميدان من ميادين الحياة. وليقطفوا كل طيب من ثمرات عملهم. إن الإسلام لم يحرم على الناس شيئاً من طيبات الحياة الدنيا، فالله عزوجل يقول: «يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون»([8]). كما يقول في مقام آخر «يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين»([9]). ويقول جل وعلا «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة»([10]). ويقول سبحانه وتعالى «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة... ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»([11]). إنّ الله دعا الناس إلى العمل الطيب ووعدهم بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة ولذلك أطلق الإسلام كل قوة من قوى الإسلام الخيرة، ولم يقف حائلاً دون أية رغبة من رغبات الإنسان الشريفة، فإذا رسم الإسلام للإنسان حدوداً لا يتعداها، وإذا وضع على طريق مسيرته في الحياة معالم لا يخرج عنها، فما ذلك إلاّ لضمان سلامة الإنسان في تلك المسيرة ووقايته من شهوات نفسه التي تقوده إلى الهلاك، أو تلبسه الشقاء الدائم في حياته قبل آخرته، فمن رحمة الله بعباده أن أخذهم بأدب هذه الشريعة الغراء، وأن حرم عليهم الخبائث التي تفسد عقولهم وقلوبهم وتغتال معالم الإنسانية فيهم. وتنزلهم إلى عالم الحيوان الذي تريد المادية إنزالهم فيه. وأما الوجودية: فتقوم على دعوة خادعة وهي أن يجد الإنسان نفسه بالتحلل من كل ما يربطه بالمجتمع من نظم وقواعد. فهي في الواقع آخر تيار فكري أوجدته المادية الحديثة. فهي دعوة إلى عزل الإنسان من عالمه الروحي وجعله جسداً حيواناً لا يجد في كيانه شيئاً من العواطف والمشاعر الإنسانية، فهي تفسد طبيعة الإنسان وتدمر عقله وقلبه وروحه، وتحوله إلى حيوان بلا عقل ولا قلب ولا روح. إنها دعوة خبيثة انتشرت في أوربا وأمريكا نتيجة لموجة الإلحاد والإنسلاخ من النصرانية التي انتابت هذه البلاد ويحاول أعداء الإسلام تصديرها إلى بلاد المسلمين بواسطة شباب المسلمين الذين يذهبون الى تلك البلاد طلباً للعلم موهمين إياهم بأنها دعوة إلى التحرر. وهي في الحقيقة دعوة إلى التحرر من الدين ومن العقل ومن الإنسانية ليصيروا كالأنعام بل أضل، فلا يخشى خطرهم كما يصدّر أعداء الإسلام هذه الدعوة الخبيثة إلى أقطار المسلمين عن طريق وسائل الإعلام المختلفة من مطبوعات وإذاعات ومسرحيات وأفلام سينمائية وتلفزيونية وفيديوئية، تدعو إلى الفساد والإنحلال. فيجب أن نحذر شباب المسلمين من هذه الدعوة الخطيرة ونزودهم دائماً بزاد كاف من العلم بأمور دينهم ليعصمهم هذا الزاد من الزلل والتأثر بما يروجه أعداء الإسلام من ورثة الصليبيين من دعوات ضالة مضللة، يحاربون بها الإسلام ويشوشون بها على دعوته التي تخرج الناس من الضلمات إلى النور وتجعل الإنسان أفضل المخلوقات. وأمّا العلمانية: فهي إحدى الوسائل التي يشوش بها أعداء الإسلام من ورثة الصليبيين على الدعوة الإسلامية بإفهام بعض ادعياء العلم من الذين ينتسبون إلى الإسلام بأنه يجب الفصل بين العلم والدين وبين السياسة والديانة. والعلمانية من الدعوات الخادعة المضللة لأنها مشتقة من العلم. وهي في الحقيقة حركة ظهرت في أوربا نتيجة للصراع العنيف الذي نشب بين رجال العلم والكنيسة التي كانت متحكمة في العقل الأوربي في العصور الوسطى بما لها من سلطان قوي فلا يقبل فكر أو رأي لا يكون مصدره الكنيسة ورجال الدين فيها وكانت الكنيسة تملك حق الغفران للعصاة ومرتكبي الكبائر من المسيحيين كما أن لها حق الحرمان والطرد من ملكوت الله ومن ساحة رحمته. وقد انتهى الصراع بين العلم والكنيسة بإنفصال كل منهما عن الآخر فتحرر رجال العلم من سلطان الكنيسة وأصبح لهم الحق في أن يقولوا ما يريدون دون أن يكون للكنيسة حق مؤاخذتهم. وإذا قام صراع بين العلم والدين في النصرانية لأن الكنيسة عزلت الدين عن الدنيا فأخذ العلم وجهة غير وجهة الدين، فإنه لا مجال أبداً لأن يقوم هذا الصراع بين العلم والدين في رحاب الإسلام لأن الإسلام يؤاخي بين العلم والدين ويجعل الدين علماً والعلم رائداً هادياً إلى الدين وكلمة العلم وما يشتق منها اكثر الكلمات دوراناً في القرآن الكريم. فقد ورد ذكر العلم ومشتقاته اكثر من ثمانمائة مرة في الكتاب الكريم. فالعلم هو رسالة الإسلام وبالعلم يعرف الإنسان ربه وخالقه وما يجب عليه من إخلاص العبادة لله وحده بالإستقامة على أوامره والإجتناب لنواهيه حيث لا يكون عمل إلاّ عن علم ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى طلب العلم وإلى الإجتهاد الدائب في طلبه. يقول الله تعالى «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»([12]). ويقول سبحانه وتعالى «يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات»([13]). فالدعوة إلى العلم دعوة كريمة مستحبة من كل ذي عقل لأن العلم سبيل الإنسان إلى الكمال العقلي والسمو الروحي حيث يميز الإنسان به الحق من الباطل والهدى من الضلال والنافع من الضار والخير من الشر. أما العلمانية فتدعو إلى العلم الذي ينعزل عن الدين فلا مجال لها في الإسلام ولا ينبغي أن تظهر في المجتمع الإسلامي لأن الإسلام جامعة العلم والمعرفة، الأمر الذي لا يمكن أن تقوم به جفوة بين العلم والدين، فلا ينبغي أن يقبل مسلم دعوة إلى الفصل بين العلم والدين لأن من يقبل هذه الدعوة يكون جاهلاً بحقائق الإسلام فلا يكون مسلماً ولا عالماً. فينبغي أن يحذر المثقفون من شباب المسلمين من الإنقياد الأعمى لمثل هذه الدعوات الضالة المضللة ومن الغرق في التيارات الفكرية التي يرسلها أعداء الإسلام من ورثة الصليبيين إلى الاقطار الإسلامية لإغراق المسلمين بها وإبعادهم عن دينهم الذي به صلاحهم وعزّتهم. «ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين». أيها الأخوة الأعزاء: هذه أشكال من الحروب الصليبية في العصر الحديث تدل على أن الحروب الصليبية لم تنته بل انتقلت من معركة إلى أخرى. وأنّ كشف خطط اعداء الإسلام من ورثة الصليبيين أمر لازم حتى يأخذ المسلمون حذرهم ويهبوا لنصرة دينهم. إن هؤلاء يستعينون بالعلم في محاربة الإسلام لهذا ينبغي على المسلمين في جميع اقطارهم أن يردوا على أعداء دينهم وأن يخرسوا ألسنتهم الحاقدة بتوضيح حقائق الإسلام للناس أجمعين. وبذلك يندحر أعداء الإسلام في العصر الحديث كما إندحر أجدادهم الصليبيون من قبل. «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون»([14]). أيها الإخوة: إن الإسلام العظيم جاء ليبقى ويخلد ماشاء الله له من بقاء وخلود، وله رب يحميه من كل مكر وشر، فإن نكص عنه المسلمون وبدّلوا وغيّروا وقعدوا عن نصرته، سلب منهم الأمانة وسلّمها إلى من يستحقها من جنوده «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم»([15]). الويل لمن سلب الله منه أمانته ووكله إلى نفسه. إننا على ثقة بفضل الله ويقين من نصر الإسلام وعلو شأنه وانتصار حضارته الإنسانية على جميع الحضارات المادية الحاضرة التي جلبت على أهلها القلق والشقاء والبلاء ولا يمكن أن تسعد البشرية إلاّ برسالة الإسلام. نسأل الله أن يعيننا جميعاً على الإسهام في معركة الدفاع عن الإسلام وتثبيت دعائمه وأن نشعر بمسؤوليتنا الخطيرة في هذه المعركة لنكون بالجهاد فيها من أوليائه وأنصاره والله حسبنا وعليه توكّلنا والحمد لله رب العالمين. ولا يسعني في ختام مقالتي هذه إلاّ أن أشكر المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي أدرك رسالته في هذا المجال فكان مركزاً للإشعاع الروحي والفكري. وأكرر شكري للمجمع على ما يبذله من الجهود في طريق الإهتمام والعناية بأمر وحدة الأمة الإسلامية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. -------------------------------------------------------------------------------- [1]- الاعراف/59. [2]- الحج/40. [3]- الصف/8. [4]- يوسف/21. [5]- الانعام/124. [6]- القيامة/20. [7]- الإنسان/27. [8]- البقرة/172. [9]- المائدة/87. [10]- الأعراف/32. [11]- النحل/97. [12]- الزمر/9. [13]- المجادلة/11. [14]- التوبه/32. [15]- محمد/38.