الصحوة الإسلامية و العلم الشرعي: ضرورة و تلازم كهلان بن نبهان الخروصي ([1]) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبــياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد فهذه ورقة عمل مختصرة أضعها بين يدي هذا المؤتمر الدولي راجيا الله تعالى أن تجد لدى مشايخي الكرام وعلمائنا الأجلاء قبولا ، وعسى أن أحظى منهم بتوجيه و إرشاد. و موضوع الورقة هو افتقار الصحوة الإسلامية إلى العلم الشرعي ، بينت فيه سبب هذا الافتقار وكشفت فيه عن الباعث الذي ينبغي أن يوجه الصحوة الإسلامية صوب أساس علمي شرعي أصيل ، ثم تحدثت عن أثر هذا التوجه حين تأخذ به هذه الأمة الإسلامية ، وهذه الآثار في الحقيقة هي في الوقت ذاته تشخيص لمظاهر سلبية ظهرت - ولا زالت تتنامى - في مسيرة الصحوة الإسلامية ، إلا أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا أني أتيت على كل ما يكتنف الصحوة في علاقتها بالعلم الشرعي ؛ لأني لم أشأ أن أكرر ما هو معروف من قضايا وتحليلات ولا أن أسرد أدلة حول ما هو متفق عليه. ولا ريب أننا مهما وصفنا وحللنا ، فإنه لا يمكن أن نحقق ما نصبو إليه إلا بالعمل الجاد الدؤوب ، المبني على دراسة وتخطيط ، و على تعاون و تكامل في الجهود المباركة من رواد الإصلاح و من أهل الرأي والنفوذ السياسي . عسى الله أن يعين ويوفق الجميع إلى مايبلغ أفضل الغايات ، وما يحقق لهذه الأمة العزة والكرامة والنصر والرقي ، وما ذلك على الله بعزيز. مقدمة: لا ريب أن الصحوة الإسلامية أصبحت ظاهرة لا تحتاج إلى برهان ، ومظاهر هذه الصحوة تبدو في سلوك أبناء هذه الأمة - رجالا ونساء ، شيبا وشبانا- طرقَ الصلاح والهدى ، و في الحفاظ على شعائر هذا الدين ، والغيرة على حرماته و مقدسـاته ، وهذا من فــضل الله تعالى على عباده ، ففي بزوغ شمس الإســلام الخير للعالم والإنسانية ، و الحياة الطيبة للناس كافة ، ولكن الذي يشهده العالم اليوم ، وما تمر به الأمة الإسلامية – أو لعل الأصوب أن نقول : ما يمر بالأمة الإسلامية لأن الفاعل في الأغلب غيرها وهي جامدة تمر عليها الأحداث – من فتن وتغيرات ، وما يشهده البشر من نظريات وأفكار ، مع الثورة الهائلة في وسائل الاتصال المعاصرة ، جعل أمر إعادة توجيه الصحوة الإسلامية ضرورة لا ينبغي الاختلاف عليها ، بل لا بد من المبادرة الجادة وإلا فات الوقت وتقاذفت السفينةَ أمواجٌ من الشبهات و الضلالات عاتية ، و حينها سنلوم أنفسنا و لات ساعة مندم . لماذا تشتد الحاجة إلى ركيزة علمية شرعية في مسيرة الصحوة الإسلامية؟ وهنا أود أن أركز بكل صراحة و وضوح على ضرورة توجيه الصحوة الإسلامية صوب العلوم والمعارف الشرعية الأصيلة ، حينما نريد لها الاستمرار والفاعلية ، وحينما نريد لأمتنا مستقبل عزة ونصر وكرامة . فقد أخذت شبابَ الإسلام عواملُ أبعدتهم عن التزود بالزاد العلمي الشرعي الكافي لتحصينهم ضد أهواء أنفسهم أولاً و غوايات واقعهم ثانيا ، و يمكن أن تجنح بهم بعيدا عن حقيقة رسالتهم في هذه الحياة، وعن التصور الصحيح لمراشد دينهم و هداياته ، هـذه العوامـل تتعـدد في كمـهـا و تتـفق في أثـرها، وفي مقدمتها - لا شك - الأوضاع السياسة ، و الظروف الاجتماعية ، والنظريات (أو التنظيرات) الفكرية والمذهبية ، ...الخ مما هو معروف – ولو إجمالا - من عوامل وأسباب. وكان يمكن لهذه العوامل أن تكون سببا كافيا يدفع بالمصلحين والمربين والدعاة والغيورين على هذا الدين إلى الإلحاح والحرص على تأصيل قاعدة علمية شرعية ، وغرس معارف العلوم الإسلامية لدى أبناء هذه الأمة الإسلامية ، ولكني أحسب أننا عندما نحاول تجديدا وتقويما في مسيرة الصحوة الإسلامية ؛ فلا بد أن تكون منطلقاتنا سليمة موافقة لمقاصد الشرع الحنيف ، ولهذا فمنطلق هذا التجديد وذلكم التقويم لا ينبغي أن يكون الظروف المعاصرة والأوضاع المحدقة بهويتنا وثقافتنا ، لأن هذه متغيرة متقلبة شأن كل صروف الدهر وأحوال الزمان ، ولأن ما نفعله ساعتئذ لن يعدو أن يكون ردة فعل تتلاعب بها العواطف لا العقل ، و يبتعد عن التخطيط السليم الصادر عن تصورنا الإسلامي الراشد، وقد ينساق أيضا وراء العوامل المؤثرة – سياسية كانت أو اجتماعية أو نفسية أو فكرية – فيسلك مسالكها ويتبع أساليبها التي لا تراعي الوسائل قدر مراعاتها للمقاصد! وعلى هذا كان لا بد أن يكون منطلقنا في هذه الدعوة إلى ربط شباب الصحوة الإسلامية بهويتهم الثقافية وبالعلوم والمعارف الشرعية في هذه المسيرة "التجديدية التصحيحية " نابعا من عقيدتنا وتصورنا أي من ديننا ذاته، فـــالإسلام يــأمرنا بالعلم ، والله عز وجل جعل للعلماء منزلة رفيعة ، و القـــرآن الكريم يتحدث عن العــقل والعـــلم و النظر والتدبر والتفكر في سياقات متعددة ومناسبات كثيرة ، منها ما يأتي في سياق الأمر والنهي ، ومنها في معرض الوصف بالمدح والثناء ومنها في مقام النعي والإنكار (على أقوام آثروا أضداد تلكم المعاني) ، ومنها في مقام القصص والأخبار ، ومنها في موضع بيان الحكمة من التشريع ومنها عند إقامة الحجة و ردها إلى آخر المناسبات والسياقات المعروفة في الاستخدام القرآني. ولست هنا بصـدد عـرض الأدلة الشرعيــة الواردة في حكم العلم الشرعي وفضــله ، فهذا أمر متفق عليه ، ولكني أود أن أعتمد على هذه المسلمة في التأكيد على أن أي توجيه للصحوة الإسلامية لمزيد من التكوين العلمي والمعرفي الشرعي لا بد أن يكون أساسه أن ديننا يأمرنا بذلك. فالإسلام دعوة للعلم والمعرفة ، وأولى العلوم وأشرفها العلم بالله عز و جل وبشرعه الشريف ، ولهذا كان شباب الصحوة في واقعنا المعاصر أحوج ما يكونون إلى التزود بالعلوم الشرعية الأصيلة ، وبتكوين ثقافة إسلامية متينة ، امتثالاً لأمرِ الله تعالى أولاًً وآخرا ، لا ردة فعل للأحداث العالمية ولا لأن الـواقع يفرض علينا ذلك بمـا جره الجهل على هذه الأمة وعلى المسلمين من قطع مظلمة من الفتن ، و ما أحدثه هذا الجهل من تشويه للإسلام والمسلمين ، وما جرّه من الطيش و التهورِ لدى طائفة من أبناء هذه الأمــة ، ليس شيء من هذه الأسباب – مع أهميتها و وجاهتها - ينبغي أن يكون دافعنا إلى هذه الدعوة ، لما تقدم من الأسباب ، ولأنها- أي هذه الأسباب - في حقيقتها تذوب عندما يكون الباعث العبادةَ و الامتثال ابتداء ، وهذا يجعل من هذه الدعوة مبدأ مقررا مداوما عليه ، لا تغير حقيقته عوادي الزمان ، ولا تخمد جذوتَــه المصائبُ والأحداث التي تتناوش أمتـَـنا ، ولا يخضع لردود أفعال آنية تنطفيء ولمّا تتقد. و يوم أن يأخذ بزمام الصحوة الإسلامية مربون واعون بهذه الحقائق ، منطلقون من هذا الأساس التعبدي ، مدركون أن الغاية رضا الله تعالى والتبصر بأحكام شرعه والعمل بها في كل مناحي الحياة ؛ فإن الصحوة الإسلامية سوف تجني ثمارا يانعة ، وإن طالت فترات الجدب، و ستتنزل على الأمة رحمات من الله وبركات بإذن الله تعالى القادر على كل شيء ، ولا أريد أن أكرر ما هو معلوم من الآثار التي ستنتج عن سلوك هذا المنهج في توجيه الصحوة الإسلامية ، وإنما أريد أن أنبه على جملة من هذه الآثار التي تحتاج الأمة إليها فعلا في عصورها الحاضرة ، علها تتلافى ما وقعت فيه من أخطاء ، و تتدارك شبابها قبل أن يفلت الزمام . أثر العلم الشرعي على مسيرة الصحوة الإسلامية: توحيد الله تعالى و عبادته على بصيرة وبينة: وهذا مما لا خلاف حوله ، ولكن الذي لا بد لنا من التركيز عليه والتنبيه إليه ؛ أن هذه الأمة قد أتيت من تفسيرات وتأويلات لا يقبلها الراسخون في العلم ، ولا تقرها قواعد الشرع والعلم ، سواء كانت هذه التأويلات في التصور أو في العمل أو في المنهج. وليس الخطر في صدور مثل هذه التأويلات الضالة بأقل من خطر قبولها والترويج لها لدى شريحة واسعة من شباب الصحوة الإسلامية ، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى قاعدة علمية شرعية صحيحة لدى هؤلاء الشباب . ليس هذا وحسب ، بل سيجعل من وجهة هذه الصحوة وجهة شرعية سليمة تنقاد لأمر الله وتسعى لنيل رضاه وتجنب سخطه ، وتقدم مرضاته تعالى على مصالحها الشخصية ومطامعها الدنيوية . فلا تقصد بعد بتدينها منافع مادية ، أو غايات رخيصة في ميزان الشرع الحنيف ، ولا تساوم في مبادئها وأصولها كما لا تأخذها في الله لومة لائم . هذا كله لا يتأتى دون التزود من معين العلوم الشرعية والنهل من ينبوع المعارف الإسلامية الأصيلة بدافع إيماني خالص. اتباع منهج التعقل والتدبر و التفكير في التعامل والتفسير: دعوة القرآن الكريم إلى التفكر والنظر والتدبر في الأنفس والآيات المبثوثة في الكون ، وإلى الاعتبار والتذكر والاتعاظ من قصص القرون الخالية والأمم الغابرة – وهي دعوة جلية واضحة في كتاب لله عز وجل – تحقق فوائد أخرى غير الحصيلة العلمية الإسلامية ومجموع المعارف الشرعية والإنسانية والكونية ، لا تقل أهمية عنها، بل هي في الحقيقة السبيل الموصلة إليها ، هذه الفـوائد هي اكتسـاب هذا المنهج العقلي الفكري - المهتدي بنور الشرع طبعا - في فهم الحوادث وتفسير الظواهر والربط بين الأسباب والمسببات ، والمقدمات و النتائج. لقد عانت الأمة طويلا من تحكيم العواطف ، و عانت أكثر من تصرفات فات أصحابها أن يزنوها بموازين الشرع الداعي إلى إعمال العقل والتدبر في الوسائل والمقاصد ، و الهادف إلى عموم المصلحة للفرد والمجتمع والأمة ، و أصاب الصحوة الإسلامية من هذا ما أصابها ، ولا ضير علينا أن نعترف بهذا إذ غايتنا الإصلاح بإذن الله تعالى. ولا يخفى أن من أبلغ الآثار التي نشأت عن تجنب المنهج القرآني في تفسير الظواهر و تحليل الأحداث – أيا كانت هذه الأحداث – هو العشوائية والتخبط وعدم الموضوعية ، والبعد عن الإنصاف ، حتى أن باعث الأفعال في الأمة صار الحماس و العاطفة لا المبدأ و الثوابت إلا عند القليلين من المصلحين والعلماء الربانيين – بارك الله في مساعيهم . فلا الغضب أو السخط ، ولا الرضا أو الفرح ، ولا الرغبة في الثأر أو الانتقام ، ولا الانتصار للنفس ، ولا غيرها من الانفعالات العاطفية النفسية هي من منهج القرآن في الوصول إلى تفسير سليم و في الإعداد لحركة فاعلة مؤثرة في صنع الأحداث وكتابة التاريخ ، نعم ، لا يمكن إنكار دور العواطف في إيقاد الهمم ، و إلهاب مشاعر الخير ، وبث روح الغيرة على حرمات الدين ومقدساته ، ولكن حين الحاجة إلى الفعل فلا بد من "التفكر" و "التدبر" و "النظر" وإلا لما أمكن تطبيق الهدي القرآني الوارد في قول الحق جل وعلا (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين و والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) النساء : 135 ، وفي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة : 8 . من هذا يتبين أن غرس ثقافة شرعية أصيلة في أنفس شباب هذه الأمة أمر لا محيص عنه إن نحن أردنا لهم القدرة على فقه واقعهم و إعداد العدة اللازمة للتعامل معه ، لأن حاديهم حينها سيكون العقل المهتدي بنور الوحي وليس العاطفة و الهوى ، و سيتمكنون عندئذ من رسم إطار فكري قويم لمشروع حضاري يمكن لهم أن يسهموا به في إنقاذ البشرية الحائرة . أما حين تتغلب العواطف وتبنى حركة الصحوة الإسلامية على دوافع نفسية فإن العاقبة ستكون إمـــــا إحباطا يأسر عليهم نفوسهم وعقــــولهم فيقعد بهم عن الدور المنوط بهم ، وإما اندفاعا جائرا طائشا لا يلبث أن يثور حتى يغور ، وينتثر عقد الأولويات ، و يتسنم أمر توجيه الصحوة الإسلامية جهال أو متفيهقون ، وسيتم التنازل عن مبادئ الدين و أسسه شيئا فشيئا ليتحول بعد ذلك مشروع الصحوة الإسلامية الرامي إلى الإصلاح و الأخلاق والإخلاص لله وحده ليتحول إلى برنامج سياسي أو اجتماعي أو أدبي أو غير ذلك مما لا اعتبار فيه إلا لغايات دنيوية عاجلة . الوصول إلى خطاب إسلامي خالص لا مذهبي أو حزبي: ليس من الحكمة للأمة الإسلامية في هذا الوقت بالذات أن يكون خطابها الإسلامي – لا الداخلي (مع الذات) ولا الخارجي (مع الآخر) – مصطبغا بصبغة مذهبية تعصبية ، فمع تسليمنا أن التمذهب حقيقة واقعة ، إلا أن روح التعصب للمذاهب لا ينبغي أن تطغى على الخطاب الإسلامي الدعوي الشامل لدى أبناء الصحوة الإسلامية ولا عند عامة المسلمين ، فمصالح الأمة الكبرى ، وأركان الإيمان والثوابت المتفق عليها كفيلة بجمع شتات هذه الأمة على كلمة سواء يمكن أن تخاطب بها غيرها ، وقادرة بإذن الله تعالى على التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة على الأخوة الإيمانية ، و لهذا يجب أن يترك متعصبو المذهبية إثــارة ما يؤجج نار الخلاف ، أو يثير حفيظة أتباع المذاهب الأخرى ، ومن باب أولى أن يترك هؤلاء ما يخدمون به أعداء هذه الأمة من أمر تكفير طوائف إسلامية أو تضليلهم و إلحاق أبشع الأوصاف بهم ، أو لمزهم واتهامهم بالباطل ، فعاقبة هذا لا شك معروفة لا حاجة لنا إلى الإطالة فيها ، وإنما أنقل هنا مثالا مما أجاب به عالم إباضي عماني عالما إباضيا ليبيا في القرن الهجري الماضي[2] ، فقد أرسل الشيخ سليمان باشا الباروني خطابا وجهه إلى ثلة من علماء الإسلام تضمن أسئلة طالما دارت في أذهان كثير من أبناء هذه الأمـــة ، حيث قال في سؤاله : " هل توافقون على أن من أقوى أسباب اختلاف المسلمين تعدد المذاهب وتباينه ؟ على فرض عدم الموافقة على ذلك فما هو الأمر الآخر الموجب للتفرق ؟على فرض الموافقة ؛ فهل يمكن توحيدها بالجمع بين أقوالها المتباينة وإلغاء التعدد في هذا الزمن الذي نحن فيه أحوج إلى الاتحاد م كل شيء؟ وعلى فرض عدم إمكان التوحيد فما الأمر القوي المنع منه في نظركم ؟ وهل لإزالته من وجه على فرض إمكان التوحيد فأيُّ طريق يُسهِّل الحصول على لنتيجة المطلوبة ؟ وأي بلد يليق فيه إبراز هذاالأمر ؟وفي كم سنة ينتج ؟ كم يلزم له من المال تقريبا؟ و كيف يكون ترتيب العمل فيه ؟ وعلى كل حال فما الحكم في الساعي في هذا الأمر شرعا وسياسة ؟ مصلح أم مفسد؟ .. " فأجابه الشيخ العلامة عبد الله بن حميد السالمي – رحمه الله – بما يلي: " قد نظرنا في الجامعة لإسلامية فإذا فيها كشف الغطاء عن حقيقة الواقع ، فلله ذلك الفكر المبدي لتلك الحقائق ، نعم ، نوافق أن منشأ التشتيت اختلاف المذاهب وتشعب الآراء وهو السبب الأعظم في افتراق الأمة على حسب ما اقتضاه نظركم الواسع في بيان الجامعة الإسلامية ، وللتفرق أسباب أخرى منها التحاسد أو التباغض والتكالب على الحظوظ العاجلة ، ومنها طلب الرياسة والاستبداد بالأمر ،وهذا هو السبب الذي نشأ عنه افتراق الصحابة في أول الأمر في أيام علي ومعاوية [ يشير إلى ما كان من التمرد على الخليفة الشرعي ] ، ثم نشأ عنه الاختلاف في المذاهب ، وجمع الأمة على الفطرة الإسلامية بعد تشعب الخلاف ممكن عقلا مستحيل عادة ، و إذا أراد الله أمرا كان ، ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) ، والساعي في الجمع مصلح لا محالة ، و أقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية ، ويحضهم على التسمي بالإسلام فـــ(إن الدين عند الله الإسلام ) ، فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية ولو بعد حين ، فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه ويكون الحق أولا عند آحاد من الرجال ثم يفشو شيئا فشيئا حتى يرجع إلى الفطرة وهي دعاية الإسلام التي بُـــعِث بها محمد عليه الصلاة و السلام وتضمحل البدع شيئا فشيئا فيصير الناس إخوانا (و من ضل فإنما يضل على نفسه ) ، ولو أجاب الملوك و الأمراء إلى ذلك لأسرع في الناس قبولهم ، و كفيتم مؤونة المغرم ، وإن تعذر هذا من الملوك فالأمر عسر ، والمغرم ثقيل ، و أوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي و متردد الملائكة و مقصد الخاص و العام : حرم الله الآمن ، لأنه مرجع الكل ، وليس لنا مذهب إلا الإسلام ، فمن ثم تجدنا نقبل الحق ممن جاء به و إن كان بغيضا ، و نرد الباطل على من جاء به و إن كان حبيبا ، و نعرف الرجال بالحق ، فالكبير عندنا من وافقه والصغير من خالفه ، ولم يشرع لنا ابن إباض مذهبا وإنما نُسبنا إليه لضرورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق ، وأما الدين فهو عندنا لم يتغير والحمد لله " والسؤال والجواب من الوضوح و الصلة بما نحن بصدده – في هذه الوريقات - بحيث لا يحتاجان إلى شرح أو تعليق ، ومحاولة الشرح و التعليق تحتاج إلى دراسة مستقلة و إلى تمثيل و استشهاد يطولان . ولكني أترك القارئ ليجول فيهما بفكره وينظر في وضوح الجواب و واقعية ما فيه من حلول ومقترحات . التمسك بالأخلاق والقيم الإسلامية : إن ما يدعو إليه الإسلام من أخلاق ومعاملة بالحسنى لا يتأتى الالتزام به إلا بالعلم به أولا ، فلذا كان من ثمرات ربط الصحوة الإسلامية بالعلوم الشرعية الرصينة بث روح الأخلاق والقيم في شباب الأمة ، فالعقيدة تجعل من الأخلاق موضع ثواب وعقاب ، والفقه يبين للنفس ما لها وما عليها فعلا وتركا ، والسنة تضع معالم الأخلاق و تهدي إليها بالأمثلة الحية من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتاريخ يحكي أمثلة أخرى من القدوة الصالحة ، و الأدب يهذب النفوس ويعلم الشجاعة والكرم والأخلاق ..الخ. وبالمعاملة الحسنة - المتحصلة من التعلم والنهل من مصادر الأخلاق في الكتاب والسنة - يمكن للصحوة الإسلامية أن تبلغ شأوا بعيدا ، فتفتح مغــاليق القلوب ، و تقرب بين الناس ، وتمهد الــطريق لخطاب إسلامي عالمي ، وما أحوج شباب المسلمين اليوم إلى القيم المثلى والأخلاق الإسلامية الحميدة التي لا يبتغى بها غير وجه الله وحده ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). أسأل الله تعال أن يوفقنا إلى ما فيه الخير و أن يبارك في جهود المخلصين إنه على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين. -------------------------------------------------------------------------------- [1]– المستشار الشرعي بمكتب الافتاء بسلطنة عمان. [2] ينظر الجواب والسؤال في "العقد الثمين" 1: 126- 127 ط . 1