الصحوة الإسلامية وحوار الثقافات والأديان د. عبد الستار إبراهيم الهيتي ([1]) المقــدمة الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله الطاهرين وصحابته الغر الميامين . وبعـد : فإنه مع إفرازات النظام العالمي الجديد ، سواء على صعيد الثقافة والقيم ، أو على صعيد السياسة والاقتصاد تزايد الاهتمام بالحوار ، وتعمق الاقتناع به وبدوره في تحقيق وفاق ثابت بين أبناء الأمة الواحدة ، وتفاهم مشترك بين الشعوب المختلفة على أساس قاعدة الكرامة والعدالة والمساواة ، حتى شاع استخدام الحوار على مختلف الصعيد ، وفي شتى الميادين الثقافية والفكرية والحضارية ، فأصبح أحد الظواهر الهامة للعصر الحالي الذي يتميز بثورة المعلوماتية والاتصال التي هي إحدى ثمرات العلم المتفجرة عنه ، وبهذا قوي التواصل بين بني البشر واتسعت دائرة الحوار وتنوعت موضوعاته بصورة لم تعرفها الإنسانية من قبل . ومن خلال هذه المعطيات يبرز دور الحوار وتظهر أهميته في تأسيس صيغة معرفية متجددة تعتمد تزاوج الأفكار ، وتبادل الرؤى ، وتداول الطروحات من خلال سماع الرأي الآخر والإصغاء إليه والاهتمام به تحقيقا للتواصل العلمي والمعرفي ، وابتعادا عن العزلة والانكفاء الذي لم يبق لهما مكان في عالم اليوم . ولابد من الإشارة إلى تنوع أشكال الحوار وتعدد موضوعاته بتنوع مقاصده وأغراضه ، ليواكب الحاجات الفطـرية الإنسـانية ، فكان منه ما يعنى بالجوانب التربوية التعليمية ، ومنه ما يعنى بالجوانب الثقافية المعرفية ، ومنه ما يعنى بتحديد العلاقة بين الأمم والشعوب ، ومنه ما يعنى بالصيغ والمناهج الدعوية ، إن مما لاشـك فيه أن المجتمعات الإسلامية اليوم بأمس الحاجة إلى أن ينفتح فيها الحوار بشكل يتفق مع معطيات العصر وآفاقه الواسعة ، ولن يتحقق ذلك إلا بما يلي: 1 ـ تحصين الذات من خلال إصلاح أحوال الفرد والمجتمع . 2 ـ استخدام لغة العصر وأسلوبه ليكون الحوار مدخلا إلى تحقيق التعامل مع المستجدات بقدرات أكبر وإمكانات أوفر وفرص أكثر . ومن هنا ينبغي أن يهدف الحوار إلى رصد العوامل التي تؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واحتوائها ومعالجتها بروح مخلصة وعقلية بناءة هادفة ، كما أنه ينبغي أن يهدف هذا الحوار إلى تدعيم سبل الاستقرار والتنمية ، لتكون تلك الحوارات بمثابة نقطة تحول وانطلاق إلى آفاق جديدة في واقعنا الاجتماعي والسياسي وفي ميادين الحياة كافة . إنه ينبغي أن يشمل الحوار كل موضوع يهم الفرد والمجتمع سواء كان ثقافيا أو فكريا أو سياسيا ، لأن نجاح الحوار وفاعليته تكمن في شموليته واستيعابه لحاجة العامة ، ذلك أن الحـوار على هذا النحو الراقي يعد ضرورة من الضرورات التي تقتضيها عملية انتظام الحياة وتفرضها طبيعة التواصل البشري ، فالحوار حركة مطردة وقوة دافعة وطاقة للإبداع يجب أن تعتمد على أسس متينة لضمان استمرارها وديمومتها ، وقد كان للإسلام في جميع هذه الأمور رؤية واضحة وموقف مبدئي من خلال التعاليم التي تحث على التعاون من أجل كل ما فيه الخير والحق لتحقيق السعادة لجميع بني البشر . إن المتتبع لوضع العالم الإسلامي اليوم وما يمر به من أحداث عصيبة ومتنوعة يجد أن أمام أبنائه مهام كبيرة لبناء الذات وتصحيح المواقف وازدهار الحياة ، ولذلك فهو مدعو الآن أكثر من أي وقت آخر إلى أن يتعامل مع تلك الأحداث بعقلية مرنة وتفكير ناضج يستطيع من خلالها الانفتاح على آفاق العصر ومعطياته المتجددة ، والدخول في حوارات جدية وهادفة مع جهات عديدة وعلى مستويات متنوعة ليثبت جدارته وأهليته للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية تسود فيها قيم الخير والحق والفضيلة ويبرز فيها مبدأ التعاون والتسامح . ومن خلال المعطيات المتقدمة فسيتم دراسة هذا الموضوع من خلال المحاور التالية: 1 ـ تمهيد ـ الصحوة الإسلامية وأهمية الحوار مع الآخر . 2 ـ المحور الأول ـ التفاعل الحضاري بين الأمم . 3 ـ الحضارات ،،، صراع أم حوار ؟ . 4 ـ أثر ثقافة الحوار في نجاح الدعوة . ولا بد من الإشـارة هنا إلى أنني عنيت ببحث هذا الموضوع بروح الحيادية العلمية والإنصاف الفكري معتمدا وضوح المنهج ، ومرونة الطرح ، وسلاسة العبارة ، ودقة الإحالة ، وسعة الأفق في المعالجة ، بعيدا عن التعصب لطرف على حساب طرف آخر ، قاصدا بذلك صياغة منهجية حوار إسلامي يتعامل مع عصر الثورة المعلوماتية بعقلية المسلم المثقف الغيور على دينه وعقيدته . ومهما يكن من أمر ، فإنه لا يمكن أن أدعي الكمال لهذه الدراسة فهي لا تعدو أن تكون محاولة مخلصة للكشف عن مقومات الحوار في الإسلام ومنهجيته العلمية في الحوار مع الذات ، والحوار مع الآخر من خلال التفاعل الحضاري مع الشعوب والأمم الأخرى ، للوصول إلى الثمرات المرجوة منه في الجوانب التربوية والثقافية والدعوية ، فإن كان صوابا فهذا ما وفقني الله إليه ، وإن كان غير ذلك فحسبي أنني لم أدخر جهدا في سبيل الوصول إلى الحقيقة وإبراز رأي الإسلام في هذه المسألة الهامة والملحة ، والله من وراء القصد ،،، تمـهيد الصحوة الإسلامية وأهمية الحوار مع الآخر حوار الحضارات ، أو حوار الشمال والجنوب ، أو الحوار العربي الأوربي ، أو الحوار الإسلامي المسيحي ، أو حوار الشرق والغرب كلها مصطلحات وعناوين لموضوع واحد هو الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة التي تعتمد صياغات متفاوتة في نظرتها إلى الكون والوجود ، وهو موضوع جدير بالاهتمام والدراسة والمتابعة عسى أن ينتقل الأمر فيه من مرحلة الفهم والاقتناع إلى مرحلة التعاون على العمل المشترك بين جميع المعنيين باقتلاع جذور الأحقاد بين الشعوب والأمم . ويقصد به من الناحية النظرية الحوار مع الطرف الآخر للتعرف على ما يهدف إليه من حيث طبيعة علاقته بالآخرين ورسم مستقبل أفضل لجميع شعوب العالم ضمن دائرة التفاهم المشترك ، وعدم التجاوز على الخصوصية الدينية والأخلاقية بما يطلق عليه في عالم اليوم المحافظة على الهوية الثقافية للأمم . وهذا النوع من الحـوار وإن أخذ مسميات حديثة فإنه قديم قدم وجود الشعوب ذات الحضارات المتجاورة ، حيث كانت تلك الشعوب تتبادل المعارف والخبرات وأنماط الحياة من قيم وسلوك وتقاليد عن طريق التفاعل العفوي الطبيعي بحيث أصبحت بمجملها جزءا من مفردات نسيجها الاجتماعي دون قصد بفعل التواصل الحضاري على مدى الأزمان المتعاقبة[2]، وهذا في حقيقته يمثل طرفا من المفهوم الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ))[3] حيث اقتضت حكمته تعالى أن يخلق الناس متفاوتين ومختلفين ،وأن يظلوا كذلك ربما من أجل تحقيق التعارف والتبادل والحوار بين بني البشر (( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ))[4] وهكذا استمرت العلاقات بين الأمم والشعوب على ربى هذه المعمورة مضطربة مرة ومتفقة مرة أخرى يحدوها الأمل في إقامة علاقات حسنة تقوم على أساس التفاهم والاحترام المتبادل . ونتيجة لهذا الإحساس بضرورة التلاقي والتواصل والتحاور بين شعوب العالم المختلفة عقدت على مدى العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضي العديد من اللقاءات والمؤتمرات والندوات العلمية والثقافية من أجل تحقيق أرضية مشتركة للتعاون والحوار بين الأديان والحضارات باعتبار ذلك يمثل أرقى صيغ الحوار مع الآخر في عصر المدنية والتحضر[5]. ويكتسب الحوار في تراثنا الثقافي مكانة تدل على مجموعة من القيم والمبادئ التي هي جزء أساسي من الحضارة والثقافة الإسلامية ، ويؤكد هذا المعنى ما ورد في القرآن الكريم من آيات استخدمت لفظ الحوار في أكثر من مناسبة كما في قوله تعالى (( وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره ))[6](( قال له صاحبه وهو يحاوره))[7]((قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ))[8]مما يثبت أن الحوار أصل من الأصول الثابتة للحضارة الإسلامية ينبع من رسالة الإسلام وهديه ، ومن طبيعة ثقافته وجوهر حضارته . لقد اقترن الحوار في مجمل النصوص الشرعية بالعقل والتشريع مما يمنحه معنى ساميا في سياق تحديد مدلوله، ذلك أن الحوار العاقل هوالذي يقوم على أساس راسخ ويهدف إلى غاية نبيلة هي القبول بمبدأ المراجعة الذي يتجاوز الرجوع عن الخطأ إلى مراجعة الموقف برمته إذا اقتضت لوازم الحقيقة هذه المراجعة وصولا إلى جلاء الحق وتوضيح الحقيقة . فالحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية المستندة إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحاء باعتباره تعبيرا عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية وهي سمة التسامح والمرونة في التفكير ، فالحوار لا يكون إلا بالتي هي أحسن أي أحسن الوسائل وأقوم الأساليب و الطرق . وبهذا المعنى فإن الحوار قوة وسلاح من أسلحة السجال الثقافي ، وهو وسيلة ناجعة من وسائل الدفاع عن كيان الأمة وعقيدتها ومنهجها لغرض تبليغ رسالتها وإظهار حقيقتها وإسماع صوتها وكسب الأنصار لها وفق الصيغة والمنهج الذي يأمر به القرآن ((أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ))[9]. وتأسيسا على ما تقدم ، فإن الحوار الذي يدعو إليه الإسلام لابد أن يستند إلى الأسس والمنطلقات التالية[10]: 1 ـ الاحترام المتبادل . 2 ـ الإنصاف والعدل . 3 ـ نبذ التعصب والكراهية . ومن هنا فإن الاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة هو المنطلق الأول الذي يجب أن يرتكز عليه الحوار وفقا للتوجيهات القرآنية (( ولا تسـبوا الذين يدعون من دون الله فيسـبوا الله عدوا بغير علم ))[11]، وبذلك نضمن أن لا يكون الحوار ساحة للًجاج العقيم والتطاول على أقدار الناس والمس بمكانتهم وتبادل الإساءة فيما بينهم حتى لا يفقد الحوار صيغته الحضارية . وإذا كان الاحترام المتبادل هو المنطلق الأول للحوار فإن الإنصاف والعدل هو المنطلق الثاني ، ولنا في التوجيه القرآني قاعدة ثابتة وهداية دائمة، يقول الله تعالى (( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ))[12] فالعدل هو أساس الحوار الهادف الذي ينفع الناس ويمكث أثره في الأرض ويستدعي الاعتراف بالفضل لذويه ويعمل على إقرار الحق حتى ولو يكن في صالح جميع الأطراف . ومن خلال اجتماع الاحترام المتبادل والإنصاف والعدل تتوفر قاعدة ثالثة من قواعد الحوار التي تقوم عليها منطلقات الحوار وهي نبذ التعصب والكراهية، وإننا لنجد أصل هذه القاعدة في قوله تعالى(( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ))[13]. ولا شك أن هذا التوجيه القرآني يرقى من مستوى نبذ التعصب والكراهية إلى مقام أرفع وهو البر بالناس الذي يعني الإحسان بكل دلالاته الأخلاقية ومعاملتهم بالقسط الذي يعني العدل في الطرح والتوجيه (( وقولوا للناس حسنا ))[14]، فالحسن هنا ليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة بالخطاب وإنما هو الحسن النافع في الدين والدنيا[15]. وفي مجتمعاتنا الإسلامية يعد الحوار أصلا ثابتا من أصول الحضارة الإسلامية ومبدأ من مبادئ الشرع الحنيف استنادا إلى قوله تعالى (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ))[16] فهذه الآية دعوة صريحة إلى الحوار الهادف بين المسلمين من جهة وبين أصحاب الأديان والحضارات من جهة أخرى . ومن هنا ، فإن الحوار الذي ندعو إليه وندخل فيه هو الذي يستمد الاعتدال من روح الإسلام وتعاليمه التي تدعو إلى الوسطية في كثير من الآيات القرآنية ، منها قوله تعالى (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا))[17] والمقصود بالوسط هنا الاعتدال والمثالية وعدم التعصب بحيث يكون الحوار بالكلمة الراقية والمنهج السوي . إن العالم الإسـلامي اليوم مدعو أكثر من أي وقت آخر إلى الانفتاح على آفاق العصر والدخول في حوارات جدية وهادفة مع دوائر عديدة وعلى مستويات متنوعة ثقافية وفكرية وسياسية ليثبت للعالم كله أهليته للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية تسود فيها قيم الخير والحق والفضيلة ، وتهدف إلى نشر المعارف والثقافات بين الشعوب ، وتنمية العلاقات السلمية بينها ، وتمكين كل إنسان من اكتساب المعرفة والمشاركة في التقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم ليفتح الحوار مجالا واسعا أمام تفاهم المجتمعات ويؤدي إلى تقارب الثقافات ويساهم في تلاقح الأفكار وهو ما يمكن أن نصطلح عليه اليوم بالتفاعل الحضاري الذي يجب أن يدعم التعاون بين جميع شعوب العالم على مواجهة تحديات العصر ووضع الحلول المناسبة لها . المحور الأول: التفاعل الحضاري بين الأمم : ويقصد به: أن الحضارة المعاصرة هي نتيجة حتمية لتراكم معرفي وعلمي واجتماعي متواصل منذ بدء الخليقة وإلى اليوم . وإذا أمعنا النظر في الحضارة الإسلامية فإننا نجدها قد قامت على أساس التفاعل الحضاري ، وهي بذلك تعتمد ثقافة الحوار والتواصل حيث أخذت عن الحضارات السابقة واقتبست من ثقافة الأمم والشعوب التي احتكت بها وصهرت جميع ذلك في بوتقة الإسلام فكانت حضارة إنسانية لها أثر كبير في نقل روح المدنية إلى جميع الشعوب التي تفاعلت معها ، وهو الأمر الذي يعترف به معظم الكتاب والمفكرين الأوربيين الذين تخلصوا من التعصب المقيت وكتبوا بإنصاف عن تاريخها ، حيث يرون أن الحضارة الإسلامية احتفظت بمركزالصدارة منذ أوائل العصور الوسطى ليس في الشرق فحسب بل في الغرب أيضا ، إذ نمت الحضارة الغربية في ظل الحضارة الإسلامية التي كانت أكثر رقيا منها وقتئذ[18]. ولاشك أن قاعدة التسـامح التي يقوم عليها الإسـلام هي التي فتحت أمام الأمة الإسلامية السبيل إلى الاحتكاك بالأمم والشعوب ، وشجعت المسلمين على التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى ، حيث كان الإسلام بذلك أرقى الأديان في تحقيق مبدأ التسامح الذي هو القاعدة الأساسية للتفاعل الحضاري[19]. ويستند التفاعل الحضاري في مفهوم الإسلام إلى مبدأ التدافع الحضاري وليس فكرة الصراع الحضاري ، وهو المبدأ القرآني المحض الذي نجد له أصلا في قوله تعالى (( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ))[20] وفي قوله تعالى (( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ))[21] فالتفاعل في الإسلام عملية تدافع لا تنازع ، وتحاور لا تناحر بمعنى: أن كل أمة تدفع الأخرى وتتنافس معها نحو الأفضل والأحسن ، لأن التفاعل يفيد استمرار الحياة والتصارع يؤدي إلى الفناء ، وبهذا يكون التفاعل الحضاري حوار دائم ينشد الخير والحق والعدل والتسامح للإنسانية بغض النظر عن توجهاتها الفكرية والأيدلوجية[22]. إن التفاعل الحضاري والتواصل الثقافي الذي يوصل إلى الحوار العلمي الهادئ يجب أن لا يكون نوعا من الترف الفكري الذي ليس له انعكاس على الواقع المعاصر ولا تصل آثاره إلى دوائر صنع القرار في الأمة ، كما أن الحـوار بين الأمم ذات الحضارات والثقافات المختلفة يجب أن لا ينطلق من الإحساس بالتفوق العنصري أو الاستعلاء الحضاري أو روح الهيمنة الثقافية ، لأن الحوار الذي يكون قائما على أساس الشعور بالتفوق والاستعلاء لايؤدي الأهداف التي من أجلها تنشأ علاقات التواصل الثقافي بين الأمم ، بل إنه ربما يعود إلى الهدف بما يناقضه ومن هنا ينبغي أن يكون الهدف من الحوار هو إقامة قيم التسامح وإذكاء روح التعارف الثقافي والعلمي ، ذلك التعارف بالمعنى القرآني السامي الذي هو الأصل في تعامل الشعوب والأمم بعضها مع البعض الآخر استنادا إلى قوله تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ))[23] . إن التفاعل الحضاري الذي يراد منه أن تتخلى الأمة عن هويتها وخصائصها الذاتية وتصوراتها الفكرية لا يمكن أن يكون في حال من الأحوال تفاعلا إيجابيا وناجحا ، لأنه بذلك يكون نوعا من أنواع التبعية الثقافية والفكرية ، كمأ أنه يؤدي إلى أن تصبح الأمة متلقية لفكر جديد وتصور مستورد وعندئذ ستكون مغزوة في فكرها ومهددة في وجـودها وكيانها ، وسـتكون ضحية عدوان أيدلوجي وفكري وثقافي وهو أشـد أنواع العدوان وأعلى مرحلة من مراحل محو الثـقافة[24] ولن ترضى الأمة الإسـلامية أن يكـون التفاعـل الحضاري غزوا لثـقافتها أو محوا لحضارتها وذوبانا في ثقافات الأمم واندماجا في حضارات الشعوب بدعوى التواصل الثقافي أو التحاور الحضاري ، فالعالم الإسلامي الذي يمد جسور التلاقي والتعاون والتفاعل مع الأديان السماوية والثقافات والحضارات الأخرى لا يقبل أن يكون ضحية تغريب العالم من خلال تفاعل حضاري يفقد معنى العطاء المتوازن والمنفعة المتبادلة . حدود الحوار بين المسلمين والغرب : المسلمون: هم الكتلة البشرية التي تدين بالإسلام وتنتسب إلى عقيدته وحضارته وثقافته ، ويوجد بينها الانتماء إلى هذا الدين الذي جعل منها أمة واحدة . أما الغرب: فهو أقاليم جغرافية تسكنها شعوب متفرقة العقائد مختلفة المشارب مثلت منظومة حضارية من القيم والأفكار والمذاهب والسياسات . والملاحظ أن الغرب شعوب تبحث عن مصالحها وتضعها في مقدمة أولوياتها وتتعامل مع العالم من منطلق الحرص على تلك المصالح واسـتثمارها وتنميتها والحفاظ عليها بشتى الوسائل والسبل حتى ولو كان في ذلك هدر لحقوق الآخرين أو انتقاص من مكانتهم[25]. إن الحوار الحضاري بين الأمم والشـعوب المتعددة لا يمكن أن يتحقق إلا مع أطراف تجمعها الرغبة المشتركة في تحقيق أهداف معلومة متفق عليها ، فإذا افتقر الحـوار إلى هذه الرغبة فسيكون ضربا من العبث أو إملاء للرأي وفرضا له من طرف على طرف آخر مما يجعله فاقدا للشرعية العلمية مفرغا من دلالته الفكرية مكرسا معنى الهيمنة والغطرسة وفرض الأمر الواقع . ومن هنا فإن حـوار المسلمين مع الغرب ينبغي أن ينطلق من هذه الأسـس والمعاني الواضحة لتحقيق الأهداف المرجوة منه ، ولكن يبدو أن الغرب الذي ناصب أمتنا الإسلامية العداء لفترات طويلة ، فاحتل أراضينا ،واستنزف خـيراتنا وأسـاء إلى مصالحنا ، وخضنا معه معارك سـياسية واقتصادية حينا ، ومعارك عسكرية حينا آخر ، فإننا حين نتعامل معه لا نملك أنفسنا من استحضار تلك المشاهد المؤثرة في أعماق نفوسنا ، ولكن الإرادة القوية التي تحدونا إلى التواصل والتعاون مع الشعوب الأخرى هي التي تجعل الأمة مقتنعة بالحوار مع الآخر للدخول في مرحلة جديدة من التفاهم والتعايش والتفاعل الحضاري ، وهذا في الحقيقة يؤكد انتصار المسلمين على مخلفات الماضي بهدي من ديننا الذي يدعو إلى التسامح حرصا من الأمة على دعم الحوار الحضاري ، وتعزيزا لدوره في إثراء العلاقات الدولية وإنعاش الاتصال بين شعوب العالم وأممه ، ولكن هل انتصر الغرب على مخلفاته التاريخية ؟ وهل تغلب على عقده المتراكمة ؟ إن المسلمين اليوم يؤكدون على تجاوز مخلفات الماضي وعقده بروح من الصفاء والسماحة ، وبعقلية مرنة تضع المصالح العليا للأمة فوق كل اعتبار ، لأنها ترى أن الحوار مع الآخر ( الغرب ) أصبح اليوم ضرورة ترقى إلى درجة ومستوى فرض الكفاية ، ولكن هذا الحوار والتواصل له حدود وضوابط لابد من الوقوف عندها وعدم تجاوزها ، وهي[26]: 1 ـ أن يكون الحوار متكافئا ، تتوفر فيه شروط المساواة والإرادة المشتركة بحيث تتعدد مستوياته ليكون حوارا شاملا يدور مع مختلف الشرائح والفئات سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى المؤسسات الأهلية والاجتماعية التي لها علاقة بالقضايا المركزية. 2 ـ أن يهدف الحوار إلى تحقيق المصالح المشتركة للطرفين التي لها علاقة بالتقدم العلمي في كافة مجالات الحياة الفكرية والثقافية والاقتصادية . 3 ـ أن يكون الحوارمتحضرا ومترفعا عن الموضوعات التي تتعلق بالخصوصية العقائدية والأخلاقية للأمم والشعوب التي من شأنها إذا أثيرت أن تؤدي إلى إيقاف الحوار أو عدم فاعليته . 4 ـ أن يكون الحوارمعدا وفق برامج مسبقة يكون الغرض منها التواصل والتفاهم لتحقيق التفاعل الحضاري ، بعيدا عن فكرة التصارع والتنازع المقيت . إن المتابع لجولات الحوار الحضاري يجد أنه قد عقدت خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضي حوالي ثلاثين جولة من حوار المسلمين مع الغرب اتخذت شكل المؤتمرات والندوات والحلقات العلمية ، ولكن القضايا والموضوعات التي تطرح في تلك اللقاءات كان الجانب الغربي هو الذي يختارها ويعد برامجها مما يشير إلى حالة عدم التكافؤ في فرص الطرح والمعالجة ، الأمر الذي يدعو إلى مراجعة نقدية لجميع الموضوعات والصيغ التي تطرح في جولات الحوار بما يضمن تحقيق التكافؤ بين طرفي الحوار وصولا إلى نتائج ومعطيات تلبي الأهداف المشتركة للطرفين وتخدم مصالحهما . الحـوار بين العالمية والعولمة : هنالك فرق كبير بين المصطلحين العالمية والعولمة. فالمصطلح الأول يعني أن أبناء هذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته وملله ونحله، يعيشون على هذه الأرض، فلا بد أن يتفاهموا فيما بينهم، تمهيداً للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من أن يأخذ بعضهم من بعض. ولا يجوز أن يفرض بعضهم على بعض لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه. فالاختلاف في هذا الإطار طبيعي جداً، والتعاون ضروري أبداً، لمنع الصدام والحروب والعدوان. وهذه العملية العالمية هي التي تسمى بالتثاقف الحضاري بين الشعوب والأمم، وهي واقع البشرية منذ أقدم العصور إلى اليوم ، فاللغات تلاحقت والمجتمعات تعاونت والحضارات عبرت من مكان إلى مكان . والعالمية بهذا المفهوم هي التي يدعو إليها الإسلام من خلال الدعوة الوادعة ، والجدال الحسن ، دون إكراه لأحد ، منطلقًا من هدي القرآن وتوجيهاته ، في قوله تعالى ((ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ماآتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ))[27] وقوله تعالى (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ))[28] وقوله تعالى (( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ))[29] وقوله تعالى (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ))[30] . والمتتبع لأحداث التاريخ عامة، وتاريخ الإسلام خاصة ، يقف على أنه لم يرد فيه دليل على أن المسلمين رسموا للبشرية طريقًا واحدًا ووجهة واحدة وحكمًا واحدًا ونظامًا واحدًا وعالمًا واحدًا بقيادة واحدة بالإجبار والإكراه ، بل اعترفوا بواقع الأديان واللغات والقوميات، عاملوها معاملة كريمة، بلا خداع ولا سفه ولا طعن من الخلف؛ ولذلك عاش في المجتمع الإسلامي اليهودي والنصراني والصابئي والمجوسي وسائر أهل الشرك بأمان واطمئنان[31]. أما العولمة التي هـي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Globalization فهي مصطلح يعني جعل العالم عالمًا واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبية[32] ، يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي عن العولـمة: "نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق" [33] ، ويثبت هانس بيترمارتن وهارالد شومان، صاحبا كتاب فخ العولـمة أن العولـمة هي عملية الوصول بالبشرية إلى نمط واحد في التغيير والأكل والملبس والعادات والتقاليد[34]. ويقول الدكتور سـيار الجميل: إنها عملية اختراق كبرى للإنسـان وتفكيره ، وللذهنيات وتراكيبها ، وللمجتمعات وأنساقها ، وللدول وكياناتها ، وللجغرافيا ومجالاتها، وللاقتصاديات وحركاتها ، وللثقافات وهوياتها ، وللإعلاميات وتداعياتها[35]. وأما الدكتور مصطفى محمود فيقول: العولمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلاّ خادم للقوى الكبرى[36]. ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن العالمية التي يدعو إليها الإسلام لا تتعارض في حال من الأحوال مع مبدأ الحوار ، وإنما تتفق معه بكل جوانبها ، لأنها تعني الاعتراف بواقع الأديان والحضارات والثقافات الأخرى ، ولأنها تمهد الطريق للتعاون بين بني البشر وفق معطيات التفاعل الحضاري ، دون أن يفرض طرف ثقافته ومعتقداته على الطرف الآخر ، فهو بذلك حـوار يحفظ للشعوب هويتها وخصوصيتها الثقافية ويمنع الصدام والتناحر والعدوان . أما العولمة فهي تحمل نتائج رهيبة أجمع الباحثون عليها ، حيث لا توجد فيها لغة مشتركة تجمع بين الحضارات والثقافات الإنسانية المختلفة ، لأن المجتمعات الفقيرة والضعيفة في عرف العولمة لا تستحق البقاء ، ويجب إسقاطها من الحساب على مستوى العلاقات الدولية المعاصرة . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن العولمة تعني بالنتيجة عودة الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي من جديد بصورة العولمة المزعومة من خلال تركيزها على الاقتصاد الحر واتفاقية الجات ، والتبعية السياسية ، ونشر القيم الاستهلاكية ، والجنس والعنف والجريمة المنظمة ، حتى غدا العالم الذي خضع للعولمة بدون دولة ، وبدون أمة ، وبدون وطن ، فقد شطرت العولمة العالم إلى شطرين : عالم المؤسـسات والشـبكات ، عالم الفاعلين والمسيرين ، وعالم آخر هم المستهلكون للمأكولات والملعبات والمشروبات والصور والمعلومات التي تفرض عليهم[37]. يقول رئـيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد الذي عانت بلاده من آثار العولمة في السنوات الأخيرة: إن العالم المعولم لن يكون أكثر عدلا ومساواة ، وإنما سيخضع للدول القوية المهيمنة ، وكما أدى انهيار الحرب الباردة إلى موت وتدمير الكثير من الناس فإن العولمة يمكن أن تفعل الشيء نفسه وربما أكثر من ذلك ، وفي عالم معولم يكون بإمكان الدول الغنية فرض إرادتها على الباقين الذين لن تكون حالهم أفضل مما كانت عليه عندما كانوا مستعمَرين من قبل أولئك الأغنياء[38]. وبناء على ما تقدم ، فإن العالم الذي يعيش تحت مظلة العولمة لا يمكن أن يقوم فيه حوار يعتمد أسـس التفاعل الحضاري الذي يؤمن به الإسلام في علاقته مع الأمم الأخرى ، وإنما سـيكون الحوار في ظل العولمة حوار الهيمنة والسـيطرة وفرض الأمر الواقع ثقافـيا واقتصاديا وسـياسيا ، وهو ما يرفضه الإسـلام ولا يرضاه لأتباعه . الأقليات الإسلامية والحوار مع الآخر : تمثل الأقليات الإسلامية في دول العالم المختلفة نسبة لا يستهان بها من المسلمين الذين يدينون بهذا الدين، ولذلك فهم جزء من هذه الأمة تجد نفسها مضطرة للتعامل مع مجتمعات تختلف معها في المعتقد والحضارة والتفكير، وتتباين معها في السلوك والتصرفات الأمر الذي يجعلها أكثر حاجة إلى التفاعل الحضاري والحوار مع الآخر الذي وجدت نفسها وسط بيئته وكيانه . ولا بد من الإشـارة هنا إلى جملة من الحقائق صاحبت نشوء ظاهرة الأقليات الإسلامية في العصر الحديث ، أبرزها : 1 ـ إن السبب الأساسي لنشوء ظاهرة الأقليات الإسلامية كان مرتبطا بالهجرة من البلاد الإسلامية إلى مختلف أقطار العالم ، وبخاصة إلى أوربا وأمريكيا وكندا واستراليا ، حيث وصل المهاجرون من المسلمين إلى تلك البلدان وهم يحملون ثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم ليجدوا أنفسهم وسط مجتمعات لها دياناتها ولغاتها وثقافاتها ، ولها أنماط حياة وأساليب معيشة خاصة بها تختلف عما ألفوه ونشـئوا عليه في بلدانهم الأصلية. 2 ـ إن الأفواج الأولى من المهاجرين المسلمين كان يغلب عليها الطابع الشعبي حيث كان البحث عن موارد الرزق هو الدافع الأكبر على تلك الهجرات الأولى ، الأمر الذي جعل أغلب تلك الأفواج تنصهر مع المجتمعات الجديدة التي وفدوا عليها ، إلا أنه مع مرور الزمن وبفعل التحولات الدولية الحديثة حصل تغير في نوعية المهاجرين من البلاد الإسلامية إلى الغرب ، حيث أخذت أفواج المتعلمين والدارسين وأصحاب الكفاءات الثقافية والعلمية والمهارات المهنية المتميزة تغلب على ظاهرة المهاجرين المسلمين ، مما أدى إلى ظهور أوضاع جديدة وبروز مشكلات متنوعة شعر المسلمون في المهجر بوطأتها وصاروا يتطلعون إلى إيجاد حلول لها حتى يستطيعوا التوفيق بين هويتهم وثقافتهم وبين المحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية والمناخ العام الذي وجدوا أنفسهم يعيشون فيه . 3 ـ إن انتشار الإسلام في الدول غير الإسلامية عن طريق إقبال أهل الأديان الأخرى على اعتناقه بعد وصول أفواج المهاجرين من المسلمين إليهم كان سببا آخر من أسباب نشوء ظاهرة الأقليات الإسلامية وتزايد أعدادهم ، الأمر الذي دعا مجددا إلى ضرورة صياغة برنامج جديد لمعالجة أوضاع المسلمين الجدد وتحديد علاقاتهم مع طبيعة المجتمعات التي نشأوا فيها . ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن الأقليات الإسلامية هي إحدى الفئات التالية[39]: 1 ـ مسلمون ينتسبون إلى دول غير إسلامية بالأصل والمواطنة ، مثل مسلمي الهند والصين والفيليبين المقيمين في أوطانهم الأصلية ، وهؤلاء جزء لا يتجزأ من شعوبهم لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات مثل ما على مواطني تلك الدول . 2 ـ مسلمون يقيمون في دول غير إسلامية ويخضعون لأحكام القانون المحلي لتلك الدول أمثال المسلمين من الدول العربية والإسلامية الذين يهاجرون إلى شتى بلدان العالم . ومهما يكن من أمر فإن هؤلاء الذين يمثلون الأقليات الإسـلامية بحاجة إلى الاهتمام بأوضاعهم العامة باعتبارهم جزءا من حركة اليقظة الشاملة التي سادت أرجاء العالم ، فنتج عنها تزايد مستمر ومتواصل من المسلمين الذين يعتنقون هذا الدين ويلتزمون بأحكامه وشريعته . ولابد من الإشـارة هنا إلى أن عـددا من الأقليات الإسلامية في بعض البلدان الأوربية والأمريكية استطاعت أن تكتسـب كيانا قانونيا يوفر لها إمكانية الاندماج في المجتمعات التي وفدت إليها بما لا يفقدها خصوصيتها الثـقافية ولا يؤثر في تركيبتها الاجتماعية ، الأمر الذي جعلها تسـتطيع التعايش والحـوار مع مختلف الفئات الاجتماعية ، كما وفر لها فرصا من التعامل المتكافئ مع الظروف المحيطة بها ، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الأغلبية الساحقة من تلك الأقليات المقيمة في مختلف أقطار العالم التي تتهدد هويتها الثقافية مجموعة من المشكلات والضغوط التي أملتها طبيعة التباين في المعتقد والمنهج والتفكير ، ولذلك فإن المحافظة على تلك الهوية الثقافية تتطلب جملة من المعطيات تتمثل فيما يلي : 1 ـ إن تلك الأقليات الإسلامية المقيمة في مختلف الأقطار تحتاج إلى أن نتعهدها بالرعاية الكاملة تربويا وثقافيا وأخلاقيا وفكريا حتى تبقى هذه الأقليات في منأى عن المؤثرات الضاغطة التي تهدد الوجود المعنوي لها وتضعف فيها المناعة الثقافية والأخلاقية ، فتصبح فريسة الضياع والانحراف والتيه . 2 ـ لابد لتلك الأقليات من أن تتمتع بسلامة العقيدة والفكر وقوة التمسك بالأخلاق والقيم ، لأن الجماعات الإسـلامية خارج العالم الإسـلامي كلما كانت متماسـكة عقائـديا وأخلاقـيا كان ذلك أقـرب إلى التأثير الإيجابي في البيئة والمحيط الذي تعيش فيه ، أما إذا ضعف كيانهم بسبب غياب الوعي الديني فإن ذلك سيؤدي إلى انسحابهم من ميدان التفاعل الحضاري وعدم مقدرتهم على التأثير بالمجتمعات المحيطة بهم . 3 ـ إن العلاقة بين الأقليات الإسـلامية والمجتمعات من حوله ينبغي أن تقوم على أسـاس من القيم الإسلامية التي تصنع الفرد والجماعة ، وتجعل من المسلم عضوا فاعلا ومؤثرا في محيطه وبيئته التي يعيش فيها ، يتفاعل مع ما يسـود المجتمع من أفكار ومواقف، ويستوعب كل ما يجري من حوله بعين فاحصة وعقل مدبر وفكر نير . إن الأقليات الإسـلامية مطالبة بأن ترتقي إلى مستوى المسـئولية في التعامل والتجاوب والتحاور مع المجتمعات المحيطة بها ، وذلك بأن يكون لها حضور متميز في ميادين العمل العام ، وأن تعطي صورة حقيقية للمسلم الذي يقدم الخير والفضيلة للمجتمع الذي يعيش فيه ، بحيث لا يكون إنسانا انعزاليا سـلبيا ، ولكن تلك المشاركة يجب أن تكون ضمن حدود الأحكام الشرعية بحيث لا تلغي فيه خصوصيته الإسلامية فيضيع وسط التيار المادي الجارف عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (( لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا))[40]. ولا شك أن الأقليات الإسلامية إذا ما وفقت في إقامة علاقات ثقافية مثمرة مع المجتمعات التي تندمج فيها وتتعايش معها ، فإنها ستحقق لنفسها ولدينها فوائد كثيرة من أبرزها تقوية الروابط الإنسانية التي ترسخ الوجود الإسلامي في البلدان غير الإسلامية وتساهم في إبراز الصورة الحقيقية للإسلام وتعمل على تصحيح ما يروج ضده من مغالطات وافتراءات لدى الشـعوب غير المسـلمة ، كما أن تلك العلاقات ستكون دعوة مفتوحة يتم من خلالها تبليغ الرسـالة الإسلامية إلى العالم بلغة مفهومة ومنطق مقنع وأسـلوب جذاب ، من دون إخلال بجوهر العقيدة أو بأصل من أصول الدين الحنيف . وكل هذه الجهود الخيرة تتطلب التصرف الحسن والفهم الرشيد لمقتضيات العمل الثقافي في قنواته المتعددة وإن ثقل المسئولية في هذا الجانب إنما يقع على عاتق منظمات العالم الإسلامي ومؤسساته الدعوية والمعنية بالعمل الثقافي ، لأن الأقليات الإسلامية في حاجة شديدة إلى أن تقف تلك المنظمات إلى جانبها وتدعمها وتقدم لها الخدمات التربوية والعلمية والثقافية ، وتوفر لها المساندة والمؤازرة في كافة الميادين ، لأن نجاح الأقليات الإسلامية في حماية هويتها والمحافظة على عقيدتها يخدم في نهاية المطاف المصالح العليا للأمة الإسلامية . وبناء على هذه المعطيات التي أشرنا إليها يجب أن يكون شكل الحوار وطبيعته بين الأقليات الإسـلامية وبين مختلف الشـرائح والفـئات الاجتماعية والفكـرية والسياسية التي تتعامل معها وتعيش في كنفها ، لتثبت وجودها وحضورها داخل تلك المجتمعات ، ولتستفيد من الفرص التي يتيحها الحوار والتواصل والتفاعل في خدمة مصالحها وتحقيق حياة أفضل لها . المحور الثاني: الحضارات ،،، صراع أم حوار ؟ تبادلت الشعوب والأمم منذ القدم المعارف والخبرات وأنماط الحياة ، فأدى ذلك إلى نمو الثقافات وازدهارها ، وإلى التواصل والتفاهم بين الحضارات المختلفة ، ويهمنا هنا أن نبحث عن العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ، باعتبارهما تشكلان أبرز حضارتين تربطهما مصالح وآمال وآلام مشتركة في عالم اليوم ، وللوقوف على شكل العلاقة بين هاتين الحضارتين يمكن لنا أن نطّلع على التوجهات والأطروحات التي تعتمدها كل حضارة . ففيما يتعلق بالحضارة الإسلامية ، فإن المتتبع للعهود التي ازدهرت بها تلك الحضارة وتعاملت فيها مع شعوب مختلفة وأجناس متعددة ، يجد أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم كانت علاقة احترام وتفاهم وتواصل ، ولم يذكر التاريخ أن المسلمين حاولوا استلاب ثقافة الآخرين أو إملاء ثقافتهم عليهم بالقوة ، وقد تعامل المسلمون مع غيرهم بهذه المفاهيم بناء على الثوابت الواردة في القرآن الكريم في هذا الشأن ، منها قوله تعالى (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ))[41]وقوله تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ))[42]وقوله تعالى (( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ))[43]مما يثبت أن الإسلام يريد للعلاقة بين الحضارات أن تكون علاقة حوار وتفاهم وتواصل ، وليست علاقة صراع وصدام وتنافر . أما الحضارة الغربية ، فقد برز فيها اتجاهان متباينان : الاتجاه الأول : يرى أن العلاقة بين الحضارات يجب أن تكون علاقة صراع وتصادم ، وقد برزت دعوات غربية بهذا الاتجاه منها: المقالة التي نشرها جاك شاهين ( مستشار شبكة سي . بي . إس . التلفزيونية لشؤون الشرق الأوسط ومؤلف كتاب " العربي كما يظهره التلفزيون " ) وتتضمن عرضا موجزا للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي أنتجتها هوليود من سنة 1990م إلى سنة 1996م والتي تظهر العرب والمسلمين في صورة كاريكاتورية مشوهة غالبا ما تكون صورة الإرهابيين ، حيث توحي تلك الأفلام أن العنف جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي والقرآن الكريم[44]. ومنها المقالة التي نشرها صموئيل هانتنغتون أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد بعنوان " صدام الحضارات " سنة 1993م ووسعها وأصدرها في كتاب خاص سنة 1996م ، وهي مقالة تحذر شعوبا من شعوب بسبب ثقافاتها ، ويرى كاتبها أن ثقافة الإسلام وحضارته هي مصدر الخطر وعامل التهديد لثقافة الغرب وحضارته بل هي العدو الذي تجب محاربته والقضاء عليه، وفي هذا يقول هانتنغتون " يعتبر التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات ؛ إذ أن المواجهة التالية ستأتي حتما من العالم الإسلامي وستبدأ الموجة الكاسحة التي تمتد عبر الأمم الإسلامية من المغرب إلى باكستان التي تناضل من أجل نظام عالمي جديد[45]. وقد نالت هذه المقالة منذ نشـرها شهرة مدوية ، حتى قيل إنها أصبحت الخطة " الاستراتيجية " للولايات المتحدة في مواجهة تحديات المستقبل . الاتجاه الثاني : يرى أن العلاقة بين الحضارات يجب أن تكون علاقة تفاهم وتعاون ، وبالتالي علاقة حوار وتواصل ، وقد برزت دعوات ومواقف لبناء علاقات ثقافية بين الحضارات المتعددة ، منها : الموقف الذي اتخذه الفاتيكان في عام 1969م حيث أصدر كتابا عنوانه " دليل الحوار بين المسلمين والمسيحيين " قدم فيه عرضا موجزا لبعض مبادئ الإٍسلام ، ومن أهم ما جاء فيه : يجب أن نعمل على معرفة قيم الإسلام ومثله ... وفيه أيضا: علينا نحن المسيحيين أن نعترف بالمظالم التي ارتكبت في الماضي ، وعلينا أن نتخلص من أسوء مشاعر تحيزنا ، وعلينا أن نذكر فكرة المسلمين عن المسيحية[46]. ويتضح من محتويات الكتاب أن الفهم الصحيح للفريق الآخر من حيث تاريخه وحضارته وثقافته هو أساس التفاهم ، ولا يكون الفهم صحيحا إلا إذا تحلى بروح العدل والإنصاف والموضوعية . ومن المواقف التي تدخل ضمن هذا الاتجاه موقف الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا عندما وقف محاضرا في مركز أوكسـفورد للدراسـات الإسـلامية عن " الإسلام والغرب " حيث قال: إن سوء الفهم بين الإسلام والغرب ما يزال مستمرا بل ربما أخذ يزداد ، وإن الصراع يندلع نتيجة عدم القدرة على الفهم والعواطف الجياشة التي تؤدي نتيجة لسوء الفهم إلى الخوف وانعدام الثقة … فالذي يربط بين عالمنا أقوى بكثير مما يقسمهما … لقد عانى حكمنا على الإسلام من التحريف الجسيم ، أرجو أن تتذكروا أن دولاً إسلامية منحت نساءها حق التصويت في نفس الفترة التي منحت فيها أوربا نساءها الحق نفسه ، بل قبل فترة طويلة من اتخاذ سويسرا نفس الخطوة ، كما أن القرآن الكريم نص قبل أربعة عشر قرنا على حقوق المرأة المسلمة في الأملاك والإرث وبعض الحماية في حالة الطلاق وممارسة التجارة ، وفي بريطانيا على الأقل كانت بعض هذه الحقوق غريبة حتى على جيل جدتي ، فالتطرف ليس حكرا على الإٍسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . إذا كان هناك قدر كبير من سوء الفهم في الغرب لطبيعة الإسلام ، فإن هناك أيضا قدرا مساويا من الجهل بالفضل الذي تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإٍسلامي ، إن هذين العالمين ، الإسلامي والغربي قد وصلا الآن إلى ما يشبه مفترق طرق علاقتهما ، ولا يجوز أن ندعهما يفترقان وأنا لا أوافق على مقولة إنهما يتجهان نحو صدام في عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إنني على قناعة تامة بأن لدى عالمينا الكثير لكي يقدماه إلى بعضهما[47]. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه إضافة لوجود اتجاهات مختلفة ومفاهيم متباينة في تحديد شكل العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ، فإن هناك مخاوف واتهامات متبادلة بين الطرفين يجب عدم إغفالها أو التغاضي عنها . فالمسلمون لهم مخاوفهم التي يتوقعونها من الغرب ، والتي يرون أن آثار بعضها لا تزال ماثلة أمام أعينهم ، وتتمثل تلك المخاوف بما يلي: 1 ـ خلفية الحروب الصليبية وآثارها على الأمة . 2 ـ الاستعمار الأوربي بشكليه القديم والحديث . 3 ـ مناصرة الغرب للقوى الغاشمة " الاحتلال " والتدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم الإسلامي . 4 ـ الطمع في ثروات الأمة للمحافظة على مصالح الدول الغربية . والغرب له مخاوفه أيضا ، وهي مخاوف لها دويها الإعلامي ، ولها علماء ومراكز بحوث وساسة يروجونها ، ويقترحون من وسائل مقاومتها ما يصبح خططا استراتيجية تتبناها الحكومات ، وتتمثل تلك المخاوف بما يلي: 1 ـ هجرة عدد كبير من رعايا العالم الثالث إلى الدول الغربية وخاصة دول الاتحاد الأوربي . 2 ـ تهديد ما يسمونه " الأصولية الإسلامية " لتلك الدول . هذه المعطيات تشـير إلى أن مؤتمرات الحوار وندواته بمختلف أنواعها منذ ما يزيد على ثلاثين عاما التي كانت ترمي إلى إقامة علاقات ثقافية بين الجانبين لم تحقق شيئا ذا قيمة لحد الآن ولم تصل إلى نتيجة ملموسة ، وأن هذا الحوار بقي محصورا بين نفر محدود داخل غرف مغلقة ، مثل مراكز البحوث والدراسات ، ذلك أن الحوار لا يتحقق إلا إذا كان هناك بين الطرفين مصالح متبادلة ترمي إلى تحقيق التوازن بين طرفي معادلة الحوار ، ولابد لهذا التوازن من وجود قوة تقف وراءه ، والقوة الوحيدة للمسلمين في الوقت الحاضر تتمثل في التضامن وجمع الكلمة وتوحيد الصف ، وبذلك يعود للحوار حرارته وقوته ، ويصبح الحديث عن التعاون الثقافي حديثا مؤديا إلى الغاية محققا للهدف . ويتضح لنا من خلال ما تقدم : أن طبيعة العلاقة بين الحضارات إذا بقيت داخل مراكز البحوث والدراسة وضمن إطارها الأكاديمي ليقدم المتخصصون لأصحاب القرار السياسي صياغة علمية وتصورا منطقيا ، فإن ذلك يجعل العلاقة بين الحضارات علاقة حوار وتفاهم وتواصل . إن نموذج الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات يحدث عندما تكون كل الثقافات متساوية ، سواء كانت ثقافات عظمى أو ثقافات صغرى ، حيث كل الثقافات نتاج التاريخ وهي من صنع الناس ، وإذا كانت الشعوب متساوية في القيمة بغض النظر عن اللون فإن الثقافات تكون هي الأخرى متساوية . أما إذا تحولت العلاقة بين الحضارات إلى مراكز القرار السياسي ودهاليز الخطط الاستراتيجية ، فإنها ستتحول لا محالة إلى علاقة صراع وتصادم وتحدي وسيطرة ، مما يقضي على فكرة الحوار الهادئ بين الأطراف . وهكذا فإن نموذج الصراع والتصادم يحدث عندما تجعل إحدى الثقافات من نفسها الثقافة العظمى ، بينما الثقافات الأخرى ثقافات صغرى ، حيث تكون العلاقة عندئذ نوعا من الاستلاب الحضاري والعدوان الثقافي العلمي ، وهو أشد أنواع العدوان وقعا على الشعوب والأمم .