الحقوق السياسية للمرأة في ظلال الإسلام محمد فؤاد البرازي ([1]) بسم الله الرحمن الرحيم شغلت قضية المرأة في كافة المجتمعات : العلماءَ والأدباءَ ورجالَ الإصلاح شغلاً لا مزيد عليه ، لكونها نصف المجتمع تقريبا مِن الناحية العددية ، ولخطورة دورها الذي تلعبه في النواحي التربوية والسلوكية والاجتماعية . والمهتمون بقضية المرأة فريقان : الأول : فريق عفيف نظيف ، حمل راية الإصلاح الاجتماعي من خلال دور المرأة الرائد في تربية النشء ، والاضطلاع بمهام الأسرة ، وإسهامها في تطور المجتمع ، فاهتم بها اهتماما كبيرا يليق بمكانتها ورسالتِها في هذا الوجود الذي تحيا فيه ، لأنه يوقن أن في صلاحها صلاحَ المجتمع، وفي فسادها فساده وانهياره . ولله در القائل : الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق كما سعى هذا الفريق إلى إبراز حقوق المرأة من خلال رؤية إسلامية تستند إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءت كتابات عظيمة عن المرأة منذ قرون طويلة، وتبعتها دراسات حديثة تؤكد على حقوقها ، وتبين عناية الإسلام بها. والثاني : فريق تتلمذ على أيدي المستشرقين ، فشكلوا عقله كما أرادوا ، وأفسدوا ذوقه حسب ما خططوا ، فراح يعمل على تحلل المجتمع الإسلامي من عاداته وأخلاقه وقيمه وسلوكه . اهـ[2] وفي اعتقادنا أن الفريق الأول هو المؤهل لإيصال المرأة إلى حقوقها من خلال رؤى إسلامية صافية ، بعيدة عن الغلو والتعصب ، نقية من كل دَخَنٍ وغبش . المرأة في العصور التاريخية الأولى وقد تعرضت المرأة في العصور القديمة إلى كثير من القسوة والحرمان بحيث اعتبرتها بعض التشريعات الوضعية القديمة رجسا من عمل الشيطان ، بل ادعى البعض - كذبا وزورا - أنها سبب إغواء سيدنا آدم عليه السلام ، وإخراجه من الجنة . وكانت تباع وتشرى ، ولا تملك حقا يخولها التصرف بإدارة ، أو مال ، أو نفس ، إذ ليس لها حق التملك . وبلغ الحال عند الرومان إلى أن سلطة رب الأسرة على زوجته وزوجات أبنائه لا تقف عند البيع ، بل تمتد إلى النفي والتعذيب والقتل . ورغم بعض التحسينات لأوضاع المرأة التي جاء بها قانون جوستينان إلا أنه اعتبر البنات والسيدات البالغات الخاضعات لسلطة رئيس الأسرة فاقدات للأهلية الحقوقية إذا أصبحن مدينات دون إذن من سيدهن ، وكذلك الحال بالنسبة للنساء البالغات المستقلات إذا أصبحن مدينات دون إذن من الوصي عليهن . وكانت المرأة في شريعة حمورابي تحسب في عداد الماشية المملوكة . وليس لها في شريعة مانو عند الهنود حق في الحياة بعد وفاة زوجها ، بل يجب أن تموت يوم موت زوجها ، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد . واستمرت هذه العادات حتى القرن السابع عشر حيث أبطلت على كره من رجال الدين الهنود . وجاء في شريعة الهندوس : ليس الصبر المقدر ، والريح ، والموت ، والجحيم ، والسم ، والأفاعي ، والنار ، أسوأ من المرأة . أما اليهود فإنهم يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم . وكانت بعض طوائفهم تعتبر البنت في مرتبة الخادم ، وكان لأبيها الحق في بيعها قاصرة ، وما كانت ترث إلا إذا لم يكن لأبيها ذرية من البنين ، أو ما يتبرع به لها أبوها في حياته . واعتبر المسيحيون المرأة مسؤولة عما آل إليه المجتمع من انحلال أخلاقي شنيع ، وقالوا : إنها شر لابد منه ، وآفة مرغوب فيها ، وخطر على الأسرة والبيت ، ومحبوبة فتاكة ، ومصيبة مطلية مموهة . أما الغربيون فقد استمر احتقارهم للمرأة، وحرمانهم إياها من حقوقها طيلة القرون الوسطى، حتى إن القانون الإنجليزي حتى عام 1805 كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقد حدد ثمن الزوجة بستة بنسات. ولما قامت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وأعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة لم تشمل بِحُنوِّها المرأة ، حيث نص القانون المدني الفرنسي على أنها ليست أهلاً للتعاقد دون رضا وليها إن كانت غير متزوجة. واستمر ذلك حتى عام 1938 حيث تم تعديل هذه النصوص. أما عند العرب قبل الإسلام فقد كانت المرأة مهضومة في كثير من الحقوق، فليس لها حق الإرث، وليس لها على زوجها أي حق ، وليس للطلاق عدد محدد، ولا لتعدد الزوجات عدد معين، وليس لها حق في اختيار زوجها. وكانوا يتشاءمون من ولادة الأنثى ، وتئدها بعض قبائلهم خشية العار أو الفقر. 1هـ باختصار[3] مكانةالمرأة في الإسلام ولما بزغ فجر الإسلام من جزيرة العرب راح يعلن الإنسانية الكاملة للمرأة ، ويعطيها الأهلية الحقوقية التي تجعلها - إلى جانب الرجل - عاملاً من عوامل نهضة المجتمع . وكان من أبرز هذه المبادئ : المساواة في الإنسانية: فالنساء والرجال في الإنسانية سواء، قال الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أنقاكم إن الله عليم خبير"[4]. وأعلن أن المرأة خلقت من الرجل ، قال الله عز وجل: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء"[5]. ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما النساء شقائق الرجال"[6]. المساواة في التكاليف: فالمرأة مكلفة كالرجل، وإيمان النساء كإيمان الرجال. قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعونهن إلى الكفار"[7]. المساواة في الثواب: قال الله تعالى: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"[8] . وقال أيضاً "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً"[9]. المساواة في الموالاة والتناصر: قال الله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم"[10]. فالأصل إذن هو المساواة بين الرجل والمرأة. وهناك استثناءات من العليم الخبير في أمورقليلة ميز فيها بين المرأة والرجل ، حيث جعل للمرأة خصوصيات تتناسب مع وظيفتها الأساسية في الحياة ، كما جعل للرجل خصوصيات تتناسب مع تكوينه ووظيفته في الحياة. ولن تقوم الحياة الأسرية إلا بذلك. نفى عنها اللعنة التي ألصقها بها رجال الديانات السابقة ، ولم يجعلها سبباً في خروج آدم من الجنة. قال الله تعالى: "فأزلها الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه"[11]. وقال تعالى عن سيدنا آدم وحواء: "فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما"[12]. كما نفَّر من التذمر من ولادتها ، قال الله تعالى في معرض إنكاره على الجاهليين هذه العادة السيئة: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون"[13]. كما حرم وأدها فقال تعالى : "وإذا الموءودة سئلت ، بأي ذنب قتلت"[14]. وجعل للزوجة حقوقا على زوجها مقابل ماله عليها من حقوق. قال الله تعالى : "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة"[15]. وأمر بإكرامها أماً و بنتاً و زوجةً. أما إكرامها أماَ فنصوص كثيرة منها قوله تعالى : "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير"[16] . ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم ، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"[17]. وأما إكرامها بنتاً فنصوص كثيرة أيضا منها قوله صلى الله عليه وسلم "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو" وضم أصابعه[18]. وأما إكرامها زوجةً فأمور كثيرة منها : الإنفاق عليها ، والرفق بها ، وإحسان معاملتها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استوصوا بالنساء خيراَ، فإنهن خلقن من ضِلَع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا"[19]. ورغَّب بتعليمها كالرجل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "طلب العلم فريضة على كل مسلم"[20] وقد نص العلماء على أن المرأة داخلة في عموم هذا الحديث. وخصص الرسول صلى الله عليه وسلم لهن وقتا معينا يعلمهن فيه[21]. وبذلك ضمن الإسلام للمرأة حقوقها في المجال الإنساني ، والاجتماعي ، والحقوقي. الحقوق السياسية للمرأة المسلمة يقصد بالحقوق السياسية عند القانونيين : "الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضواَ في هيئة سياسية ، مثل حق الانتخاب ، والترشيح ، وتولي الوظائف العامة في الدولة"[22] . أو: "هي الحقوق التي يساهم الفرد بواسطتها في إدارة شؤون الدولة أو في حكمها"[23] . أما المشاركة السياسية فيعرفها بعضهم بأنها: "الأفعال القانونية التي يقوم بها المواطن العادي ، والتي تهدف إلى التأثير على الأفراد الحكوميين أو أفعالهم"[24]. ويرى البعض الآخر أن "القانونية ليست شرطا في المشاركة ، إذ قد تكون قانونية أو غير قانونية ، سلمية أو غير سلمية"[25] . وتختلف النظرة الإسلامية للعمل السياسي للمرأةعن النظرة الغربية ، حيث تركز الأخيرة على سبل التأثير على صنع القرار لتحقيق تفاعل مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة ومن بينها مصالح النساء بهدف استقرار النظام السياسي ، في حين تجعل الرؤية الإسلامية المصلحة الشرعية مناط الحركة السياسية ، والأمة هي الفاعل الرئيسي ، والمؤسسات أدوات لتحقيق هذه المصلحة . لذا فإن العمل السياسي يدور مع الشريعة وأحكامها ومصلحة الأمة . فالعمل السياسي في الرؤية الإسلامية لا يرتبط بالقانون بل بالشريعة ، ولا يلتزم بالمؤسسة بل بالمصالح الشرعية ، وهو ما يضفي على مفهوم "العمل الإسلامي" أبعادا تختلف عن مفهوم "المشاركة السياسية" ، ويجعل عدم انطباق مؤشرات المشاركة الغربية أحيانا في حد ذاته مؤشرا على فعالية الأمة ووعيها بدورها[26] . وسنتكلم عن الحقوق السياسية وموقف الشريعة الإسلامية من منح هذه الحقوق للمرأة المسلمة . أولا : حق الانتخاب : الانتخاب إما أن يكون لاختيار رئيس الدولة ، وإما أن يكون لاختيار أعضاء المجلس النيابي . فانتخاب رئيس الدولة : هو اختيار الأمة لرجل يتولى رئاستها ، وترضى به لتسيير أمورها ، بحيث يستمد سلطانه من هذا الرضى وذلك الإختيار . وانتخاب أعضاء المجلس النيابي : هو اختيار الأمة لوكلاء ينوبون عنها في التشريع ومراقبة الحكومة . وبالنظر إلى طبيعة الانتخاب نجده توكيل الأمة لمن يقوم برئاستها ، وكذلك توكيلها لوكلاء في المجلس النيابي ينوبون عنها في طرح قضاياها ، والدفاع عن حقوقها ، والتعبير عن إرادتها . ومن تأمل طبيعة هذا العمل يجد أن الإسلام لايحول دون وصول المرأة إلى هذا الحق ، لأنها أهل لوجوب الحقوق المشروعة لها وعليها كما أنها أهل لصدور الأفعال منها على وجه معتد به شرعا مع عدم توقفها على رأي الغير وهذه الأهلية هي التي يعبر عنها الأصوليون بـ : (أهلـــية الأداء). ويشترط الأصوليون لصحة التكليف الشرعي للمكلف شرطين: أحدهما: أن يكون قادرا على فهم دليل التكليف بنفسه أو بالواسطة. ثانيهما: أن يكون أهلا لما كلف به. وهذان الشرطان متوافران في المرأة[27] . وبالتالي فليس هناك ما يمنع من ممارستها لحق الانتخاب. زد على ذلك أن للمرأة البالغة أهلية كاملة في الولاية الذاتية على نفسها، إذ لايملك وليها إجبارها على الزواج ممن لا تريد ، كما أن لها ولاية على الأموال فتنفذ تصرفاتها في مالها الخاص دون الحاجة إلى موافقة وليها أو زوجها ، ولها ولاية متعدية على غيرها كالحضانة والوصاية مع اختلاف الفقهاء في بعض الجزئيات . ولما كان الانتخاب وكالة ، والمرأة البالغة أهل لها ، وأنها تتمتع بأهلية وجوب كاملة ، وأهلية أداء كاملة ، وولاية ذاتية على نفسها ومالها ، وولاية متعدية على غيرها - على خلاف في تفاصيل ذلك - فإن لها استخدام هذا الحق ، إذ لايوجد نص شرعي يحول بينها وبينه ، لاسيما وأنه إذا أُحسن استغلاله يكون بابا من أبواب النصح لله ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم. ومما يؤكد لها هذا الحق باعتباره عملاً سياسياَ أخذ البيعة عليها ـــ وهي بالإضافة إلى كونها عهدا دينياً ملزماً ــــ فهي عمل سياسي مماثل من بعض الوجوه ، إذ هي كما عرفها بعضهم : "ميثاق الولاء للنظام السياسي الإسلامي ، أو الخلافة الإسلامية ، والالتزام بجماعة المسلمين ، والطاعة لإمامهم"[28]. فهي ميثاق إنساني يتضمن ثلاثة أطراف هي : الخليفة نفسه ، والقائمون بالبيعة، أي الأمة ، والمبايع عليه ، أي الشريعة . ولا تنتهي مسؤولية الأمة بعقد البيعة ، بل تستمر في تحمل تبعة حفظ الدين ، وتطبيق الشريعة من خلال الشورى ، والرقابة والنصح[29] . وقد روى الإمام البخاري هذه البيعة ، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ونحن في مجلس - : "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فامره إلى الله : إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ، فبايعناه على ذلك"[30]. وعن أم عطية قالت : بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا : "أن لا يشركن بالله شيئا" ونهانا عن النياحة"[31]. فأنت ترى أن هذه البيعة كانت على العقيدة والأخلاق الاجتماعية الإسلامية ، وقد أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وبعد تأسيس الدولة ، ولم تختلف صيغتها ، وسميت اصطلاحا : "بيعة النساء" لورود نصها في سورة الممتحنة في سياق الحديث عن مبايعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي البيعة التي ميزت الدولة الإسلامية عن مجتمع الجاهلية ، واعتبرها البعض دليل وجوب التنظيم السياسي للمجتمع الإسلامي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية"[32]. وبما أن الإسلام قد منح المرأة حق البيعة مع ما فيها من مسؤولية وأمانة ، فإنه من باب أولى يعطيها حق اختيار أهل الحل والعقد لما في ذلك من النصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن أحسن استخدامه ، واتقى الله فيه ، والله عز وجل يقول : "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"[33] ويقول : "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"[34]. وإذا ترتب على إحجام المرأة المسلمة عن المشاركة في الانتخاب إضعاف للمرشحين الأكفاء الأمناء فلا يبعد أن يرقى ذلك الحق إلى مرتبة الواجب ، إذ مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثانيا : حق النيابة : لقد كثر الجدل حول جواز تمتع المرأة بهذا الحق من عدمه : ــــ فذهب البعض إلى منعها منه لما يترتب عليه من الخروج من المنزل ، والاختلاط بالرجال ، والخلوة بهم في بعض الأحيان ، يضاف إلى ذلك أن توليها لهذا المنصب يجعل لها ولاية على الرجال مع أن الله تعالى جعلها للرجال على النساء . ــــ وذهب البعض الآخر إلى أن لها هذا الحق كالرجل سواءً بسواء لكونها مكلفة مثله بفعل الطاعات ، واجتناب المنهيات ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما النساء شقائق الرجال"[35] ولا تخرج من هذا العموم إلا بدليل تخصيص. وجميع خطابات الشارع عامة للجنسين ، إلا ما يتعلق بالأحكام الخاصة بها نظرا لطبيعتها ، وما اقتضته الفطرة من التمييز بين الزوجين بحسب طبيعتهما واستعداداتهما. ولمعرفة المسؤولية الملقاة على المرأة في هذا المجال لابد وأن نعرف مهمة "مجلس النواب" الذي يطلق عليه في بعض الدول "مجلس الأمة" وفي بعضها الآخر "مجلس الشورى" . وللجواب على ذلك نقول : تكاد أنظمة الدول كلها تجمع على أن المهمة الأساسية لمجلس النواب هي : مراقبة السلطة التنفيذية . تشريع القوانين . - أما مراقبة السلطة التنفيذية في التخطيط والأداء فلا تخرج عن كونها أمراَ بالمعروف ونهياً عن المنكر ، والمرأة كالرجل في هذا سواءً بسواء . قال الله تعالى : "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"[36] وطبيعة هذا الجانب من هذه المهمة إسداء النصح ، وليس ذلك قاصراً على الرجال دون النساء ، فقد روى تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الدين النصيحة . قلنا : لمن ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم"[37] . وتروي كتب الحديث والسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من اتفاق صلح الحديبية مع ممثل قريش سهيل بن عمرو ، وتضمن عودة المسلمين عن الاعتمار في ذلك العام على أن يرجعوا للعمرة في العام الذي يليه وليس مع المسلمين إلا السيوف في قرابها ، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على أصحابه فقال لهم : "قوموا فانحروا ثم احلقوا . قال الراوي : فوالله ما قام منهم رجل ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت له : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لاتكلم أحداَ منهم كلمةً حتى تنحر بُدنك ، وتدعوَ حالقك فيحلقَك . فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك : نحر بُدنه ، ودعا حالقه فحلقه . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً"[38] . لقد كان في رأي أم سلمة خير كثير جنب الأمة معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يترتب على ذلك من سخط الله عز وجل . واستخدمت المرأة حق النصح حين ردَّت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نهى عن كثرة الإصداق ، فرجع عن ذلك . فقد روى الحافظ أبو يعلى بسنده إلى مسروق ، قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال : ثم نزل ، فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : "وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" ؟ فقال : اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل"[39]. فما دامت المرأة ـــ وهي في خير القرون ـــ تشير على رسول الله ، وتنصح أمير المؤمنين لمــــَّا رأت منه نسيان حكمٍ من أحكام الله ، و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر لتبرئ ذمتها أمام الله ، فليس هناك مانع يمنع من اشتراكها مع مجموعة من الناس تختارهم الأمة لمجلس نوابها ليقوموا بهذا الدور ، ويُسْدوا النصح ابتغاء وجه الله ، لا سيما وأنه لا يوجد نص شرعي يحول بينها و بين هذا الحق . هذا هو الجانب المتعلق بمراقبة السلطة التنفيذية . ــــ أما ما يتعلق بتشريع القوانين : فهو الجانب الآخر من مهام مجلس النواب . ونحب أن نؤكد أن المشرع الحقيقي هو الله عز و جل ، و لا يجوز لأحد أن يفتات على الله في هذا الحق ، فالحلال ما أحله الله ، و الحرام ما حرمه الله ، وأصول التشريع كلها من عند الله . غير أن مهمة "النائب" إعمالُ فكره و بذلُ جهده في النصوص الشرعية لاستنباط الأحكام منها ، و هذا هو: "الإجتهاد" ، أو: إلحاقُ واقعةٍ لا نص على حكمها بواقعة و رد نص بحكمها ، في الحكم الذي ورد به النص ، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم ، و هذا هو: "القياس" . و ليس في الشريعة الإسلامية ما يمنع المرأة من إعمال الفكر ، و بذل الجهد. فقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من مجتهدات الصحابة ، و يكفي لمعرفة تضلعها في العلم ما حكاه الزركشي " أن الأكابر من الصحابة كان إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها ، فيجدون علمه عندها . قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : " ما أشكل علينــا ـــ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــ حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً". أخرجه الترمذي ، و قال حسن صحيح . و ذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى : أنها كانت وحيدة عصرها في ثلاثة علوم : علم الفقه، و علم الطب ، و علم الشعر" . إهـ باختصار[40] و لم تنفرد أم المؤمنين عائشة بهذا دون سائر النساء ، بل استمر وجود العالمات و المحدثات منهن على مختلف العصور و كرِّ الدهور ، حتى أخذ عن بعضهن الإمام الشافعي، و الإمام البخاري ، و ابن خلكان ، و ابن حبان ، بل كان لحافظ الأمة ـــ كما لقبوه ـــ الحافظ ابن عساكر المتوفى (سنة 571 هـ) بضع وثمانون شيخة وأستاذة من النساء[41] . وقد خرَّج الحافظ الذهبي المتوفى سنة( 748 هـ) في كتابه : " ميزان الاعتدال في نقد الرجال "عدة آلاف مُــتَّهم من المحدثين ، ثم أَتْــبَع ذلك بقوله : " وماعلمتُ من النساء من اتُّهمتْ ولا من تركوها "[42] . وكثيراً ماتُناقَشُ في " المجلس النيابي " أمور تتعلق بالمرأة ، وشؤون الأسرة ، وفي مشاركتها إثراء لما يطرح ويناقش ، ومساهمة في تشريع بعض القوانين الهامة. فقد استشار الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه السيدة حفصة عن مدة صبر المرأة على خروج زوجها للجهاد، وأخذ بمشورتها، كما ذكَّرتــْهُ امرأة في شأن المهور ـــ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ـــ فرجع عما قال، وفرض العطاء لكل مولود يولد في الإسلام بناءً على حادثة كان طرفها الثاني امرأة. ولإيضاح دور المرأة في تشريع القوانين للحوادث التي لا نص فيها يمكن استعراض مسؤوليتها في ذلك وفقاً لمسائل الشورى المختلفة : ليس هناك ما يمنع من مشاركتها في المسائل التشريعية ذات الصبغة الفقهية ، إذ إن لها بالإجماع حق الاجتهاد والفتوى . وليس هناك ما يمنع من مشاركتها في المسائل الفنية المتخصصة ، إذ إن العبرة فيها بالأهلية . وليس هناك ما يمنع من مشاركتها في الشورى على المسائل العامة باعتبارها فرداً في الأمة . وليس هناك ما يمنع من مشاركتها في الشورى الخاصة بفئة معينة من خلال العمل النقابي الذي تتأسس مشاركتها فيه على حقها في العمل المهني[43]. نعم ليس في الإسلام مايمنع من ذلك كله مادام ضمن أطره الشرعية ، وآدابه المرعية . " وعلاوة على ذلك فإن للمرأة الحق في أن توكل عنها في الـرأي ، ويوكلها غيرُها فيه ، لأن لها حقَّ إبداء الرأي ، فلها أن توكل فيه ، ولأن الوكالة لاتشترط فيها الذكورة فلها أن تتوكل عن غيرها "[44] ، سواء كان الموكل لها فرداً، أو مجموعة من أفراد الأمة، حتى تتكلم باسمهم، وتساهم في تشريع القوانين بالوكالة عنهم. وبناءً على ماتقدم فإننا نرى جواز مشاركة المرأة في المجالس النيابية لأهليتها ، ومشروعية أن تتوكل عن غيرها ، وعدم وجود نص شرعي يحظر ذلك وأمثاله عليها. ثالثــاً ــ الولايــات العـــــامة قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن ولاية أمرالناس من أعظم واجبات الدين ، بل لاقيام للدين ولا للدنيا إلا بها ، فإن بني آدم لاتتم مصلحتهم إلا بالاجتماع ، لحاجة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم " . رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة . وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لايحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم" ، فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر ، تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع ، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يتم ذلك إلابقوةٍ وإمارة ، وكذلك سائر ماأوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصرة المظلوم وإقامة الحدود لاتتم إلا بالقوة والإمارة ، ولهذا روي : " إن السلطان ظل الله في الأرض"[45]. والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك. والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله، وأن لا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وتركِ خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حًكَمَ على الناس في قوله تعالى: "فلا تخشوا الناس واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"[46] والمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاخ ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. وهو نوعان: قَسمُ المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتدِ أصلح له دينه ودنياه، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: "إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم".[47] والولايات العامة لها صور عديدة ، أعظمها :الإمامة العظمى، ويطلق عليها اليوم : (رئاسة الدولة) ، ثم الوزارة ، ثم القضاء ، ثم الحسبة، وأمثالها. 1 ـــ أما "الإمامة العظمى" وهي التي يطلق عليها العلماء : "الإمامة الكبرى" و "الخلافة" وتعرف في عرفنا الحديث بـ "رئاسة الدولة" ، فقد قال عنها الشيخ عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى: "الخلافة: هي الرياسة العظمى، والولاية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين والدنيا، والقائم بها يسمى: الخليفة، لأنه خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإمام، لأن الإمامة والخطبة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين لازمة له لايقوم بها غيره إلا بطريق النيابة عنه كالقضاء والحكومة، ويسمى أيضا: أمير المؤمنين، وهو الوالي الأعظم، لا والي فوقه، ولا يشاركه في مقامه غيره"[48]. وعرف الماوردي رحمه الله تعالى الإمامة بقوله: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"[49]. ويظهر من هذا التعريف أن الإمامة للخلافة عن النبوة، وأن موضوع هذه الخلافة حراسة الدين أولاً، ثم سياسة الدنيا ثانياً.[50] ولهذا أجمع أهل العلم سلفاً وخلفاً ـــ عدا قلة من الكُتـــَّاب المعاصرين ـــ على أنه لا يجوز للمرأة أن تلي الإمامة العظمى، واحتجوا لذلك بالقرآن والسنة والإجماع . أ ــ أما القرآن ، فقول الله تعالى : "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض"[51] فقد جعل الله تعالى القوامة للرجال على النساء لأنهم من حيث المجموع أقدر وأكفأ وإن في جواز تولي المرأة لرئاسة الدولة عكساً لموضوع الآية ، وهي وإن نزلت لبيان قوامة الرجل على الأسرة ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فتبقى الحجة فيها قائمة لإثبات المراد . والخليفة يتولى عادة إمامة المسلمين في الصلاة ، والمرأةُ عاجزة عن ذلك شرعا ، إذ لايبيح لها الإسلام إمامة الرجال ، وإن فعلت كانت صلاتها وصلاتهم باطلة[52]. وقد حكى عدم جواز إمامتها للرجال في الصلاة: ابن قدامة بلفظ: "عامة الفقهاء"، وابن تيمية بلفظ: "عامة العلماء" ومحمد بن عبد الرحمن العثماني الشافعي، وسعدي أبو حبيب، والموسوعة الفقهية بلفظ: "الاتفاق"، والكمال بن الهمام بلفظ: "الإجماع"[53]. فما دامت عاجزة شرعاً عن أداء واجب من واجبات الخلافة الأساسية فلا يصح توليتها تلك الولاية. كما أن من مهام الخليفة تدبير شؤون الرعية ، وطبيعتها كامرأة لا تتيح لها التفرغ لذلك على الوجه المطلوب . ب- وأما السنة ، فقد روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : "…لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة"[54] . فدل هذا الحديث على أن المرأة لا تُولَّى الولاية العامة ، وهو ما يعرف اليوم "برئاسة الدولة" ، وليس ذلك انتقاصاً من كرامتها وأهليتها ، ولكن لملاءمته لأوضاعها الأنثوية ، ورسالتها الاجتماعية. ورئاسة الدولة لا تتلاءم مع ذلك التكوين النفسي والعاطفي للمرأة ، لأن رئيس الدولة قائد الأمة ، فهو الذي يعلن الحرب ويقرر السلم ، ويرجح ما اختلف فيه أهل الحل والعقد. "والولاية الكبرى تستوجب حقظ الدين، وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وحماية البيضة، وإقامة الحدود، وتحصين الثغور، والجهاد، ومباشرة الإمام الأمور بنفسه، بل وإمامة المسلمين في الصلاة، وهو ما لا تقدر عليه المرأة, إذ إن منها ما هو مصروف عنها بحكم الشرع"[55]. وهذه الأمور وتلك أمور تحتاج إلى رباطة جأش ، وشجاعة كبيرة ، وعقل يغلب العاطفة ، وهذه الصفات متوافرة عند الرجال أكثر مما هي عند النساء ، لاسيما في المواقف الحرجة التي تشتعل فيها الحروب ، وتراق الدماء ، وتتبعثر الأشلاء ، ولا يصبر فيها إلا أشداء الرجال . وللحرب رهبة كبيرة ، وآثارها مدمرة ومريرة ، قال عنها الشاعر العربي : وما الحرب إلا ما علمتم وذقتـــــــم وما هو عنها بالحديث المرجم فتعرككم عرك الرحى بثــفالها وتلقح كشـــــــافا ثم تنتج فتتئم ولا يقلل هذا من شأن المرأة لأنها تملك في المقابل من المواصفات ما لا يملكه الرجل ، ولهذا تحتاج الأمة إلى حنانها بجانب قوة الرجل ، ولينها إلى جوار شدته ، وأنوثتها المصاحبة لرجولته ، وبهذا تدوم الحياة إلى ما شاء الله لها أن تدوم . ج ـــ أما الدليل الثالث فهو الإجماع : فقد جاء في كثير من المصادر عدم جواز إسناد "الإمامة العظمى" إلى المرأة بلفظ الإجماع تارة ، وبالإتفاق على عدم جوازه تارة أخرى[56] ، من ذلك قول الإمام الجويني: "أجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماماً، وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه"[57]. وقال الشعراني: "واتفق الأئمة على أن الإمامة لاتجوز لامرأة"[58]. وقال ابن حزم: "واتفقوا أن الإمامة لا تجوز لامرأة"[59]. وقال أيضا: "وجميع فِــرَق القبلة ليس فيهم أحد يجيز إمامة امرأة"[60]. أما ما قاله الإمام الطبري : "يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شئ"[61] فلا يقدح في هذا الإجماع لأن مراده في ذلك : أن تكون قاضية في كل الأمور لا خليفة على المسلمين ، بدليل مجيء قوله المذكور في معرض اشتراط الجمهور للذكورة في القضاء ، وقول الإمام أبي حنيفة : يجوز أن تكون قاضيا في الأموال . ويؤيد هذا الذي قلناه ورود عبارته في مصادر أخرى على نحو أوضح ، إذ جاء في المغني : "وحكي عن أبن جرير أنه لا تشترط الذكورية لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية ، فيجوز أن تكون قاضية"[62]. ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن التين قوله "…وخالف ابن جرير الطبري فقال : يجوز أن تقضي فيما تقبل شهادتها فيه"[63]. وجاء في "رحمة الأمة" : "قال ابن جرير الطبري : يصح أن تكون قاضية في كل شئ".[64] وبناء على ما تقدم فإنه لا يجوز إسناد الإمامة العظمى للمرأة لما تقتضيه من رباطة الجأش ، وتفرغ تام لقضايا الدولة ، وتغليب للمصلحة على العاطفة ، وهذا غير متوفر في معظم النساء. 2- القضاء : وهو أحد الولايات العامة ، لهذا اختلف أهل العلم فيمن يجوز قضاؤه : أ- فذهب الجمهور إلى أن "الذكورة" شرط في صحة الحكم ، فلا تولى امرأة القضاء ، لأن القضاء ولاية ، والله تعالى يقول : "الرجال قوامون على النساء"[65] وهو يحتاج إلى تكوين رأي سديد ناضج ، والمرأة قد يفوتها شئ من الوقائع والأدلة بسبب نسيانها فيكون حكمها جورا . وبما أنها لا تصلح للقضاء فإنهاــــ بالأَولى ــــ لا تصلح للولاية العامة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة"[66]، ولأن الولاية العامة أكبر، ومهامها أعظم وأخطر. ب- وذهب الحنفية إلى جواز قضاء المرأة في الأموال لأنه تجوز شهادتها فيها ، وأما في الحدود والقصاص فلا تعين قاضيا لأنه لا شهادة لها فيها ، وأهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة[67]. ج- وذهب الإمامان ابن جرير الطبري وابن حزم الأندلسي إلى جواز قضاء المرأة. فقال الطبري : "يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شئ"[68]. وقال ابن حزم : "وجائز أن تلي المرأة الحكم ، وهو قول أبي حنيفة ، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه ولَّى الشفَّـاء امرأةً من قومه السوق . فإن قيل : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة" قلنا : إنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر العام الذي هو الخلافة . وقد أجاز المالكيون أن تكون وصيةً ووكيلةً ولم يأت نص من منعها أن تلي بعض الأمور"[69]. إلا أن الماوردي اعترض على ابن جرير فقال في رده عليه: "ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قول الله تعالى "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض" يعني في العقل والرأي فلم يجز أن يقمن على الرجال"[70]. وقد أجمل ابن رشد كلام الفقهاء في هذا الموضوع بأجمل عبارة ، فقال : "اختلفوا في اشتراط الذكورة ، فقال الجمهور : هي شرط في صحة الحكم ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال ، قال الطبري : يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء ….فمن رد قضاء المرأة شبَّههُ بقضاء الإمامة الكبرى ، ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال ، ومن رأى حكمها نافذا في كل شيء قال : إن الأصل أن كل ما يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى"[71]. ونرى بعد هذا الاستعراض لأقوال أهل العلم الأخذَ بمذهب ابن جرير لعدم توفر الدليل الصريح الذي يمنع المرأة من تولي سلطة القضاء ، شريطة أن يُراعى في اختيارها الدين والخلق والعلم وحصافة الرأي . الوزارة والحسبة : ويقال فيهما ما سبق قوله في القضاء ، ونرى جواز تولي المرأة لهذه المهمة لأنها ليست بالإمامة العظمى التي سبق الحديث عنها .