التعايش السلمي في الاسلام الواقع والنظرية صدر الدين القبانجي([1]) خلاصة البحث: بحث فقهي: لاشك ان موضوع (التعايش السلمي في الاسلام) يحتاج الى بحث فقهي اجتهادي واسع إكتشاف النظرية، خاصة وان هذا الموضوع لم يبحث في الكتب الفقهية الا بصورة متناثرة وتحت عناوين ومفردات أخرى في باب الجهاد، والامر بالمعروف، والمعاشرة، والزواج، والتجارة، والعهود، وغيرها. معالم في الموضوع: ان ما نحاول الوقوف عنده في هذه الدراسة الموجزة هو تكوين معالم عن النظرية تفتح الافق امام دراسة واسعة وعميقة في هذا الشأن ثم مراجعة في واقع التاريخ الاسلامي على مستوى التعايش مع الآخرين. مجالات التعايش: ان عدة محاولات لهذا الموضوع يجب تحديد الموقف الاسلامي منها: المجال الاول: المسلمون (اهل الملّة) على مختلف مذاهبهم واتجاهاتهم. المجال الثاني: الاصدقاء من خارج المـلـّة. المجال الثالث: الاعداء من اهل الملـّة ومن خارجها. المجال الرابع: المحايدون. ان تكوين النظرية الإسلامية الكاملة في مسألة التعايش تحتاج الى معرفة الموقف الإسلامي تجاه كل هذه المجالات الاربع. أهل الملـّة: وعلى هذا المستوى نجد الرؤية الإسلامية واضحة في مبدأ الاخوة بل الولاية المتبادلة التي تحكم المسلمين بعضهم مع البعض الآخر ولا يصدع هذه الاخوة والولاية الاختلافات المذهبية والقومية التي تحكمهم. وهنا نلاحظ إقرار الشريعة الإسلامية لإجتهادات المذاهب والزام اهلها بها والتزام ذوي العلاقة باستحقاقاتها وهذا هو ماسمي بقاعدة (الالزام) التي ترسخ مفهوماً اعمق من مجرد التعايش السلمي يمكن التعبير عنه بمبدأ الاحترام القانوني للاجتهادات المتعددة. الاصدقاء: وتنفتح النظرية الإسلامية لقبول الصداقة والتعاون وبناء العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها على اساس المصالح المشتركة، بل على اساس الاستحقاقات الانسانية مع الآخرين من غير اهل الملـّة الإسلامية. وهنا سوف نجد ان النظرية الإسلامية لا تغلق حدود العلاقات مع الآخرين ، كما لا تتعامل فقط مع الآخرين من منطلقات مصلحية كما هو مسار السياسات العالمية الحالية وانما تتعامل من منطلق البعد الانساني الذي نشترك به مع الآخرين واستحقاقات هذا البعد على المستوى العلمي الى درجة وجوب الدفاع والقتال من اجل انقاذ الآخرين. الاعداء: اما مع الاعداء بمعنى الذين يقومون بالعدوان على المجتمع الاسلامي فانّ الاسلام يقرر في هذا المجال عدة مبادئ اهمها مبدأ رد العدوان، ومبدأ الجنوح للسلم ، ومبدأ عدم الابتداء بالعدوان، ومبدأ الدعوة للاسلام قبل شن الحرب، ومبدأ تحريم القتال في الاشهر الحرم الاربعة، وسوف نكتشف من خلال هذه المبادئ ان الاسلام يتقارب مهما استطاع مع حالة السلم ويتباعد مهما استطاع من حالة الحرب. المحايدون: وفيما عدا العناوين الثلاثة السابقة سنقف أمام مجال آخر هو مجال المحايدين الذين لا تربطهم رابطة عدوان ولا رابطة صداقة مع المسلمين كمثل الشعوب البعيدة عن العالم الإسلامي في هذا المجال سنجد رحابة الشريعة الإسلامية من خلال دعوتها للبر والإحسان إلىهؤلاء حتى من دون ان تكون هناك مصالح مشتركة، ومحاولة احتضانهم والانفتاح الإنساني عليهم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) الممتحنة/ 8. مستوى التعايش وحينما نريد ان نكون رؤية شاملة عن النظرية الإسلامية في التعايش من الجدير ان ننظر الى عدة مستويات. التعايش على مستوى الافراد؛ والتعايش على مستوى المجتمعات؛ والتعايش على المستوى السياسي؛ والتعايش على المستوى الفكري والثقافي. المستوى الاول: حيث نجد المستوى الاول ان الاسلام يقرر للفرد اخلاقية تسمح له او تدعوة للتعايش السلمي بل والجميل مع الآخرين رغم كل الفواصل العقيدية او رغم ما يضعه الاسلام من ضوابط ومقررات تحكم العلاقة مع اصحاب الاتجاه الآخر، بل ورغم التصلب العقيدي الذي يدعــو له الاسلام الا انه في ذات الوقت يرسم اطاراً نهائياً يقوم علىاساس القبول بالآخر كحقيقة يجب التعامل الايجابي معها (قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله...) آل عمران/ 64. وهكذا يؤكد الاسلام اخلاقية الصدق، والاحسان، والرأفة، والوفاء، وكرم الاخلاق في التعامل مع الآخرين، وحرمة الكذب، والاعتداء، والسباب، والسرقة، وبذئ القول، وخلف العهد، وما شاكل ذلك من الخصال السيئة مع الآخرين. كما يقرر جواز فتح العلاقات العلمية والاقتصادية والاجتماعية مع الآخرين فضلاً عن اهل الملة وابناء الدين الواحد. المستوى الثاني: وبالاخلاقية الحسنة ذاتها يدعو الاسلام للتعامل مع الشعوب والمجتمعات الاخرى. حيث قرر الاسلام هنا ضرورة اعتماد مبدأ ارادة الخير لكل الشعوب، وفتح باب التبادل الثقافي والتجاري والسياحي والصناعي معها، وتوطيد اواصر المحبة ، وتقديم الصلات الانسانية اللازمة ومن دون مقابل. وهكذا فالمجتمع الاسلامي لا يعيش مغلقاً على نفسه وعند حدوده ولا يصنع جدران حديدية تفضل بين المجتمعات على اساس الاديان والمذاهب كما صنعت الماركسية. المستوى الثالث: وتنعكس روح التعايش السلمي، والتعامل الانساني في الاسلام على المستوى السياسي ايضاً، فالعلاقات السياسية للدولة الإسلامية هي الاخرى تخضع للمبدأ ذاته، سوى ان المسألة في هذا المستوى تخضع لقرار القيادة السياسية وحسب الموازنات التي تراها تلك القيادة، هذا على خلاف ماهو الموقف على المستوى الفردي والاجتماعي فان العلاقة الايجابية مع الآخرين في هذا المستوى لا تحتاج الى قرار سياسي وانما هي مقرة بالاصل وبنحو ثابت في الشريعة الإسلامية يستطيع الافراد والمجتمع الاسلامي ان يلتزموها وينطلقوا منها ذاتياً. المستوى الرابع: اما على المستوى الفكري والثقافي فان الاسلام يرحب بالتبادل الفكري والثاقفي على اعلى المستويات، وقد كانت التجربة الإسلامية في التاريخ اكبر شاهد واقوى تجسيد لهذا التبادل حينما نقلت الثقافات الرومية واليونانية للعالم الاسلامي وبالعكس. مبدأ التعايش الاسلامي ومن اجل ان نكون رؤية اكثر موضوعيةوعمقاً فمن الحق ان نشير الى ان مبدا (التعايش السلمي) و(التعامل الانساني) الذي اقرّه وتبنّاه الاسلام ربما يبدو انه سيصطدم بثلاثة مشاكل: 1ـ مشكلة العالمية الإسلامية. 2- مشكلة التصادم الفكري. 3- مشكلة المواقف الفقهية الحادة. مشكلة العالمية الإّسلامية: تعني هذه المشكلة ان الاسلام يؤمن بمبدأ العالمية للاسلام (ويكون الدين كله لله) (الانفال/8) وضرورة اخضاع العالم الانساني كله لهذه الرسالة الالهية وقياديتها على الارض، وهذا هو الذي يفسر الفتوحات الإسلامية، وفرض الجزية علىابناء الاديان الأخرى، كيف يجتمع هذا المبدأ مع مبدأ التعايش الانساني الذي لخصّة الامام علي(ع) بقوله المعروف عنه (والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت اهل الانجيل بانجيلهم واهل التوراة بتوراتهم). قد يبدو للوهلة الاولى ان هناك تصادم بين المبدأين فكيف نعالج الامر؟ بهذا الصدد – وعلى سبيل الايجاز والاكتفاء بالاشارة للخطوط العريضة يمكن ان نشير الى عدة حقائق. الاولى: ان (العالمية السياسية للاسلام) بما تعنيه من العمل على اخضاع العالم سياسياً للحكم الاسلامي هي مشروع يشترطه الفقهاء حسب الاتجاه السائد لديهم بظروف بلوغ التجربة الإسلامية مستوى العصمة وذلك حينما يكون على رأس قيادة التجربة نبي او امام معصوم وفي غير هذا الحال فان نظرية (العالمية السياسية للاسلام) تبقى موقوفة التنفيذ وهذا هو معنى المنع من الجهاد الابتدائي دون اذن المعصوم. الثانية: ان (الحاكمية السياسية للاسلام) تحتفظ بالتعايش السلمي والتعامل الانساني مع الشعوب على ان تكون الحاكمية السياسية للاسلام وتحت هذه الحاكمة تعيش كل الاتجاهات في جو من الوئاموالمحبة حيث العلاقات الاجتماعية والثقافية المتبادلة والحوار الحر القائم على اساس المنطق: (لا اكراه في الدين)، (ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن). الثالثة: ان (العالمية الاسلامية) تفتح الباب للدخول مع الشعوب الاخرى في معاهدات سياسية تحتفظ فيها لهم باستقلالهم السياسي وحرية ممارستهم الثقافية والدينية وفي هذا المجال اقرت الشريعة الإسلامية باباً واسعاً باسم (المعاهدات) كما حدثت له عدة نماذج على عهد الرسول الاكرم(ص). وقضية دفع الجزية يمكن تفسيرها على اساس الاستحقاقات المالية التي تقابل حق الحماية وتوفير الخدمات العامة لمن يعيش منهم داخل البلاد الإسلامية كما هي بالنسبة للمسلمين انفسهم ولكن باسلوب الخمس والزكاة. مشكلة التصادم الفكري: والمشكلة الثانية التي تواجهها نظرية (التعايش السلمي) و(التعامل الانساني) في الاسلام هي مشكلة التصادم الفكري مع الاتجاهات الفكرية الاخرى خارج دائرة الاسلام. حيث يرى الفكر الاسلامي ان أي فكر فلسفي وعقيدي آخر خارج اطار الاسلام هو فكر باطل وهذه هي نظرية (وحدة الحق) في مقابل (تعدد الحق). وحينما يقرر الاسلام ان الفكر الآخر هو فكر باطل فهو يدعو بطبيعة الحال الى حذفِهِ او تصحيحه ولا يقبل بالسكوت عنه وهذا هو الذي اعطته الشريعة الإسلامية عنوان (الدعوة للاسلام) و(الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(احقاق الحق وإبطال الباطل). هذه المفاهيم كيف تجتمع مع مفهوم (التعايش السلمي) انها ربما تكون اقرب الى مفهوم (الصراع الحضاري). كيف نعالج هذا الواقع في النظرية الإسلامية؟ يمكننا بهذا الصدد ان نقرر الحقائق التالية: 1ـ موقع نظرية (وحدة الحق): إن نظرية (وحدة الحق) هي في موقع الاصول العقيدية في الاسلام تجاه ما يقابلها من أفكار وعقائد واما في داخل الاطار الاسلامي فان الاسلام يؤمن بنظرية (تعدد الاجتهاد) ومعنى هذا انه لا يوجد ثمة مشكلة في داخل الاطار الاسلامي وفي دائرة الاتجاهات الإسلامية الفكرية والمذهبية وان كان ثمة مشكلة فهي مع الاديان والفلسفات الاخرى خارج دائرة الاسلام. 2- حرية المعتقد: ورغم التزام الفكر الديني بنظرية (وحدة الحق) الا انه الى جانب ذلك يلتزم بمبدأ (حرية المعتقد) وان كان هناك جزاء على الانحراف الفكري فانما هو في عالم الآخرة لا في عالم الدنيا كما يشير اليه قوله تعالى: (ومن يبتغِ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). فلا مشكلة اذن في ان يكون عقائد شتى في حدود الايمان بالله تعالى كخط آخر لايمكن تجاوزه – وهذه نقطة أخرى في الموقف الإسلامي تحتاج الى بحث وتنظير علمي – وحينما يؤمن الاسلام بحرية المعتقد فانه يدعو لإخضاعه للجدل والحوار العلمي الموضوعي ويفتح الباب واسعاً لهذا الحوار والجدل ضمن آدابه واصوله العلمية والاخلاقية ويعتبر الاسلام بحق رائداً ومؤسساً في هذا المجال. 3- إيجاد الحصانة الفكرية: وفي سياق حرية المعتقد ومبدأ الجدل والحوار العلمي تأتي دعوة الاسلام وايمانه بضرورة ايجاد وتكوين الحصانة الفكرية لدى اتباعه عبر غلق منافذ الضلال ووضع مصدّات للرياح الفكرية الباطلة ويأتي في هذا الاتجاه رسم كل الانشطة الاعلامية والأدبية والفنية والعبادية التي يدعوا الاسلام الى تفعيلها بغية ايجاد تلك الحصانة كما يأتي في هذا الاتجاه أيضا مبدأ تحريم كتب الضلال الذي يستوعب في عصرنا هذا تحريم كل القنوات الاعلامية والبرامج الاخلاقية الفاسدة التي تستهدف الهيمنة على الاجواء الثقافية والاخلاقية للمسلمين وايقاع المسلمين في مصائد الفكر المنحرف . 4- تحديد الممارسة العملية: واذا كان الاسلام يقر مبدأ (حرية المعتقد) باعتباره حالةً تخص الفرد وفي اطاره خاصة فانه لا يطلق الباب مفتوحاً للحرية في مجال الممارسة العملية لأبناء المعتقدات والاديان الاخرى الا بالحدود التي لا تخرج عن دائرة ابناء ذلك المعتقد ولا تحتك مع الواقع الاجتماعي للمسلمين. والحقيقة ان المسألة هنا ليست مسألة تحديد الحريات الآخرين بمقدار ماهي مسألة المحافظة على البيئة الإسلامية وهذا حق طبيعي للمسلمين، على ان الاسلام لا يحدد تلك الممارسة العملية ولا يمنع منها في داخل الأجواء الخاصة بإتباع تلك المعتقدات بل ولا يسمح بالتجاوز عليهم والتعدي على حقوقهم أو الضغط عليهم بأي صورة من الصور. مشكلة المواقف الفقهية الحادة: والمشكلة الثالثة التي تواجهها نظرية التعايش السلمي ومبدأ التعامل الانساني في الاسلام هي صعوبة تفسير بعض المواقف الفقهية الحادة التي قد يبدو انها على الضد من روح التعايش واخلاقية التعامل الانساني. مثال ذلك الحكم الشرعي بحرمة التزاوج مع اتباع الاديان الاخرى غير الإسلامية. ومثال ذلك الحكم الشرعي بنجاسة الانسان الكافر الذي لا يؤمن بالله تعالى ونجاسة اهل الكتاب ايضاً – حسب بعض الآراء الفقهية – قد توصف هذه المواقف بأنها حادة، وانها حادة، وانها لا تنسجم مع روح التعايش واخلاقية التعامل الانساني مع الآخرين كما تدعو له النظرية الإسلامية فكيف نفسر ذلك. الحقيقة أن الاسلام لا يمنع من العمل المشترك مع الآخرين من ابناء الاديان والاعتقادات الاخرى وعلى مختلف المستويات، الشيء الذي يمنعه الاسلام هو ما يمكن ان نسمية بحالة (التداخل في الحياة الشخصية) على مستوى المأكل والملبس والمنام وما شاكل ذلك، بهدف تحقيق الحصانة الذاتية للمسلمين من ناحية واشعار الآخرين بانهم على غير الاتجاه الصحيح من ناحية اخرى. واقع التعايش السياسي في العراق كان بودي في ختام هذا البحث ان اتحدث موجزاً عن واقع التعايش الاوي فيما بين المسلمين والتعايش الوطني فيما بين المسلمين وغيرهم في العراق كما بودي ان اتحدث عن واقع التجربة السياسية الجديدة التي يعيشها العراقيون وهم في ظل الاحتلال من ناحية، وعلى عهد التحرر من اكبر ديكتاتور اقام حكمة على مبدأ الابادة الجماعية ودفن الاحياء ونظرية الموت. -------------------------------------------------------------------------------- [1]– عضو الملجس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.