التنمية الثقافية في المجتمعات الإسلامية السيد هاشم محمد السلمان ([1]) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين مفهوم التنمية الثقافية: يخضع مفهوم التنمية الثقافية لجدل كبير في الأوساط التخصصية، فهو يتراوح بين تشكيل قاعدة ثقافية معقولة، وبين بلوغ مستوى ثقافي رفيع في المجتمع. وهذا ما جعل تعريفات المفهوم متعددة ومتشعبة، وفي كثير من الأحيان يسودها الغموض والتعقيد، ومن ثم نشوء صعوبات في تحديد خطة العمل التنموية والتي تقوم على أساس التعريف المعتمد لمفهوم التنمية. وقد حدث إرتباك في التعريف، نتيجة هيمنة المفهوم الغربي للتنمية على الكثير من التعريفات السائدة في عالمنا الاسلامي، إذ أن معناها الغربي يشير الى إحداث تغيير جذري في المجتمعات، وإقامة منظومة جديدة على أنقاضها، وهو مفهوم يتعارض مع قيم العالم الإسلامي ومرتكزاته الأساسية، لأن تبنيه يعني محاولة سلب الأمة هويتها العقائدية والفكرية الذي يشكل قوام شخصيتها. كما تأثر التعريف الغربي بالجانب الإقتصادي، بإعتبار أن أول ظهور لهذا المفهوم كان في الحقل الإقتصادي، ثم توسع بعد ذلك ليشمل المجالات الإنسانية والإجتماعية والسياسية وغيرها. والى جانب ذلك فإن الذي يمنع من عملية الإتفاق على تعريف محدد، هو تباين المجتمعات الإنسانية من حيث المستوى والتطلع والهدف، الأمر الذي يساهم بشكل مباشر في إيجاد تعريفات متباينة ومتباعدة للتنمية الثقافية. ونستطيع من خلال هذه الملاحظة، أن ننطلق في حصر مفهوم التنمية بما يناسب مجتمعاتنا الإسلامية، لأن التنمية ليست حالة متشابهة بين جميع المجتمعات، وهي ليست قانوناً ثابتاً يسري على الجميع في كل الظروف والمجالات والحالات، إنما يخضع لخصائص إجتماعية وبيئية وسياسية وتراثية، وأن هذه الخصائص هي التي تضع المفهوم في إطاره المحدد وبالتالي في صيغته المتطابقة مع واقع المجتمع. إننا نفهم التنمية الثقافية على أنها إحداث نهوض ثقافي في المجتمعات الإسلامية، له صفة شمولية تغطي كافة المجالات المعرفية، وتتحرك على كافة المستويات والشرائح الإجتماعية. ربما يكون هذا التعريف هو الأقرب الى حقيقة الواقع، والأكثر إنطباقاً عليه، لا سيما إذا أخذنا بنظر الإعتبار الثوابت التالية: أولاً: لكل مجتمع من مجتمعاتنا له خصائصه، وعليه لا بد أن تكون له خطته التنموية الخاصة، فما يصلح لمجتمع معين لا يعني إمكانية تعميمه على المجتمعات الأخرى. ثانياً: هناك قواعد ثقافية عامة مشتركة بين كافة المجتمعات الإسلامية، تتمثل في العقيدة والأسس الفكرية الإسلامية، والعملية التنموية في هذا المجال تستدعي وضع برنامج عام يبدأ بالأسس التنموية ويصل الى مستوى التكامل والتواصل المستمر. ثالثاً: هناك قواعد أساسية في التنمية مشتركة بين كافة الثقافات والمجتمعات، وهذه تختص في بعض الآليات والمنهجيات، وهي يمكن أن ترفد العملية التنموية، وتختصر المسافات على التجارب والمشاريع التي يراد البدء بها. وسنحاول في هذا الدراسة بعون الله تعالى، تقديم تصورات عملية كأطروحة مقترحة لمشروع تنموي إسلامي في إطاره العام، يسعى الى تحقيق النهوض الثقافي في المجتمعات الإسلامية، في ضوء المفهوم الذي نقتنع بصحته والذي طرحناه آنفاً. عناصر البناء التنموي في المجتمع الإسلامي: تميل المشاريع التنموية في المجتمعات الإسلامية الى الجانب النظري، وهي في هذا المجال لا تزال مساهماتها محدودة، إذ لا يحظى النتاج النظري في مجال التنمية الثقافية بالإهتمام المطلوب، فطبقاً لإحصائيات النشر للعام 2001، كانت نسبة النتاج التنموي الثقافي تشكل 1% من مجموع النشر العام، وتراجعت هذه النسبة الى النصف في عام 2002، وفي العام 2003 عادت الى نسبة الواحد في المائة، وتشير التوقعات الأولية الى أن هذا العام 2004، لن تزيد على الواحد في المائة(1). يجب أن نؤكد هنا أن هذه الأرقام تتحدث عن النتاج النظري للتنمية الثقافية، وهي تبين أنها تقبع في مراتب متدنية من حيث إهتمام المفكر والكاتب المسلم، هذا طبعاً في مجال النتاج التنظيري وليس في مجال التطبيق العملي، لكننا نستطيع أن نقدر ضآلة النشاط العملي في مجال التنمية الثقافية من خلال معطيات النشاط النظري، على إعتبار أن التنظير للمشروع الثقافي هو مقدمة لتطبيقه، لا سيما وأن التنمية تقوم أساساً على التخطيط، ولا يمكن أن تنشأ بصورة إرتجالية مثل بعض المشاريع. وربما يرجع السبب في ذلك الى أن التنمية الثقافية يُنظر إليها في كثير من المجتمعات على أنها ثانوية الأهمية، مقارنة بالتنميات الأخرى، مثل التنمية الإقتصادية والبشرية والإجتماعية والصناعية وغيرها. وقد نشأت هذه النظرة نتيجة ضغط التطورات المتسارعة في العالم، وضغط العولمة والخوف من هيمنتها على المجتمعات الإسلامية. إن مستلزمات التنمية الثقافية في المجتمعات الإسلامية يمكن تحديدها بما يلي: إولاً:تأمين إقتصاد التنمية: في عالم اليوم لا يمكن لأي مشروع أن يتقوم بعيداً عن التخطيط المالي، ويبرز هنا موضوع إقتصاد التنمية الذي يعني التخطيط الدقيق لدعم المشاريع التنموية في المجال الثقافي، والذي نلاحظه في معظم الحالات أن عمليات التنمية الثقافية تفتقر الى التخطيط المالي، بل وتفتقر الى الدعم المالي، مما جعلها في غالبيتها العظمى، مشاريع رسمية تشرف عليها الدول والحكومات، في حين لا يمكن الحديث عن تنمية جماهيرية مستقلة، لأن المشاريع الاسلامية المستقلة تكاد لا تكفي مواردها لتغطية إحتياجاتها، ولذلك لم نرَ عملاً حقيقياً أو شبه حقيقي يدخل في إطار التنمية الثقافية، إنما هي نشاطات متفرقة، تنشأ نتيجة تشخيصات خاصة للقائمين على المؤسسات ضمن فهمهم لحاجة المجتمع، وهي لا تدخل بطبيعة الحال ضمن تخطيط التنمية وبرامجها العلمية. إن مشكلة الفقر هي من المعوقات الكبيرة لمشاريع التنمية الثقافية، فهي تضع مستقبل التنمية أمام خطر حقيقي يهددها بالفشل. وتصبح المشكلة أكثر قتامة إذا نظرنا للتنمية الثقافية كمشروع مستقل تنهض به المجتمعات بعيداً عن الدعم الحكومي، إذ ستواجهنا مشكلة الحالة الإجتماعية بثقلها الضاغط والمخيف، مما يتطلب أن يكون هناك تفكير جدي في ضرورة الحصول على دعم الحكومات ولو على شكل محدود. ومن المناسب أن نعرف أن 37% من سكان العالم الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر، وهذا يعني أن 504 مليون نسمة يعانون من الفقر ومشاكله في العالم الإسلامي(2). ويكفي هذا الرقم ليضعنا أمام حقيقة المشكلة الإقتصادية والإجتماعية التي تقف بوجه مشاريع التنمية الثقافية في الدول الإسلامية، وحجم التحديات التي تواجهها. لقد طرحت في الأوساط المتخصصة للتنمية الكثير من الأفكار التي تحاول أن تتجاوز هذا الإضطراب الرهيب في المجتمعات الإسلامية، فظهرت فكرة التنمية الشاملة التي حاولت أن تضع التنمية الثقافية كجزء من مشروع تنموي كبير يستوعب كافة مشاكل المجتمع. كما طرحت فكرة التنمية المتدرجة، التي تعني رسم جدول محدد للأولويات التنموية تبدأ بالتنمية الإقتصادية وتنتهي ببناء تنموي متكامل. كما طرحت فكرة التنمية البشرية التي تعاملت مع التنمية الثقافية كمفردة جزئية ضمن بناء كبير، وإفترضت أن تتحقق التنمية الثقافية بشكل طبيعي مع تحقق التنمية البشرية. على الواقع العملي لم نرَ أن هذه النظريات إستطاعت أن تعالج المشكلة الحقيقة للفقر، وأن تقدم علاجاً منطقياً لمشكلة التعارض الكبير بين الفقر والثقافة. فطبقاً لإحصاء منظمة اليونسكو لعام 2003، هناك أكثر من 850 مليون فرد في الدول النامية والتي تدخل ضمنها الدول الإسلامية، لا يحصلون على أي قدر من تقنية المعلومات(3)، وهو رقم خطير يواجه التنمية الثقافية، ويجعل من مشوراها مشواراً طويلاً صعباً. وفي عالم اليوم أصبحت المعلوماتية والأنترنت، العنصر الأساس في موضوع التنمية، إذ لا يمكن أن نتصور قيام نهضة تنموية في المجال الثقافي في مجتمع، لا تتوفر فيه خدمة الإتصالات الحديثة، وقد إعتبرت الدوائر المتخصصة في المجال التنموي أن المعرفة والمعلومات هي شرط أساسي من شروط التنمية، ليس التنمية الثقافية، وإنما المشروع التنموي في إطاره العام. وعلى هذا، ومن أجل قطع خطوة عملية في مسيرة التنمية، لا بد من إعتماد مبدأ تأمين إقتصاد التنمية، الى جانب تجزئة التنمية، ونقصد بذلك، أن تكون التنمية الثقافية مشروعاً مستقلاً بذاته، حتى لا تذوب في خضم مشاريع عملاقة للتنمية، لا أحد يدري متى يمكن أن تتحقق، وحتى لو تحققت فإنها تحتاج الى وقت طويل، في حين ان التنمية الثقافية مسألة لا تحتمل التأجيل والإنتظار، لأن الركود الثقافي سوف ينعكس أثره السلبي على مجمل العمليات التنموية. إن تبني إقتصاد التنمية الثقافية يمكن المشروع الثقافي من التقوم بذاته، دون الإعتماد على مستقبل المشاريع الأخرى، وهو ما يمكن أن يوفر قاعدة ملموسة لوضع مخطط دقيق لحجم المشروع التنموي الثقافي، ومدياته القريبة والبعيدة. إن غياب التأمين الإقتصادي أربك الكثير من النشاط الثقافي الإسلامي، فهناك الكثير من المشاريع الثقافية الإسلامية توقفت بعد فترة من إنطلاقها، ولم يتسع لي المجال للقيام بدراسة إحصائية لعدد المراكز والمجلات الإسلامية التي تأسست وصدرت في مناطق عديدة، ثم توقفت بعد فترة من الزمن، رغم أنها كانت تتمتع بمستوى فكري وثقافي ممتاز، وساهمت في تقديم ثقافة إسلامية عالية المستوى، وكان لها حضورها المشهود في الساحات الثقافية بشكل عام. لكن الذي أستطيع أن أقوله بإطمئنان أن المشاريع التي إستطاعت أن تستمر أكثر من عشر سنوات هي نادرة جداً، وكأنها تمثل حالة إستثنائية في الوسط الإسلامي، في حين أن المفروض أن يكون الإستثناء هو التوقف وليس الإستمرار. كما أن المؤكد هو أن الجانب المالي هو السبب الأهم في توقف تلك المشاريع. وتجدر الإشارة هنا الى أن المشاريع ذات العمق الزمني والتي تستند الى تجربة طويلة، هي الأكثر قدرة على التأثير، وهي الأكثر مقبولية من قبل المجتمع، وهذا ما نلاحظه في إهتمام الصحف العالمية الكبرى في وضع تأريخ تأسيسها على صفحاتها، لما له من دلالة على قوتها كنشاط إعلامي، ولما له من تأثير إيجابي على القارئ، ونفس الأمر ينطبق على المراكز والمعاهد العلمية غير الحكومية التي يعتبر تاريخها الطويل مؤشراً على كفاءتها العلمية ونجاحها الميداني. وتبقى القضية الصعبة والتي تحتاج الى حل، هو كيف يمكن توفير إقتصاد مستقل لتمويل المشاريع التنموية الثقافية في إطاره الجزئي الخاص بكل مجتمع من المجتمعات الإسلامية، وهي القضية التي تستدعي أن تقوم المرجعيات الدينية وعلماء المسلمين في دعم التنمية الثقافية، وتخصيص جزء من الحقوق الشرعية في هذا الإتجاه، الى جانب قيام المؤسسات الخيرية ورجال الأعمال والمستثمرين بدعم المشاريع التنموية الثقافية، والمساهمة فيها بشكل فاعل ومؤثر. كما يجب أن تكون هناك علاقة واضحة ومحددة مع الحكومات في هذا المجال لتقديم بعض التسهيلات، لاسيما وأن هدف التنمية الثقافية الإسلامية تلتقي مع توجهات الدول المسلمة في خدمة المجتمع ورفع مستواه، وتسهيل عمليات التنمية الأخرى. ثانياً: تطبيق الأهداف التنموية: إذا نظرنا لما قدمه الباحثون في مجتمعاتنا في مجال التنمية بشكل عام، فإننا نلاحظ غلبة الجانب النظري بشكل يكاد يكون مفرطاً، حيث نجد أن من بين كل عشرين دراسة تصدر عن التنمية العامة، هناك دراسة واحدة فقط لها صفة عملية، أي نسبة الدراسات العملية تشكل خمسة في المائة(4). وهذا يشير الى أن فكر التنمية في المجتمعات الإسلامية لا يزال في مراحله الأولى، وأنه حتى هذه الأيام يحاول أن يفرض نفسه على الساحة الفكرية، ويسعى لإقناع الجو العام بضرورة تبني المشاريع التنموية. في حين أن المطلوب هو تركيز الجهود على الفكر العملي في مجال التنمية، لسبب رئيسي وهو أن العملية التنموية لا يمكن أن تنتظر في ضوء المستجدات السريعة لعالم اليوم، إذ أن الفكرة التي يراد إقناع المجتمع بها، ستتحول بعد فترة وجيزة الى شئ من الماضي، ما لم تأخذ طريقها الى التنفيذ. وعلى هذا فليس مستبعداً أن يشهد العالم في عقد من الزمن تحولات كبيرة، تضع الكثير من الآليات المعتمدة حالياً في المجال التنموي في خزانات الكتب، وتصبح غير متلائمة مع ظروف العصر، الأمر الذي يستدعي الى أن تتحول الجهود النظرية الى تطبيق على الساحة، والى بحث في الآليات وسبل تحقيق العمل التنموي. إن السمة الأساسية في المشاريع التنموية هي أن تكون عملية تتعامل مع واقع موجود على الأرض، فالتنمية هي في حقيقتها مشروع عمل وآليات تطبيق، وليس أفكاراً تجريدية. ومن هنا لا بد أن تنصب الجهود في الخط التنموي على أساس التطبيق والتنفيذ، وأن يكون المشروع في حدود المتاح من الإمكانات، إذ أن البناء التنموي لم يعد خيار بين مجموعة خيارات، لنبحث ونقارن ونختار الأفضل، إنما هو ضرورة تفرزها طبيعة الحياة المعاصرة، وعليه فلا بد من إعتماد الخطة التنموية، ومن المباشرة في العمل التنموي الثقافي في ضوء ما هو متوفر من إمكانات، طالما أننا نتحدث عن مشاريع مستقلة. والنقطة التي تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد، هو مدى تمتع أهداف التنمية الثقافية بالواقعية والعملية، ومقدار إمكانية تطبيق الخطط التنموية على الأرض، فمن السهل إستيراد مشروع تنموي ثقافي من دولة أخرى ومن مؤسسة عالمية متخصصة في هذا المجال، لكن السؤال، هل يمكن أن يأخذ هذا المشروع طريقه الى أرض الواقع في مجتمعنا؟.. وهل تمتلك المؤسسة التي تريد تنفيذه وتطبيقه الإمكانات المادية لذلك؟. إن هناك المئات من المشاريع الطموحة التي تضع أهدافاً كبرى، لكن ذلك لا يعني إمكانية تحققها، ولعل المشكلة في نسبة غير قليلة من مؤسساتنا الإسلامية أنها وضعت لنفسها أهدافاً كبيرة، لكنها إصطدمت بحسابات الواقع وظروفه الضاغطة، فإضطرت الى التخلي عنها فيما بعد، وفي ذلك ضياع للوقت والجهد والإمكانات. ثالثاً: تفعيل العمل المؤسساتي تشير الدراسات الإحصائية الى أن عدد الإصدارات الثقافية والإعلامية في المجتمعات الإسلامية محدودة جداً، وهي تقبع في أسفل قائمة النشر الصحفي في الكثير من المجتمعات الإسلامية. إن من مؤشرات التفاؤل في العملية التنموية هو أن يكون هناك كم عددي كبير من الصحف والمجلات يتوزع على نسبة معينة من أفراد المجتمع، في علاقة تناسب مضطرد، فكلما زاد عدد أفراد المجتمع، لا بد من وجود عدد أكبر من الصحف والمجلات. ففي تقرير التنمية لعام 2003 والصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية، أن عدد الصحف في الدول العربية يقل عن 53 لكل ألف شخص، في حين أن عددها في الدول المتقدمة 258 لكل ألف شخص. إن التصور السائد في الأوساط الإسلامية المتصدية للحالة الفكرية والثقافية، هو الرغبة الى تقليص الإصدارات الإسلامية، بدعوى أن الكثرة غير مجدية، وأن وجود إصدار جيد واحد أفضل من مائة إصدار ضعيف. وهذه المقولة التي تبدو معقنعة ومنطقية للوهلة الأولى، لا تعكس كامل الحقيقة، فإن مثل هذا الإصدار الجيد، لا يمكن أن يعوض عن الحاجات الثقافية للمجتمع، لأننا نتحدث عن تنوع فكري وثقافي وفئوي وتخصصي في المجتمع الواحد، وان أي إصدار مهما بلغ من الجودة والكفاءة فإنه لا يمكن أن يستقطب كل قراء المجتمع، ولا يمكن أن يغطي كل المشاكل والإهتمامات المتزايدة فيه. وربما تأتي هذه النظرة من تصور مسبق، بأن الكثرة العددية، ستؤثر على كفاءة الإصدارات، في حين أننا لا نجد هناك أي تعارض بين الجودة في الكيف والكثرة في العدد، ولعل هذه هي الحالة المطلوبة والتي يجب أن تسود برامج المؤسسات الإسلامية، من أجل أن تقدم أكبر تغطية ثقافية لشرائح المجتمع، ولتلبي أكبر مساحة ممكنة من المذاقات والتوجهات لدى القراء. وقد إهتمت الأبحاث التنموية في هذه النقطة، وذكرت إحدى الدراسات أنه في مدينة إفتراضية واحدة يقطنها مليون شخص يدينون بديانة واحدة، وينتمون الى قومية واحدة، ويتمتعون بمستوى معاشي متقارب، وتوازن جنسي مثالي ويتلقون نفس الدرجة من الخدمات، مثل هذه المدينة الإفتراضية، لا يمكن أن يلبي حاجتها إصدار واحد مهما كان كفوءاً ومتطوراً، فهناك نسبة من الأناث تبحث عن إصدار خاص بها، وهناك نسبة من الشباب تتطلع الى مجلة شبابية، ونسبة من الأطفال لا بد من تلبية تطلعاتها، هذا الى جانب التخصصيات العلمية والمهنية مثل المعلمين والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال. ثم تبرز بعد ذلك مشكلة تنوع الإهتمامات الثقافية والعملية، فهناك السياسة والفكر والأدب والتراث والفن والرياضة وغيرها. وقد توصلت إحدى الداراسات الميدانية أجريت على شريحة مختلفة من الأسر، توصلت الى أن الأسرة المتوسطة ثقافياً والتي يبلغ عدد أفرادها أربع تميل الى أن يدخل بيتها إصداران على الأقل وبشكل يومي(5). وعلى هذا فليس غريباً أن نجد أن الدول المتقدمة إهتمت بهذا الناحية الى درجة كبيرة، كشرط مهم من شروط التنمية، فإضافة الى الكم الكبير من الإصدارات الواسعة الإنتشار، من الصحف والمجلات اليومية والإسبوعية والشهرية، والتي تتوزع على مختلف الإهتمامات والمستويات، هناك عدد كبير آخر من الإصدارات الأقل إنتشاراً، في إطار المدينة الواحدة وعلى مستوى المناطق والأحياء. وفي الوقت الذي يشكل الشباب في الدول الإسلامية أعلى نسبة من بين دول العالم، فأن مستوى الإهتمام بالشباب محدود جداً من الناحية الثقافية، إذ أن الصحافة الخاصة بالشباب ضئيلة جداً، وأقل منها صحافة الأطفال والأحداث. إن هذا الواقع يضع مصداقية التنمية في البلدان الإسلامية أمام محك حقيقي، إذ كيف أن نتوقع أن تحدث تنمية حقيقية فاعلة ومؤثرة، في الوقت الذي لا يحظى الشباب بالبرامج الكافية في التنمية الثقافية؟. وكيف يمكن ان نتوقع حدوث تنمية بشرية عامة في ضوء إهمال واضح للأطفال والأحداث فكرياً وثقافياً؟. إن التنمية الثقافية التي ندعو إلى اعتمادها، تضع أمام المؤسسات الإسلامية مسؤولية المبادرة في سد الفراغات الكبيرة في الواقع الثقافي الإسلامي، ضمن برامج علمية تقوم على أساس إحداث التنمية في المجتمع الإسلامي، وما نراه في هذا الورقة ما يلي: أولاً: ضرورة أن تقوم المؤسسات الإسلامية بتفعيل برامجها النشرية، بحيث تكون لها إصداراتها وصحفها ومجلاتها، في مختلف التخصصات، وموجهة لمختلف الفئات العمرية، بدءً من الطفل وإنتهاءً بالتخصص. ثانياً: أهمية تشجيع النشر الإسلامي، إذ يواجه المثقف الإسلامي مشكلة كبيرة في النشر، وهذا ما يعيق العملية التنموية في بعدها الثقافي، مما يتطلب فتح الآفاق أمام الكاتب الإسلامي للإنتاج والإبداع، وهذا يستدعي أيضاً العمل على تأسيس دور نشر عديدة، من أجل خطو الخطوات الأولى في مجال التنمية الثقافية. ثالثاً: تخصيص كل مؤسسة جزء من نشاطها للبحث التنموي، إذ أن التخطيط أصبح سمة العصر، وشرطا مهما من شروط الإنماء والتطور، وهذه ضرورة ملحة في الواقع المعاصر، من أجل أن تتمتع كل مؤسسة بمراجعة دائمة لعملها، وبالتالي مواكبة حاجات الساحة وتغطيتها بشكل علمي مدروس. رابعاً: متابعة النشاط الثقافي والتقني في العالم، لأن عالم اليوم، يقوم على أساس التسابق في تقديم الأفكار والتصورات حول كل شؤون الفرد والمجتمع، مما يتطلب أن يكون لمؤسساتنا حضورها الدائم والحي في الساحة الفكرية، وهذه نقطة لها أهميتها الكبيرة، لأن الفراغ الذي تتركه المؤسسة الإسلامية، سيتحول الى منفذ لفكرة أخرى قد تكون مغرضة وهدامة. ونعتقد أن هذه الخطوات هي مما يمكن أن تنهض به أي مؤسسة إسلامية، سواء كانت ذات صفة محلية أو أنها تمتلك إمكانات السعة والتحرك على مساحة كبيرة. علينا أن نعرف أيضاً أن التنمية بمعناها العام قد تتسبب بشكل أو بآخر في تقويض البناء الثقافي الصحيح في المجتمع، لأن التوجه الإقتصادي الذي يهيمن على التوجهات التنموية قد يغفل البعد التربوي والثقافي في المجتمع، وهذا ما يجعل وجود المؤسسات الإسلامية أمراً ملحاً، كما أنه يضعها أمام مسؤولية زيادة نتاجها الفكري من أجل سد الخلل ومعالجة أي ظاهرة سلبية يفرزها البرنامج الإقتصادي على المجتمع. إن نتاج المؤسسات الإسلامية من معاهد ومراكز دراسات ونشر، تبقى محدودة من حيث الكم، رغم جهودها المشكورة، وهي مدعوة الى تصعيد النتاج الفكري والثقافي، من أجل أن تدخل العالمية في النتاج، على أساس أن القوة التنموية، تفرض نفسها محلياً فيما لو إستطاعت أن تكون نقطة تأثير في محيط آخر. وأعتقد أن معظم مؤسساتنا الفكرية لا تنتشر إصدراتها إلا في حدود معينة، ونادراً ما نجد مؤسسة إسلامية قدمت نتاجاً إبداعياً تجاوز الحدود الجغرافية وفرض نفسه على الساحة الفكرية العالمية. كما أننا نلاحظ غياب النتاج الفكري والثقافي الإسلامي عن المهرجانات العالمية في مجال الكتاب والنشر. فعلى سبيل ليس لمؤسساتنا أي حضور في معرض (فرانكفورت) الدولي للكتاب بألمانيا، وهو المعرض الذي يوصف بأنه الأضخم والأكثر أهمية عالمياً، يرتاده سنوياً ما يقرب من 7 آلاف ناشر عالمي من شتى الجنسيات، ويقدم نحو 530 ألف عنوان، ويزوره قرابة 300 ألف زائر، وشاركت في دورته التي انعقدت العام الماضي مئة ودولتان، وزاره للتغطية الصحافية نحو 12 ألف صحافي من مختلف دول العالم. مع العلم أن دور النشر التي تشارك في المعرض هي من أبرز دور النشر العالمية، والتي تنشر عادة لكتاب معروفين، وتختار كتباً لها قيمتها العلمية وتأثيرها في الساحة الفكرية والإجتماعية والسياسية(6). رابعاً: النشاط الثقافي ترتبط عملية التنمية الثقافية بشكل مباشر بالثقافة العامة، إذ لا يمكن أن نتوقع تحقيق مستوى من التنمية في المجتمع بدون وجود رغبة حقيقية، ونهضة ميدانية لتحسين الوضع الثقافي، تنطلق من عموم الساحة الإجتماعية، وإلا فإن التنمية ستبقى محدودة في إطار النخب الثقافية بعيداً عن الغالبية العظمى من شرائح المجتمع الأخرى. إن التنمية تعني النهوض بالواقع الثقافي للمجتمع، وتصعيد مستوياته الثقافية، بدءً من مكافحة الأمية ووصولاً الى الإرتقاء التنموي، أو ما يصطلح عليه بـ (التنمية المستديمة). وتعاني المجتمعات الإسلامية من مشكلة تراجع مستويات القراءة، فقد ذكرت دراسة ميدانية أن جيل الجامعيين في الدول الإسلامية، يهتم بالمطالعة بنسبة ضئيلة لا تتجاوز الأربعة بالمائة (7)، هذا الرقم طبعاً ينخفض في بعض الدول ليصل الى نسبة تقترب من الصفر، في حين أن المفروض من الطلبة الجامعيين أن يكونوا هم الطليعة الثقافية في المجتمع، وأن يكونوا أكثر الشرائح إقبالاً على المطالعة ومتابعة الإصدارات الثقافية. وبشكل عام فأن الوسط الجامعي في الدول الإسلامية، يعتبر متراجعاً قياساً بالدول الصناعية، إذ لا يتعدى مجموع طلبة الجامعات في الدول الإسلامية نسبة 15% من مجموع عدد الطلاب الجامعيين في العالم، في حين تتخطى هذه النسبة 72% في الدول المتقدمة صناعياً وتقنياً (8). وسجلت البرامج التلفزيونية الخاصة بالتعريف الكتب والإصدارات الفكرية، نسبة ضئيلة من المشاهدين، إذ لا تزال تقبع هي والبرامج الدينية في قعر قائمة البرامج الأقل إهتماماً من قبل المشاهدين. وينطبق الأمر كذلك على صفحات المجلات والصحف الخاصة بالتعريف بالكتب وآخر إصدارات دور النشر. إن المشكلة في كثير من المجتمعات الإسلامية التي تشهد تراجعاً كبيراً في معدلات القراءة والمطالعة، لا تتعلق بالشاب وتوجهاته فقط، بل أن المدراس والبيئة لها دورها في إبعاده عن القراءة، إذ أننا نلاحظ أن طبيعة المنهج المعتمد في المدارس الإبتدائية في معظم الدول الإسلامية، تشكل عبئاً على الطالب، في حين أن نظيره الغربي لا يعاني من هذا العبء، وتخصص المدارس الغربية جزءً من الوقت المدرسي ليتعلم الطفل طبيعة النص وتحليله، ومن ثم التعبير عنه وتعلم أساليبه مما تخلق فيها رغبة في القراءة، مما جعل ظاهرة القراءة منتشرة في الطائرة والقطار والحافلة والحدائق، في حين لا تهتم مدارس العالم الإسلامي بهذا الجانب، فينشأ الطفل وهو يعيش العزوف عن القراءة. وتستمر هذه الحالة المجافية للقراءة في سنوات العمر التالية. إن ظاهرة الإبتعاد عن القراءة ظاهرة سلبية تعيق عملية التنمية الثقافية، لكن ذلك لا يعني أن عملية التنمية الثقافية تواجه صعوبات كبرى. هذا الواقع يضعنا أمام حقيقة أن التنمية الثقافية من الصعب أن تنهض بها المؤسسات الرسمية لوحدها، لأننا أمام مشكلة إجتماعية عامة، تخرج عن إطار المدرسة والجامعة، لتصل الى المجتمع وشرائحه المختلفة. لأن المطلوب هو أن تكون التنمية الثقافية مستمرة سواء كان المعني بها داخل المدرسة والجامعة أو خارجها. خاتمة إن التنمية الثقافية هي برنامج طويل وسريع في نفس الوقت، ومن أجل أن نحققه لا بد من أعتماد مبدأ التنمية الثقافية المستقلة، ولا نقصد بذلك الإبتعاد الكامل عن الدعم الحكومي، لأن الدعم الحكومي يسهل المشروع التنموي، لكن البداية من أجل أن تكون عملية وواقعية، يجب أن تنهض بها المؤسسات الإسلامية حسب إمكاناتها، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالمشروع الجماهيري للتنمية الثقافية. إن التنمية الثقافية الحقيقية هي التي تصنع مجتمعاً مثقفاً وليس نخبة مثقفة، والملاحظ على معظم برامج التنمية الثقافية في العالم الإسلامي أنها تتجه نحو النخبة، والأمر الخطير في هذا التوجه، أن تنمية النخبة، أصبحت هي المقياس على تطور العملية التنموية، في حين أغفلت قضية التنمية الثقافية الإجتماعية. وعلى هذا لا يمكن أن يكون عدد مراكز البحوث والدراسات، مؤشراً سليماً على نمو العمل التنموي، بل يجب أن يكون المقياس هو سعة الحالة الثقافية في المجتمع. ونعيد التأكيد الى ضرورة دعم النشر الإسلامي، وتخصيص جزء من النتاج لبرامج التنمية الثقافية الى جانب أعمالها الأساسية. كما نؤكد أيضاً على أهمية الإهتمام بزيادة عدد الصحف والمجلات، حتى مع تبني إصدار مركزي كبير، إذ أن التعدد والتنوع يسد حاجات ثقافية هائلة في المجتمع، لا يمكن أن يستوعبها إصدار واحد. والحمد لله رب العالمين. الهوامش (1) التقرير السنوي للنشر العالمي، إصدار معهد الدراسات الإعلامية في لندن، ص 326. (2) د. نور الدين صباح، الفقر في العالم الإسلامي، ص52. (3) التقرير السنوي لمنظمة اليونسكو لعام 2003. (4) كلارك ليما، التنمية في عالم متغير، ص 42. (5) إيفا هارلسدن، الأنظمة المعلوماتية، ص 227. (6) مجلة نوافذ المعرفة، العدد السابع. (7) مجلة عالم الثقافة، العدد الأول. (8) المصدر السابق. -------------------------------------------------------------------------------- [1]– أمين عام الحوزة العلمية في الأحساء / السعودية.