حقوق الانسان والأقليات بين الاسلام والغرب دراسة ومقارنة المحامي الدكتور محمد أبو حسان عضو محكمتي التمييز والعدل سابقاً متخصص بالقانون والانثروبولوجي و الدراسات الإسلامية الفصل الاول حقوق الانسان والاقليات بين الاسلام والغرب: نظرة تاريخية ومقارنة في العصور القديمة كانت القواعد التنظيمية للمجتمع وشؤونه عرفية غير مكتوبة وكانت العلاقة بين الفرد والسلطة تخضع للعرف السائد, والعرف هو قانون شعبي ينشأ عن سلوك الافراد أنفسهم وحياتهم, ومن اعتيادهم على تصرف معين وبعبارة أخرى هو عبارة عن عادات ملزمة تنشأ تدريجيا دون أن يكون بالامكان تحديد الوقت الذي نشأت فيه ولا معرفة واضعيها, ففي تلك الازمنة كانت حقوق الافراد والحريات العامة تعاني من الويلات وكان من جملة أسباب هذا الوضع خضوعها لنظام عرفي لان القاعدة العرفية بطبيعتها لا تتوافق مع اقامة نظام محصن للحريات وللحقوق فهي غير مكتوبة وغير دقيقة ومطاطة. كما أنها تظل عرضة للتأويل والتحليل والتهرب, ومجال الحقوق والحريات العامة كثير الحساسية يلزمه الوضوح والدقة والصراحة لضمان حماية تلك الحقوق والحريات, وعندما تقدمت الحضارة وتركزت الدولة فأخذت على عاتقها التشريع المباشر بواسطة القوانين المكتوبة طويت (المرحلة العرفية) وبدأت (المرحلة القانونية) ومن أبرز صور هذه المرحلة, قانون حمورابي وقوانين صولون وقانون الالواح الاثني عشر فلم يعد مجال العلاقة بين الفرد والسلطة مجالا سائبا خاضعا للنزوات والاهواء وانما اصبح مجالا محكوما بقواعد قانونية, ولم يتوقف التطور عند هذا الحد, ولم يكتف الافراد بتنظيم أمورهم تجاه السلطة بهذا القدر بل انتقل بهم المقام الى مرحلة جديدة هي (المرحلة الدستورية) حيث اصبحت حماية حقوق الافراد والحريات العامة محكومة بقواعد قانونية دستورية ولم تعد مجرد قواعد تشريعية عادية يمكن تبديلها وتعديلها وفقا لمشيئة السلطات التشريعية المتعاقبة وانما قواعد أسمى مرتبة, لها القيمة الدستورية([1]) . ان حقوق الافراد والحريات العامة لم تكن مصونة في الماضي حتى كان الانسان في كثير من الدول معرضا لضروب من الاعتداءات كالرق والمعاملة القاسية والعقوبات الشديدة والتعذيب والسجن التعسفي فقد كانت فكرة العدالة والمساواة غائبة عن أكثر المجتمعات, ففي اليونان القديمة كانوا يقتلون الاسرى ونادرا ما يسترقونهم وكان الرقيق عندهم يباع ولا حقوق له وكانوا يعذبون الانسان قبل أداء الشهادة أمام المحكمة اعتقادا منهم بأنه لا ينطق بالحقيقة الا بعد تعذيبة. وبالرغم من أن الديمقراطية الاثينية تعتبر نموذجا للديمقراطيات, الا ان هذه الديمقراطية تضمنت الكثير من العيوب منها:- أنها اشترطت في المواطن الاثيني أن يكون من أبوين أثينيين وليس لسواه حق تملك الاراضي أو التمتع بالحقوق المدنية, ولهذا فانه لا يعتبر مواطنا أثينيا الاجنبي الذي يقيم في أثينا أبا عن جد أو العبيد الذين كانوا بمثابة أشياء متحركة تباع وتشتري . فقد كان سكان أثينا يزيدون على أربعمائة ألف ولكن الرعايا الحقيقيين الذي يتمتعون بالحقوق المدنية لا يتجاوزون الاربعين ألفا وهذا يدل على أن ديمقراطية أثينا تتنافى مع الديمقراطيات الحديثة([2]) ولم يكن للاجنبي مركز قانوني في المجتمعات السياسية القديمة فكان اليونان القدماء ينظرون الى غير اليونانيين أو (البرابرة) كما كانوا يسمونهم نظرتهم الى الاعداء الذين أعدتهم الطبيعة ليكونوا خدما وعبيدا لهم. كما أنه لم يكن يسمح للنساء عند اليونان بمباشرة الحقوق السياسية([3]) . كما وان الاغريق لم يعرفوا حرية المعتقدات الدينية فقد كان الجميع يدينون بدين واحد هو دين الدولة([4]) . ويعتبر من أهم مبادىء ديمقراطية أثينا المساواة أمام القانون الا أن الحقيقة كانت على عكس ذلك لعدم وجود مساواه اجتماعية فقد كانت هناك أربع فئات من الرعايا يوزعون حسب ثرواتهم([5]) . وفي عهد الرومان الوثنيين عندما وقع الحريق الذي دمر قلب مدينة روما سنة64م ألقى نيرون التهمة على المسيحيين فأمر بابادتهم جميعا, وفي عهد الرومان المسيحيين حول هدريان مدينة القدس الى ركام ودمر جميع القرى اليهوديةوذلك في أعوام 132-135م([6]). كما اتبع جوستنيان سياسة الاضطهاد ضد اليهود في قانونه (260) 1712 X حيث اتهمهم بالانحراف عن معتقداتهم لعدم تصديقهم النبؤات عن السيد المسيح حسبما جاء به العهد القديم وقد أنذر اليهود الذين ينكرون قيام السيد المسيح من القبر بالطرد من البلاد, أما بالنسبة للوثنيين فقد أمر الامبراطور باغلاق جامعة أثينا مركز الافلاطونية الحديثة سنة 529م وأمر بتنصير الوثنيين في أسيا الصغرى وسوريا ومصر, ومن يرفض ذلك فيحكم عليه بالاعدام([7]). وكانت شريعة الصين تقضى على أقرباء المجنون والصغير اللذين ارتكبا جريمة قتل بأشد أنواع العقوبات وأقساها التي أقلها القتل, ويسرى ذلك أيضا على الصبي والمجنون.حيث ان القانون الصيني القديم يقرهذا المبدأ مبدأ المسؤولية الجماعة كذلك في جريمة الخيانة الوطنية وفي الجرائم التي تشبهها وفي بعض جرائم القتل, ويوجه المسئولية والجزاء الى جميع أقرباء المجرم, وكذلك الى بعض طبقات منهم حسب اختلاف الجرائم بدون تفرقة بين العقلاء والمجانين([8]). أما خلال القرون الوسطى فقد كانت الدول الاوروبية حتى أواخر القرن الثامن عشر كانجلترا وفرنسا تحرم على الاسود أن يصبح قسا, كما كان الرقيق عندهم محروما من كل الحقوق لان الاسترقاق في مفهوم الكنيسة هو نتيجة طبيعية لخطيئة ادم, ولان الوسيلةالاقتصادية التي يستعملونها في الاعمال كانت لصالح السيد صاحب الارض في زرع الارض وعصر أعنابها وطحن حبوبها وخبزها الخ... كما كانوا يعتبرون كل من هو ليس بأوروبي يكون عرضة للاسترقاق والاستفادة من ماله وارضه وهذا ما فعلوه عندما غزوا أمريكا الشمالية والجنوبية وكثيرا من بلاد العالم في اسيا وافريقيا فأنشأوا شركات لتحقيق أغراضهم في امتلاك بلاد العالم غير الاوروبي واستعباده. وقد استمرت حقوق الانسان في اوروبا مهضومة حتى أواخر القرن الثامن عشر فأقاموا لغير الاوروبيين قوانين التفرقة العنصرية والقومية القائمة على قسوة المعاملة والعقوبات القاسية في أقل الاخطاء بل ولمجرد الشبهة, فكانوا يستعملون شتى العقوبات اللاانسانية مثل عقوبة بتر أعضاء الجسم وعقوبة جدع الانف وعقوبة قطع اليدين والاذنين وقلع العينين وعقوبة دق الرقبة وعقوبة الصلب العلني وعقوبة الحرق بعد الجلد القاسي وعقوبة وشم الجسم بحرق يرمز الى جريمة معينة عن طريق الكي وحرق اللسان أو بتره . كل تلك العقوبات كانت تطبق سواء في المحاكم الجنائية أو المدنية بل وفي أقل الاخطاء, أما محاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة فعقوبتها أشد من ذلك بكثير حيث يمتد العقاب الى ذوي المذنب وأقاربه وأصدقائه فقد عانى الانسان من قسوة المعاملة في العصور القديمة والوسطى في عهد الملكيات والبابوات المطلقة في اوروبا([9]). وتذكرالباحثة الفرنسية جرمين تيليون بأن تحرير العبيد قد تم تدريجيا في اوروبا الغربية حوالي القرن الحادي عشر لاسباب اجتماعية واقتصادية وليس لاسباب دينية لان الرسالة السادسة التي وجهها القديس بولس الى الايفيزيين يأمر فيها العبيد بطاعة سادتهم (مثل طاعة المسيح) أما في مجتمعات جنوب البحر الابيض المتوسط (أي المجتمعات الاسلامية) فالوضعية مغايرة تماما حيث شجع الاسلام بوضوح على تحرير العبيد([10]) الى درجة أن علماء المسيحية لاموا الاسلام (أي عابوا عليه) على ما أعطاه للنساء والعبيد من حقوق حسب ما ذكرت الباحثة الغربية ذائعة الصيت في دراسة الاديان المقارنة كارين أرمسترونغ في كتابها "محمد محاولة غربية لفهم الاسلام". ويذكر المؤرخ الغربي جبهار بأن المزروعات الجديدة وأساليب الزراعة التي اقتبسها الاوروبيون من المسلمين ثم ادخلوها الى أوروبا الغربية في ذلك العصر قد حسنت الاوضاع الاقتصادية للفلاحين والعبيد والاقنان الذين كانوا يعملون بالزراعة مما مكنهم من جمع المال اللازم ودفعة الى سادتهم الاقطاعيين لتحرير أنفسهم([11]) ولهذا نلاحظ أنه حين أخذت تهب رياح الفقه الاسلامي على أوروبا من الاندلس وصقلية الاسلاميتين وجنوب فرنسا التي كانت تشكل مراكز الحضارة الاسلامية المتقدمة في أوروبا, وحين نقل النورمانديون الانظمة القانونية والقضائية والادارية والمالية من صقلية الاسلامية النورماندية الى وطنهم الجديد في انجلترا وتحت التأثير الفقهي الجديد صدرت وثيقة العهد العظيم (الماجنا كارتا) سنة 1215م في انجلترا والتي كانت من ثمار ثورة النبلاء على الملك الذي هدد مصالحهم, وهي تحتوي على أحكام سياسية فيما يتعلق بحقوق الانسان وبضمان الحرية الشخصية لكل فرد من أفراد الرعية مهما اختلفت طبقته وتباينت درجته في المجتمع وقد كان لهذه الوثيقة أثرها البعيد في انجلترا وسائر أنحاء أوروبا الاقطاعية,ولذلك اعتبرها الملوك من البدع الخطرة المهددة لسلطانهم واعتبرها البابا باطلة مخالفة لتعاليم الدين والشرائع اللاهواتية, ولا غرابة في ذلك حيث أنها كانت تحمل مؤثرات فقهية اسلامية تلك المؤثرات المشبعة بروح الانسانية والعدالة والمساواة, والتي يؤدي الاخذ بها الى الاضرار بمصالح الملوك والباباوات على حد سواء وقد أصبحت هذه الوثيقة مع ما تبعها من شرائع أخرى, ومن أهمها قانون الحقوق سنة 1688م سندا للحقوق الفردية والحريات العامة ومصدرا لعدد من القواعد التي تحمي تلك الحقوق والحريات وأساسا للقانون العام البريطاني . كما أن الانجليز نقلوها بدورهم الى وطنهم الجديد في الولايات المتحدة الامريكية حيث شكلت القاعدة الاساسية لاعلانات الحقوق الامريكية([12]). أمافي التشريع الاسلامي, فان مضمون الحقوق والحريات أوسع مما يعرفها القانونيون المعاصرون للفرد, فالاسلام يعترف للفرد بحقه في عدم الاعتداء على حياته وجسمه وعقله وماله وعرضه, فقررت الشريعة عقوبات رادعة للمعتدين على حياة الناس وأجسامهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم. هذا بالنسبة للانسان المسلم أما بالنسبة للانسان غيرالمسلم, فان حريته الشخصية مضمونة عكس ما كانت تفعل أوروبا مع غير المسيحيين في محاكم التفتيش وقوانينها, لان القاعدة التي قررها الفقهاء المسلمون، بالنسبة لغير المسلمين في المجتمع الاسلامي, تنص على أن" لهم ما لنا وعليهم ما علينا" في الانفس والاموال والاعراض مع ضمان حرية العقيدة لغير المسلمين([13]). ولابد من التذكير هنا بأنه من المبادىء المقررة في الشريعة الاسلامية أنها تنبذ فكرة السيطرة وفكرة الخضوع في الشئون الدينية وفي الشئون الدنيوية معا. ففي نطاق العقيدة الدينية لم تقم ثمة سلطة وسيطة بين الخالق والمخلوق, اذ يتصل المخلوق بخالقه مباشرة. أما في نطاق شئون الدولة فيقوم الحكم على العدل والشورى والمساواة(بدلا من السيطرة والخضوع) وهي أسمى الاسس في سياسة الحكم, وان الدولة الاسلامية هي النظام الوحيد الذي قام على اساس تحرر الفرد من مبدأ السيطرة والخضوع الذي كان سائدا منذ وجد التجمع البشري وقد ترتب على نبذ فكرة السيطرة والخضوع المذكورة نتائج عديدة من أهمها :- 1- انه لم يحدث في تاريخ الاسلام أن قام صراع بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية كما حدث في الانظمة الاخرى. 2- كما أن الشريعة الاسلامية لا تقر نظام استغلال الشعوب الاخرى ولهذا فهي لا تأخذ بنظام الاحتلال العسكري كما لم تأخذ بنظام الحماية الاستعمارية والاستعمار([14]). وفيما يتعلق (بالحرية) فانه من المعروف أن الانسان لا يشعر بالعدل في المجتمع الا اذا أحس أنه انسان حر, ولن يحس بهذه الحرية الا اذا تحرر من الخوف على حياته وامنه ورزقة ومستقبله وقد حرص الاسلام على أن ينبع الاحساس بهذا التحرر من داخل الانسان اولا وقبل تهيئة الوسائل لكفالة ذلك التحرر, ولهذا كان الهدف الاول للاسلام ان يحرر الوجدان البشري تحريرا كاملا وذلك بتحرير الانسان من عبادة أحد غير الله لقوله تعالى(قل هو الله أحد الله الصمد, لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد). وانطلاقا من هذا المبدأ العام قال الخليفة عمر بن الخطاب عبارته المشهورة (متى استعبدتهم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) مخاطبا أحد الولاة, حين علم أن ابن الوالي قد أساء معاملة أحد المواطنين غير المسلمين, وذلك بعد أن مكن ذلك المواطن من الاقتصاص من ابن الوالي المذكور, ولهذا فان (الحرية) التي نص عليها ميثاق حقوق الانسان الذي وضعته الامم المتحدة في القرن العشرين والذي ورد به(الناس يولدون أحرارا متساوين) قد قررها الاسلام قبل أربعة عشر قرنا وكفلها للانسان الفرد بغض النظر عن لونه او عرقه او دينه([15]). ان غير المسلم المقيم في دار الاسلام يتمتع بكافة الحقوق التي يتمتع بها المواطنون (المسلمون) بل أنه يتمتع بمزايا خاصة وهي انه يخضع لقوانينه الخاصة في شئون الاسرة وفي شئون الدين لا يحد من ذلك الا قيد النظام العام في رأي بعض فقهاء المسلمين وفي غير هذا النطاق تنطبق عليه القوانين الاسلامية كما تنطبق على سائر المسلمين في دار الاسلام وعليه أيضا ما على المسلمين من تكاليف ولا فارق في هذا الشان بينه وبينهم. من ذلك فان الشريعة الاسلامية قد سبقت سواها من النظم القانونية بقرون في تنظيم مركز غير المسلمين المقيمين في دار الاسلام تنظيما يكفل لهم المعاملة بالمثل اذ اعتبرت أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. ولم يصل أي نظام قانوني في أية دولة متحضرة للان الى ما وصلت اليه الشريعة الاسلامية من الرقي والسمو في هذا النطاق. ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر هنا ما كتبه الامام أبو يوسف للرشيد فقال : وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أبرك الله أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ولا يؤخذ شيء من أموالهم الا بحق يجب عليهم. فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه" وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته "أوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا فوق طاقتهم " ([16]). ويذكر المستشرق الانجليزي المحقق سير توماس ارنولد في سياق المقارنة بين المسلمين والمسحيين في مجال التسامح الديني " لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لارغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الاسلام, أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي, ولو اختار الخلفاء تنفيذ احدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرديناند ferdinand وايزابلا Isabela دين الاسلام أو التي جعل بها لويس الرابع عشر Louis XIV المذهب البروتستنتى مذهبا يعاقب عليه متبعوه في فرنسا, أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن انجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة. وكانت الكنائس الشرقية في اسيا قد انعزلت انعزالا تاما عن سائر العالم المسيحي الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف في جانبهم باعتبارهم طوائف خارجة عن الدين. ولهذا فان مجرد بقاء هذه الكنائس حتى الان ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الاسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم". ويضيف هذا المستشرق قوله "ان بقاء الكنيسة المسيحية الوطنية بعد الفتح العربي أكثر من ثمانية قرون, لشاهد على روح التسامح التي استطاعت وحدها أن تجعل مثل هذا البقاء أمرا ممكنا([17]). ولا نستغرب بعد ذلك اذا رأينا أن كثيرا من قادة الفرسان ورجال الدين الصليبيين الذين قدموا لمحاربة المسلمين قد اعتنقوا الاسلام عن طيب خاطر بعدها عرفوا حقيقة تعاليمه واعجبوا بشجاعة قادة المسلمين وتسامحهم وتواضعهم وخاصة السلطان صلاح الدين الايوبي مفضلين الاقامة في بلاد المسلمين بدلا من العودة الى بلادهم الاصلية مع رفاقهم وقد شمل ذلك الحملات الصليبية المختلفة ومنها الحملة الاولى والمرافقين لحملة الملك الانجليزي ريتشارد قلب الاسد والمرافقين لحملة الملك الفرنسي لويس التاسع كما فصل ذلك المستشرق الانجليزي توماس ارنولد في مؤلفه المشهور "الدعوة الى الاسلام." ومما يجدر ذكره أن المرافقين للملك ريتشارد بعد وفاته وتولي الملك جون مكانه, هم الذين أرغموا الملك جون على توقيع وثيقة الماجناكارتا(العهد الاعظم) عام1215م متأثرين بما عرفوه من تعاليم الاسلام ونتيجة لاختلاطهم وتعاملهم مع المسلمين وما لمسوه من روح التسامح لديهم في الاراضي المقدسة, وتعتبر هذه الوثيقة الاصل الذي انبعثت عنه مواثيق حقوق الانسان في الثورات الكبرى الثلاث الانجليزية والامريكية والفرنسية وأخيرا منظمة الامم المتحدة . ولا بد من التأكيد هنا أن وثيقة الاعظم(الماجنا كارتا Magna Charta ) تعد أول القواعد الدستورية التي قامت عليها النظم السياسية الحديثة, بما تضمنته من قواعد هامة تتعلق بحقوق الانسان وضمان الحرية الشخصية لكل فرد من أفراد الرعية مهما اختلفت طبقته وتباينت درجته في المجتمع, وقد كان لهذه الوثيقة أثرها البعيد في انجلترا وسائر أنحاء أوروبا الاقطاعية. بما كانت تحمله من مؤثرات اسلامية مشبعة بروح الانسانية والعدالة والمساواة والتسامح والتي يؤدي الاخذ بها الى الاضرار بمصالح الملوك والباباوات على السواء, ولذلك اعتبرها الملوك من البدع الخطيرة التي تهدد سلطاتهم كما اعتبرها البابا باطلة مخالفة لتعاليم الدين والشرائع اللاهويتة, وأنه لا قيمة لها مهددا الملك جون بالتكفير ان أقرها فاغتاظ الملك من هذا السلوك واشعر خليفة المسلمين بواسطة مندوب من قبله بأنه يريد اعتناق الاسلام تخلصا من وصاية الباباوات المنكرة كما يذكر العالم الغربي ميشلي في مؤلفه"تاريخ فرنسا", ولا بد من التذكير هنا بأن صدور وثيقة العهد الاعظم قد جاء نتيجة لثورة النبلاء على الملك جون حين شعروا بجهله واستبداده بالنسبة لما عرفــوه عـن سـلاطــين المسلمين ولهذا فان الملك جون قد منح هذا العهد للنبلاء متعهدا فيه أنه لن يفرض الظرائب دون موافقتهم وأنه ليس من حقه أن يسجن شخصا أو يوقع عليه عقوبة دون أن يبدي أسبابا معقولة تبررها([18]). ومما تجدر الاشارة اليه ان الحروب الصليبية والعلاقات التجارية مع العرب ...الخ كانت هي السبب الحقيقي للتطورات السياسية التي حصلت في اوروبا الغربية ولو ان تلك التطورات لم تتم في فرنسا الا بعد حين ومعاناة وذلك نظرا لمعاكسة الكنيسة لها واقامتها العقبات في طريق كل اصلاح وتغيير . ان عهد "سان لويز" الذي يباهون به حقا لما ظهر في عهده من الرقي في القوانين واللغة والاخلاق لم يكن يبلغ تلك الدرجة من البهاء لولا اقامة الملك بالقدس وتاثير الرجال المنورين الذين كانوا حوله عليه ونخص بالذكر منهم " فانسان دوبوفي" تلميذ ابيلار الذي كانت له حظوة كبرى ببلاط الملك "لويز التاسع" وهو الذي لخص له تعاليم الاسلام وانجازات الحضارة العربية الاسلامية. ([19]) ان الامبرطور الجرماني فردريك الثاني الذي تربى على مبادىء المسلمين وتغذى بتعاليم الاسلام وكان يقتدي بهم قد اخذ عن العرب اسس تكوين دولته وتنظيمها كما تؤكد ذلك المستشرقة الالمانية زيجرد هونكه في كتابها " ص.443 شمس العرب تسطع على الغرب" حيث اتجه فردريك الى تجديد نظام مملكته في صقلية ونايلي على قاعدة الحرية, ولهذا نلاحظ انه وفي القرن الثاني عشر تعددت رسوم العتق الممنوحة للافراد والجماعات وقد ابطل حق السيادة على املاك الموالي في عدة جهات فاخذت العبودية تتناقص تدريجيا حيث ظهرت في ايطاليا اول حركة سياسية كبرى ترمي الى تحرير الافراد وذلك بسبب موقعها الجغرافي وكونها اكثر اطلاعا على انظمة المسلمين الادارية . وفي 1224 اسس فرديك الثاني جامعة نابلي كما اظهر كل رعاية لجامعة باليرمو الطبية "التي أسسها المسلمون" حيث كانت تدرس في هاتين الجامعتين علوم العصر على يد كثير من العلماء المسلمين وكان للفلسفة العربية الاسلامية ولشروح الفلاسفة العرب على فلاسفة اليونان النصيب الوافرفي تنبيه العقول ونشر الوعي في اوروبا وترغيب الناس في طلب العلم وفي النهضة الاوروبية بشكل عام». ([20]) وفي ظل الحكم الاسلامي وازدهار الحضارة الاسلامية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين كان اليهود ممثلين في أكثر من 250 حرفة وفي أكثر من 100 وظيفة أخرى, وقد كان وضعهم مختلفا عما كان عليه في اوروبا المسيحية التي لم تسمح لليهود أن يعملوا الا في الوظائف المحتقرة, ومن الناحية الاخرى فان اليهود لم يعرفوا في ظل الحكم الاسلامي الحياة في أحياء معزولة(جيتو) كما كانت حالتهم في اوروبا لان بيوت المسلمين والمسيحيين واليهود لم تكن مفصولة عن بعضها البعض عكس ما كانت الحال عليه في اوروبا المسيحية([21]). وعلى صعيد الاعلان العالمي لحقوق الانسان كما أقرته الجمعية العامة للامم المتحدة في العاشر من ديسمبر سنة 1948 في باريس, فقد بدأت الاسباب الموجبة لاصدار هذا الاعلان بالتركيز على ضرورة الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الاسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة على اعتبار أن ذلك يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم . ولهذا فقد ربطت المادة الاولى من الاعلان العالمي لحقوق الانسان بين الولادة والحرية والكرامة وأكدت على التميز لدى الانسان عن سائر المخلوقات عندما خصته بامتلاك العقل والضمير. وفي هذا الصدد نجد أن نظرة النموذج الاسلامي الى الانسان هي نظرة الى التكريم الذي وضعه الله فيه أي نظرة الى الجانب الديني بينما النماذج الاخرى تتجه نظرتها الى الجانب الاجتماعي في الانسان, فالتقويم الاسلامي يضفي على الانسان شيئا من القداسة ترفع قيمته فوق كل قيمة تعطيها له النماذج الاخرى, فقد قال تعالى" ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ([22])وفي خطبة الوداع حيث خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الجماعة بقوله" أيها الناس ان ربكم واحد, وان أباكم واحد, كلكم لادم وادم من تراب, ان أكرمكم عند الله أتقاكم, وليس لعربي على أعجمي ولا أبيض على اسود فضل الا بالتقوى". ان هذه الخطبة يمكن وصفها بأنها أول اعلان عالمي بالمساواة وأول وثيقة لحقوق الانسان في التاريخ([23]). ان المواطنين غير المسلمين المقيمين اقامة دائمة في الدول الاسلامية يعتبرون من المواطنين الاصليين في هذه الدول ولا يجوز اعتبارهم من الاجانب لان الاجنبي لا يتمتع بنفس الحقوق المدنية والسياسية التي يتمتع بها هؤلاء المواطنون الذين يحملون جنسية الدولة الاسلامية ولان المبدأ المعمول به مساواتهم مع المسلمين في الحقوق والحريات الشخصية ([24]). وضع الانسان (أي انسان) موضع التكريم :- وهذا ضمان أساسي حرص الاسلام على النص عليه واعلانه, ولم يصل فكر من الافكار ولا نظام من النظم قديما أو حديثا الى هذا التقدير الشامل للانسان. حيث ان الاسلام لم يكتف بتقرير هذا الضمان واعلانه في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بنى آدم) بل وضع المنهج التطبيقي الذي يجعله حقيقة واقعة في سلوك الناس, وهذا المنهج التطبيقي يتلخص في النقاط اللآتية:- 1- التقوى مقياس التفاضل : " يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى, وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا, ان اكرمكم عند الله أتقاكم[25]) ) وقول الرسول(ص) "لا فضل لعربي على عجمي, ولا لأبيض على أسود أو احمر أو أصفر الا بالتقوى" 2- الناس متساوون في أصل الخلقة: " يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء.." ([26])وقول الرسول (ص) (كلكم لآدم وآدم من تراب" . 3- المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات : لقول الرسول (ص) (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم " وقوله: " انما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا اذا سرق الشريف فيهم تركوه واذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد, وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ". 4- المرأة شقيقة الرجل : لقول الرسول (ص) "انما النساء شقائق الرجال ". 5- تحرى العدل ولو مع العدو اللدود : " ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى... ([27]) 6- الاختلاف في الدين لا يمنع البر والمودة: " لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم, ان الله يحب المقسطين"([28]) 7- الاحسان الى اهل الكتاب في المجتمع المسلم :لقول الرسول (ص) " لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وقوله" من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا". 8- النهي عن الاحتقار او السخرية بأحد : " يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم, ولا نساء من نساء عسى ان يكن خيرا منهن , ولا تلمزوا أنفسكم , ولا تنابزوا بالألقاب, بئس الاسم الفسوق بعد الايمان, ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" ([29]) " ويل لكل همزة لمزة([30]) وقول الرسول (ص) " بحسب امرىء من الشر ان يحقر اخاه المسلم". ولم يشعر الناس بقدر هذا الضمان الاساسى للانسان الا في ظل الاسلام, فقد كانت الفلسفات والافكار قديما وحديثا على ان المرأة او العبد أو الاسود او المخالف في الدين احط درجة واقل شأنا, بل يجب أن يعاملوا بقسوة وغلظة كما تعامل الحيوانات, وقد قاست البشرية من جراء ذلك وما زالت تقاسي, و لم تشعر بطعم العيش الكريم والحياة العزيزة الا عندما حاولت ان تهجر هذه الافكار وان تهمل هذه الفلسفات. ويوم ان كان للاسلام السلطان ولشريعته السيادة, كان هذا الضمان يتحرك تحرك الحياة في نفس وسلوك كل انسان, وتعلمت البشرية كيف تنبذ هذه الافكار المظلمة وتقضى على هذه الفلسفات العقيمة. وحتى بعد أن عدت العوادي على بلاد الاسلام واقتحمت شرائع أخرى معقل شريعته ما زالت نتائج هذا الضمان محسوسة وملموسة لا يستطيع انكارها أحد([31]) . نماذج مقارنة من التسامح بين المسلمين والمسيحيين كما ذكرها سير توماس و أرنولد : أ- من المؤكد أن المسيحيين من أهالي هذه البلاد قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين. ويظهر أن أهالي فلسطين من المسيحيين, لما وقع بيت المقدس في أيدي المسلمين نهائيا (سنة 1244م) رحبوا بالسادة الجدد واطمأنوا اليهم ورضوا بحكمهم. كذلك دفع هذا الشعور نفسه, شعور الاطمئنان الى الحياة الدينية في ظل الحكم الاسلامي, كثيرا من مسيحي آسيا الصغرى , في ابان هذه الفترة ذاتها الى الترحيب بمقدم الاتراك السلاجقة, باعتبارهم مخلصين لهم من الحكومة البيزنطية البغيضة, لايسبب نظام الضرائب المجحف وحده, ولكن بسبب روح الاضطهاد التي ظهرت بها الكنيسة الاغريقية, والتي قمعت بمثل هذه القسوة, بدع أصحاب بولس ومحطمي الصور والتماثيل Icenoclasts كذلك . وطالما دعا الأهلون الاتراك في عهد ميخائيل الثامن, الى الاستيلاء على مدنهم الصغيرة في داخل آسيا الصغرى, تخليصا من استبداد الدولة, وكثيرا ما هاجر الاغنياء منهم والفقراء الى الولايات التركية. ب- ويمثل لنا تاريخ الحرب الصليبية الثالثة, تلك الحرب المشئومة, حادثة على جانب عظيم من الأهمية وهي شبيهة بتلك الحادثة. والقصة كما ذكرها أودو الدويلي Odo Deuil أحد رهبان القديس دينيس Denis الذي كان يشغل وظيفة قسيس خاص للويس السابع, وصحبه في هذه الحرب الصليبية, فكتب في وصفها نبذة هذا نصها:- بينما كان الصليبيون يحاولون شق طريقهم برا عن طريق آسيا الصغرى الى بيت المقدس, منوا بهزيمة فادحة على أيدي الترك في ممرات فريجيا Phrygia الجبلية (1148م) وبلغوا مدينة أتاليا Attalia الساحلية بشق الانفس. وهنا, تمكن جميع الذين استطاعوا أن يرضوا المطالب الفادحة, التي كان يفرضها عليهم تجار الاغريق, من الابحار الى أنطاكية. بينما خلفوا وراءهم المرضى والجرحى تحت رحمة من الخونة من حلفائهم الاغريق الذين أخذوا مبلغ خمسمائة مارك من لويس، على شريطة أن يمدوا الحجيج بقوة من الحرس, وأن يعنوا بالمرضى حتى يصبحوا من القوة بحيث يمكن ارسالهم ليلحقوا بسائر زملائهم. ولكن لم يكد الجيش يغادر المكان حتى أخبر الاغريق الترك بموقف الحجيج الأعزل, ورقبوا في صمت, ما أصاب هؤلاء التاعسين من المجاعة والمرض وسهام العدو التي جرت عليهم الدمار والخراب وهم في طريقهم الى معسكرهم. وحاولت جماعة تبلغ ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف, أن تلوذ بالفرار بدافع من اليأس, ولكن الترك, الذين كانوا قد بلغوا المعسكر وهجموا عليه ليتابعوا انتصارهم, أحدقوا بهم ومزقوهم شر ممزق. وكان يكون موقف من نجا من الموت منهم قد بلغ حد اليأس, لو أن منظر شقائهم لم يذب قلوب المسلمين ويستدر شفقتهم. فواسوا المرضى وأغاثوا الفقير والجائع الذي أشرف على الهلاك, وبذلوا لهم العطاء في كرم وسخاء. بل لقد اشترى بعضهم النقود الفرنسية, التي ابتزها الاغريق من الحجاج بالقوة أو الخداع, ووزعوها بسخاء بين المعوزين منهم. فكان البون شاسعا بين المعاملة الرحيمة التي لقيها الحجاج من الكفار وبين ما عانوه من قسوة اخوانهم المسيحيين من الاغريق الذين فرضوا عليهم السخرة, وضربوهم, وابتزوا منهم ما ترك لهم من متاع قليل, حتى ان كثيرا منهم دخلوا في دين منقذيهم بمحض ارادتهم. وكما يقول المؤرخ القديم : " لقد جفوا اخوانهم في الدين الذين كانوا قساة عليهم, ووجدوا الامان بين الكفار الذين كانوا رحماء عليهم, ولقد بلغنا أن ما يربو على ثلاثة آلاف قد انضمووا بعد أن تقهقروا الى صفوف الاتراك. آه, انها لرحمة أقصى من الغدر! لقد منحوهم الخبز. ولكنهم سلبوهم عقيدتهم, ولو اكتفوا بما قاموا لهم من خدمات". وان زيادة اختلاط المسيحيين بالمسلمين وتقدير الصليبيين لفضائل خصومهم تقديرا أخذ ينمو على مر الزمن, وهي ظاهرة تميز المتأخرين من مؤرخى الحروب الصليبية عن السابقين منهم تمييزا واضحا جليا([32]). الفصل الثاني موقف الاسلام من الاقليات والديانات الاخرى لقد ظهر الاسلام في مطلع القرن السابع الميلادي فانتشر في الجزيرة العربية أولا, ثم أخذ يمتد الى بقية البلدان المحيطة. وقد أحدث الاسلام ثورة في العلاقات الاجتماعية والسياسية والتي كانت قائمة عند ظهور الدعوة الاسلامية, فقد لعبت عوامل عديدة في انتشار الدعوة من أهمها صدقها وبساطتهاوأخلاقيات الناس الذين حملوا لواءها الى حماس المؤمنين وعبقرية قادة الاسلام الاوائل الذين كانوا متأثرين بوهج النبوة, مما شجع الشعوب الاخرى على اعتناقها للاسلام . فقد احترم الاسلام الديانات الاخرى, حيث قرر أولا حرية العقيدة والدين, فقال تعالىفي سورة البقرة " لااكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ". كما أمر الاسلام المسلمين أن يؤمنوا بكل الاديان الالهية السابقة كما جاءت من عند الله, وأن يؤمنوا بجميع الانبياء والرسل والمبعوثين من عنده, فقد قال القرآن الكريم في سورة البقرة "امن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير". وأمر الاسلام بحسن معاملة الذين يعيشون في مجتمعه من أهل الاديان الاخرى كالمسيحيين واليهود, واعتبرهم أهل ذمة, أي لهم عهد الله وميثاقه ألا يصيبهم هضم ولا ظلم ولا اعتداء ما داموا لا يخونون ولا يعتدون, ودعا الاسلام الى حسن الحوار والكلام معهم, فقال القرآن الكريم " ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن ". وقد وضع الاسلام في معاملة من يعيشون في مجتمعه تلك القاعدة العادلة الراشدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا", وهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول وهو على فراش الموت "أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا, وأن يوفي لهم بعدهم وأن يقاتل من ورائهم "أي يدافع عنهم" "وألا يكلفهم فوق طاقتهم". ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن الاساءة في معاملة أهل الذمة "من اذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة, ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة "أي غلبته وحق عليه العقاب من الله عز وجل. وانطلاقا من ذلك يرى المالكية في حالة قتل المسلم للذمي (وهو غير المسلم) فانهم (ومن باب تشديد العقوبة) لا يجيزون لأولياء دم القتيل غير المسلم العفو عن القاتل المسلم, لانه بقتله الذمي يكون قد اعتدى على الدولة المتمثلة بالامام أي السلطان, في حين لو كان القاتل والقتيل من المسلمين فانه يجوز لاولياء الدم العفو عن القاتل . ويرى الامام أبو حنيفة أن لأهل الذمة أن يشربوا الخمر في دار الاسلام دون أن يقام عليهم الحد, وقد أقام رأيه على الحرية الدينية فقرر أن الذمي يعفي من حد الشرب, لانه لا يخاطب في تحريم الخمر بالتكليف الرسمي والا كان ذلك تدخلا في حريته الدينية, ولا يحق لنا أن نجبره على أمر هو من التدين عندنا, ولذلك لم يجز أيضا التدخل بين المجوسي وامرأته اذا كانت احدى محارمه. ويقرر الاحناف أن ذلك هو مسلك السلف الصالح, اذ يروي أن عمر بن عبد العزيز كتب الى الحسن البصري يسأله: " لماذا نترك النصارى يأكلون الخنزير ويشربون الخمر ونترك المجوس يتزوجون بناتهم؟ فرد عليه الحسن: على هذا دفعوا الجزية وعلى هذا أقرهم السلف, انما أنت متبع لا مبتدع” . ([33]) وحول قبول التعددية في المجتمع الاسلامي والتعايش بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع المذكور بسلام وأمان والاعتراف بحقوقهم فانه لا بد من الاشارة هنا الى ما ذكره أبو الحسن العامري (ت381/992م) في كتابه المعروف ب"الاعلام بمناقب الاسلام" بأن هناك ست منظومات اعتبرها وحدها المستحقة لاسم الدين وهي: الاسلام واليهودية والمسيحية والزرادشتية والوثنية والصابئة, ومستندة في ذلك أمران:- ما ذكره القرآن الكريم في الأية القرآنية الجامعة: "ان الذين امنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا, ان الله يفصل بينهم يوم القيامة." ([34]) توافر أربع مشتركات فيها سماها أركان الدين وهي العقائد بين تلك الاديان مبينا عند كل ركن فضيلة الاسلام فيه على الديانات الاخرى... الخ([35]). ومن حسن العلاقة بين الاسلام وغيره من الاديان السماوية, أن الاسلام قد أباح للمسلم أن يتزوج غير المسلمة من أهل الكتاب فيجوز للمسلم أن يتزوج المسيحية أو اليهودية, وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة صفية بنت حيي وهي من اسرة يهودية, وكذلك تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيدة مارية القبطية وهي من أسرة قبطية (مسيحية). ان أهل الذمة: وهم على الغالب اليهود والنصارى وقد أوجدت المعيشة نوعا من التسامح كان غالبا على العلاقة بينهم وبين المسلمين الا فيما نذر. فلم تتدخل الحكومة في شعائرهم الدينية, وكان للنصارى بطريق يعينه الخليفة ويطلق عليه (الجاثليق النسطوري) أي رئيس المسيحيين الشرقيين وكذلك بطريق اليعاقبة. وكان البطريق يتمتع بنفوذ واسع بين أبناء طائفته. وكان لليهود أيضا رئيس ببغداد يطلق عليه (رأس الجالوت) وكان يجمع الضرائب من أبناء ملته ويرسل نصفها الى الخزينة. وانتشر اليهود شرقي العراق أيضا في همدان وأصفهان وشيراز وسمرقند. وقد تمتع اليهود والمسيحيون في الاندلس بالتسامح والمساواة فتعلموا العربية والفوا بها كتبهم ونظموا أشعارهم بل نقلوا أوزان الشعر العربي الى الشعر العبري, وأصبحت مدن اسبانيا ولا سيما قرطبة مراكز للدراسات العبرية ومن الفلاسفة والشعراء المشهورين شلومون بن جبيرول الذي ولد في سرقسطة (1.22-1.53) وكتب في الفلسفة كتبا كثيرة أهمها "اصلاح النفس". وقد تقلد بعضهم المناصب الراقية في الدولة منهم سفراء ووزراء بل أن بعض الحرف كادت تكون مقصورة عليهم كالطب. ومن هؤلاء حسداي بن شبروط وكان طبيبا ممتازا يحسن عدة لغات فأرسله الخليفة عبد الرحمن الثالث سفيرا الى امبراطور الدولة الرومانية المقدسة واتخذه وزيرا وطبيبا ومترجما ثم استمر في الخدمة في عصر الحكم بن عبد الرحمن أيضا. كما استوزر أحد ملوك غرناطة االفيلسوف العالم شموئيل هنجيد(982-1.55م) ([36]). وكانت علاقة التفاهم والتعاون سائدة في الدولة الفاطمية أيضا على العموم فقد تقلد يعقوب بن كلس اليهودي منصب الوزارة أيام المعز. واستوزر ابنه العزيز عيسى بن نسطورس النصراني وعين منشي بن ابراهيم اليهودي على بلاد الشام([37]). لقد أعطى المسلمون جميع الطبقات حقوقا متساوية واستبدلوا الضرائب الثقيلة بضرائب عادلة(الجزية والخراج). ثم أخذ اليهود حريتهم الدينية وصار لهم قضاة من ابناء طائفتهم. وتمتع المسيحيون كذلك بقوانينهم وتقاليدهم وفتحت أبواب الوظائف أمام المسلمين واليهود والمسيحيين على السواء. ونتيجة لهذة المعاملة الحسنة والعادلة اعتنق كثير من سكان البلاد الديانة الاسلامية([38]) . وفي صدد تعليقة على ما ورد في الآية القرآنية الكريمة "لا اكراه في الدين" يقول الفقيه الدستوري العربي المسيحي الدكتور أدمون رباط" " من الممكن دون مبالغة القول بأن الفكرة التي أدت الى انتهاج هذه السياسة الانسانية (الليبرالية) اذا جاز استعمال هذا الاصطلاح العصري, انما كانت ابتكارا عبقريا, وذلك لانه, وللمرة الاولى في التاريخ, انطلقت دولة هي دينية في مبادئها, ودينية في سبب وجودها ودينية في هدفها, الا وهو نشر الاسلام, الى الاقرارفي الوقت ذاته بأن من حق الشعوب االخاضعة لسلطانها أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها, وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد فيه باكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم, بل حتى على الانتماء الى الشكل الخاص الذي يرتديه هذا الدين.. هذه القاعدة (الناس على دين ملوكهم) التي لم تندثر في البلاد الغربية الا بفضل الثورة الامريكية والثورة الفرنسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر, وتعرف هذه القاعدة بصيغتها اللاتينية (Cuius region, eius religio) وكان لا بد اذا لهذه السياسة الاسلامية المبنية على نصوص القران من أن تسفر عن نتيجتين حاسمتين ما لبثت اثارهما ماثلة في الشعوب العربية وهما: قيام الطوائف المسيحية على أساس النظام الطائفي من ناحية ودخول سكان الاقطار التي فتحها العرب في دين الاسلام من ناحية أخرى. فتلك الجماهير الكثيفة, التي تشكل كثرة أهالي سوريا ومصر والعراق, انما كانت تدين بالمسيحية وقد اعتنقت الاسلام بأفواج متلاحقة منذ القرن الاول من الهجرة بملء حريتها في حين أن من بقي من هؤلاء النصارى موزعين الى طوائفهم المعروفة بتسميتها المختلفة, انما هم شهود عدل عبر التاريخ على سماحة الاسلام, لان وجودهم كأهل ذمـة في الماضي انـما كان مبنيا علـى قـاعـدة شـرعيـة ثـابتـة (أي نص قرآني) وليس على شعور من طبيعته أن يتضاعف او يضعف كما ان من بقي من هؤلاء النصارى على دينه يقف شاهد عدل على انسانية هذا الدين([39]) " . كما يذكر المستشرق الاسباني (أوغاستو اولاغي) بأن الاسلام (الفكرة/القوة) قد انتشر بين السكان الاصليين في غرب أوروبا من خلال (ثورة ثقافية) حمل مشاعلها الفقهاء ولم ينتشربين هؤلاء السكان من خلال حملات عسكرية قادها الجنرالات. كما ذكر بأن عدد سكان اسبانيا حين وصلها العرب المسلمون كان خمسة عشر مليونا([40]). كما يذكر المؤرخ الغربي ادوارد باينج بأن عدد المسلمين في اسبانيا في القرن العاشر الميلادي بلغ ثلاثين مليونا. أما المؤرخ التركي ضيا باشا فيذكر أن عدد سكان قرطبة عاصمة الدولة الاسلامية قد زاد عن مليون نسمة في عهد الحكم([41]). ويذكر الباحث السويسري روجية دوبا سكويه بأنه في وسعنا أن نحكم على ما كان للدين الاسلامي من جاذبية للمسيحيين من رسالة كتبت عام 1311م تقدر عدد السكان غرناطة المسلمين في ذلك الوقت بمائتي ألف كلهم (ما عدا خمسمائة منهم) من ابناء المسيحيين الذين اعتنقوا الاسلام وكثيرا ما كان المسيحيون يفضلون حكم المسلمين على حكم المسيحيين([42]) . ومما يجدر ذكره أن المناطق الاوروبية التي انتشر الاسلام بين سكانهالاصليين عن طيب خاطر مثل اسبانيا وجنوب فرنسا وصقلية وجنوب وشمال ايطاليا قد تحولت الى مراكز اشعاع للحضارة الاسلامية, يرحل اليها طلبة العلم والمعرفة في كافة التخصصات من جميع أنحاء أوروبا وأكثر هؤلاء الطلبة يوفدون في بعثات على حساب بيت مال المسلمين . كما أنه لا بد في هذه المناسبة من التأكيد بأن الدولة الاسلامية هي أول دولة أخذت بمبدأ (سيادة القانون) بمعناه الشامل قولا وعملا وذلك قبل أن يعرفه العالم بأربعة عشر قرنا, وأن ما يسمى اليوم بمبدأ المشروعة Principle of Legality في القضاء الاداري والذي يعني أن تكون جميع تصرفات الجهة الادارية في اطار القانون بمعناه العام يتمثل في القاعدة الفقهية (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) لقول الرسول (ص)" السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أي أن الطاعة مرتبطة بتطبيق أحكام القرآن والسنة وهما يمثلان ما يعرف اليوم بالنصوص الدستورية والقانونية([43]). وفي الواقع العملي نجد أن الخليفة الاول أبو بكر الصديق قد أعلن سياسته في الحكم في الخطبة التي خطبها في المسجد بعد ان بايعه المسلمون بالخلافة حيث قال"أيها الناس,اني وليت عليكم ولست بخيركم, فان رايتموني على حق فأعينوني, وان رأيتموني على باطل فسددوني, أطيعوني ما أطعت الله فيكم, فان عصيته فلا طاعة لي عليكم... " ولهذا نرى أن الوظيفة العامة في النظام الاسلامي تقوم على فكرة أساسية هي كونها خدمة اجتماعية محددة السلطة لقاء أجر معين. وهذا الفهم كان مجهولا كل الجهل في الامبراطوريات التي كانت متحكمة في العالم اذ ذاك. فقياصر الروم وأكاسرة الفرس كل واحد منهم كان يعد نفسه ملك الملوك والحاكم بأمره فوق البشر جميعا وأن ذواتهم مصونة لا تمس. وانهم لا يكلفون بخدمة رعاياهم وانما يعتبرون ان رعاياهم هم خدام لهم وعبيد فضلهم. أما الاسلام فقد جعل الوظيفة العامة في أعلى قمتها متمثلة في الخليفة أو الامام فرضا واجبا على المسلمين وتكليفا بخدمة اجتماعية تجعل من الخليفة أو الامام واحدا من المسلمين سواء بسواء. يختاره المسلمون برأيهم الحر وعليه مشاورتهم. فان حاد عن الشرع وأهمل مصالحهم عزلوه.وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسول الكريم أن يقول للمسلمين "انما أنا بشر مثلكم" وجاء خلفاؤه من بعده ليقول كل واحد منهم "أني وليت عليكم ولست بخيركم". فاذا كان هذا هو أمر الخليفة أو الامام كقمة لوظائف الدولة في الاسلام فمن باب أولى تكون الوظائف الادنى من ذلك في جهاز الدولة. يتبين من ذلك أن المشروعية في الاسلام تقوم على رحمة الانسان للانسان, لان السلطة في الاسلام ليست تحكمية وانما هي مأمورة أن تقيم الحكم بين الناس جميع الناس, بغض النظر عن لونهم وجنسهم وعرقهم ودينهم وفقا لشرع الله, والالتزام بهذا الشرع ينطلق من الموقف الايماني الذي يؤدي الى قيام التوازن داخل النفس البشرية وداخل المجتمع وبين الامم والدول. ولا تعتبر أعمال السلطة الحاكمة مشروعة الا اذا التزمت شرع الله, ومن المعروف أن الاحكام الشرعية الواردة في القرآن والسنة تمثل (المشروعية العليا) التي لا يمكن مخالفتها وذلك على خلاف النظم الوضعية من حيث التزام السلطة الادنى بما تصدره السلطة الاعلى أيا كانت قراراتها وتصرفاتها. ومن وسائل الرقابة على المشروعية وضمان تنفيذها في الدولة الاسلامية محكمة المظالم وولاية الحسبة. وكان يدخل ضمن اختصاصات قاضي المظالم صلاحية الغاء القرار أو التصرف الاداري المخالف لمبدأ الشرعية, ولقاضي المظالم أن لا يتوقف عند الالغاء في التصرف الخارج على الشرعية, بل يحكم بالعويض للمتضرر من أعمال وتصرفات أشخاص السلطة انطلاقا من قاعدة أن (لا ضرر ولا ضرار) وبذلك يكون قضاء المظالم قد أخذ بقضاء الالغاء وقضاء التعويض كما هو معمول به في القضاء الاداري المعاصر([44]) ويلاحظ ان الشريعة الاسلامية اخذت بمبدأ دعاوي الحسبةactions populaires التي يجوز رفعها ممن يهمهم حماية مبدأ المشروعية من الكافة دون ان تكون هناك مصلحة قائمة لديهم شخصيا من وراء طلب الالغاء كما هي الحال في دعاوي الالغاء في القانون التي يشترط فيها وجود المصلحة عند رفع الدعوى وان تظل المصلحة قائمة الى ان يحكم في الدعوى([45]). وحول تأثير محكمة المظالم الاسلامية في تكوين القضاء الاداري الفرنسي وفي مقدمته (مجلس الدولة) نجد أن نابليون قد أنشأ مجلس الدولة الفرنسي (Conseil d'Etat ) بعد عودته من مصر مباشرة, فقد صدر قانون انشاء مجلس الدولة هذا عام 1799م وهذا أمر له دلالته فعلماء فرنسا الذين صاحبوا نابليون في غزوته الى مصر، درسوا وأطلعوا ومحصوا, كل في مجال اختصاصه, في مؤلفات العلماء المسلمين التي ترجم قسم منها الى اللغة اللاتينية ونخص بالذكر منها كتاب "الاحكام السلطانية" للامام الماوردي الذي يعتبر أهم كتاب في القانون الاداري الدستوري, وهو خير من بحث (قضاء المظالم) بشكل منسق وأسلوب غاية في الوضوح, وما مجلس الدولة الفرنسي وتنظيماته واختصاصاته الا صورة عما ورد في هذا الكتاب كما هو واضح من جداول المقارنة والدراسة االتحليلية التي وضعها الدكتور عبد الحميد الرفاعي في كتابه"القضاء الاداري بين الشريعة والقانون([46])". وحول تأثير محكمة المظالم في نشأة (الامبودزمان) ومراقب الدولة: ان فكرة ديوان المظالم نشأت أساسا في الجزيرة العربية وعرف العرب قبل الاسلام " مراقب السوق " الذي كان مفوضا بحمل عصاته والتجول في الاسواق لحث التجار على التقيد بأصول المعاملات وحمل الجزارين وبائعي التمور على ابقاء معروضاتهم نظيفة, ومع مجيء الاسلام اخذت فكرة " مراقب السوق " ابعادا جديدة واصبحت مصالح الناس اكثر تعقيدا وتغير الاساس الفلسفي لهذه الفكرة اذا انها اصبحت ترتكز على مبدأ " الامر بالمعروف والنهي عن المنكر " واصبح الخليفة هو من يستمع الى شكاوى الناس ومظالمهم خصوصا في اوضاع وحالات لا تستوفي شرائط الدعوى القانونية واللجوء الى القضاء, واستمر الحال في عهد الخلافة العثمانية . وفي عام 1812 قام ملك الدنمارك بزيارة الى الخليفة العثماني ولاحظ ان الخليفة يجلس في يوم محدد لسماع شكاوى الناس, واستفسر عن الامر وشرحت له مهمة الخليفة وديوان المظالم, واعجب بالفكرة وقام بنقل الفكرة الى بلاده, وهي اول بلد اصدر فيما بعد تشريعا خاصا بمؤسسة اطلق عليها اسم مؤسسة "الامبودزمان", بحيث يتم تعيين الامبودزمان من قبل البرلمان, وله حق البحث في المظالم والشكاوى التي تصل اليه وله حق الوصول الى المعلومات والوثائق اللازمة للتحقيق في الشكاوى وتدفع له مخصصات من البرلمان ويقدم تقريره للبرلمان, ولا يحق للجهاز التنفيذي ان يعيق عمله او يحجب عنه اية معلومات يطلبها, ومن الدنمارك انتقلت فكرة الامبودزمان الى العديد من الدول الاوروبية والتي بادر بعضها لتعيين "امبودزمان" لنشاط معين مثل "امبودزمان التأمين" في انجلترا بالاضافة الى "امبودزمان" آخرين في نشاطات مختلفة, واخذت بعض الدول بفكرة "مراقب الدولة". كما هو الحال في اسرائيل, ولمراقب الدولة في اسرائيل صلاحيات غير محدودة تقريبا, وعلى سبيل المثال : فقد فضح تقرير مراقب الدولة مقولات الحكومة الاسرائيلية من ان انشاء الجدار له مبرراته في لجم العمليات الارهابية, حيث بين المراقب ان الغالبية العظمى من العمليات الاستشهادية تمت بمرور هؤلاء الاستشهاديين من نقاط التفتيش الرسمية التي يقيمها الجيش الاسرائيلي. وعلى سبيل الاستطراد, فان، الصفة الاساسية لاي مسؤول يتولى مهمة ديوان المظالم او الامبودزمان او مراقب الدولة هي الاستقلالية التامة والصلاحيات الواسعة لتمكينه من اداء مهامه, وبالتالي لا يمكن ان تتولى هذه المهمــة الا شخصية ذات مصداقية عالية وذات مقدرة علمية اذ عليها ان تستوعب انها لا تسأل من قبل الجهاز التنفيذي, وليس الجهاز التنفيذي هو الذي يمنح ويمنع عنها رواتبها ومستحقاتهـــا ومخصصات الديوان الذي تتولى ادارته, حيث انه يتبع مجلس الامة او البرلمان مباشرة ويسأل امامه, ويقدم تقريره له([47]). ولا تعرف الشريعة الاسلامية نظرية (أعمال السيادة) تلك النظرية التي ابتكرتها السلطات الحاكمة في العالم الغربي للتهرب من الرقابة القضائية على أعمالها وتصرفاتها وبعبارة أوضح التهرب من تطبيق أحكام القانون عليها . ولهذا نجد أن نشأة المحاكم الادارية في فرنسا كان بقصد حماية الادارة من الخضوع للقضاء العادي في حين نجد أن نشأة قضاء المظالم في العالم الاسلامي كان بقصد حماية الافراد من طغيان الادارة والخشية من عدم قدرة القضاء العادي على اجبار السلطات الحاكمة وأصحاب النفوذ للالتزام بأحكام الشريعة واحترام المشروعية الاسلامية. والمثل السائد عندنا (سيدي وسيدك الله) وذلك بالنسبة للحاكم والمواطن على السواء يعني أن السيادة (الحاكمية) هي لله وحده أي للنصوص الشرعية المتمثلة بالدستور الذي يقره ممثلو الامة([48]). كما نلاحظ أن الدولة في أوروبا قد ضمت (العلمانية) الى(الديمقراطية) لمقاومة سلطة الكنيسة خلال الصراع بينهما على السلطة . ولهذا كنا نرى خلال التاريخ الاسلامي أن الفقهاء المسلمين كانوا يحرصون على سلامة تطبيق أحكام القاعدة الشرعية"لا اكراه في الدين" وأي حاكم كان يحاول الانحراف أو مخالفة هذه القاعدة كان يهب في وجهه هؤلاء الفقهاء المدافعون عن حقوق الناس مما جعل الاقليات غير المسلمة التي تعيش في المجتمعات الاسلامية تشعر وتتمتع بحرية الدين والعقيدة في ظل الدولة الاسلامية الواسعة, ابتداء من حدود الصين شرقا مرورا بأفريقيا الى حدود فرنسا في أوروبا غربا. ومن أبرز الامثلة في هذا المجال, ما قام به الفقيهان المسلمان الامام الاوزاعي في بيروت والشام والليث بن سعد في مصر من جهود متواصلة للدفاع عن حقوق الاقليات غير المسلمة تلك الحقوق التي قررتها لهم أحكام الشريعة الاسلامية ومن ضمنها حرية الدين والعقيدة, هذا من ناحية, ومن الناحية الاخرى, فانه كان باستطاعة أي مواطن غير مسلم في الدولة الاسلامية أن يلجأ الى المحاكم الاسلامية وخاصة (محكمة المظالم) للحصول على كافة حقوقة ولو كان خصمه هو خليفة المسلمين نفسه. وقد سجل تاريخ القضاء الاسلامي صفحات مشرقة في هذا المجال تقف شاهد عدل على المساواة والعدالة التي كانت تسود بين المسلمين وغير المسلمين على حد سواء في المجتمع الاسلامي . ويروي الباحث الامريكي لوتروب ستودارد Stoddard في كتابه "حاضر العالم الاسلامي" عن أحد الوزراء العثمانيين قوله بأنه اذا خطر ببال أحد حكام المسلمين التعرض الى المواطنين غير المسلمين في الدول الاسلامية. "كما وقع للسلطان سليم الاول العثماني تقوم في وجهه الملة ويقول له شيخ الاسلام, ليس لك على النصارى واليهود الا الجزية وليس لك أن تزعجهم عن أوطانهم. فيرجع السلطان عن عزمه امتثالا للشرع الشريف. لذلك بقي بين أظهرنا حتى في أبعد القرى وأصغرها نصارى ويهود وصابئة وسامره ومجوس.. لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين, أما أنتم معشر الاوربيين فلم تطيقوا أن يبقى بين أظهركم مسلم واحد واشترطتم عليه اذا أراد البقاء بينكم أن يتنصر. ولقد كان في أسبانيا ملايين من المسلمين, وكان في جنوبي فرنسا وفي شمال ايطاليا وفي جنوبها مئات ألوف منهم, ولبثوا في هاتيك الاوطان اعصرا مديدة, وما زلتم تستأصلون منهم حتى لم يبق في جميع هذه البلدان شخص واحد يدين بالاسلام. وقد طفت بلاد أسبانيا كلها فلم أعثر فيها على قبر واحد يعرف أنه قبر مسلم([49])". فاذا علمنا أن عدد المسلمين في أسبانيا بلغ ثلاثين مليونا في القرن العاشر الميلادي, لم يبق منهم مسلم واحد اليوم في اسبانيا لادركنا عمق الكارثة التي حلت بهم([50]) . وفي الجانب الاخر نجد كارثة انسانية أعم وأشمل وهي التي حلت بالهنود الحمر سكان العالم الجديد الاصليين (أمريكا واستراليا..الخ) حيث يذكر عالم الانثروبولوجي المحقق بيار كلاستر في كتابه المشهور "مجتمع اللادولة" :- 1 ـ ان أسوأ تاريخ في سجل البشرية وحقوق الانسان هو التاريخ الاوروبي. 2 ـ ان أكبر مذبحة في التاريخ قد ارتكبها الاوروبيون بحق الهنود الحمر سكان العالم الجديد الاصليين المسالمين الطيبين العزل الذين كان عددهم عند وصول الاوروبيون الى بلادهم يتراوح بين ثمانين الى مائة مليون نسمة (ويعادلون ربع سكان العالم في ذلك الوقت) تمت ابادتهم من قبل الاوروبيين دون أدنى رحمة, لم ينج منهم الا قلة لا تذكر وهي التي تبعثرت في العالم الجديد كما نراها اليوم. وقد ورد وصف حي لاحدى المجازر التي شكلت المذبحة الرهيبة حيث ورد في احدى الروايات التاريخية التي دونها شهود عيان لتلك المجازر ما يلي "لقد اطلعت على تقرير بعث به المسمى لاس كازاس أسقف مدينة شيابا الى الملك شارل الخامس, فألفيت فيه أن هذا القسيس قدر بخمسة عشر مليونا عدد الضحايا الذين لم يرتكبوا جريمة سوى انهم لم يكونوا مسيحيين وذلك باعتراف قاتلهم([51])". وقد تطرق ذلك التقرير الى حسن أخلاق الهنود الحمر وصدق نواياهم , اما "الاولاد, الذين ولدوا نتيجة اغتصاب الاسبان للبنات الهنديات من سكان القارة الجديدة, فكان الاسبان يدقونهم على الارض أو يسحقونهم بين الصخور" وكان هذا الاسقف وراهب اخر يدعى مارك ورنيس من شهود العيان لهذه المجازر المرعبة. ولئن كان الاسبان هم السابقون في انتهاج هذا المنهج الفظيع فقد التحق بهم الانجليز والالمان... الخ حيث دامت مطاردة الجنس البشري هناك قرونا عديدة. ولقد أشار الفيلسوف الفرنسي ديدرو لهذه الفظائع الجافية بقوله "حادث غريب في بابه قد حارت العقول في اكتناهه وهو أن الحكومة الاسبانية جمعت بين الغباوة والتوحش لحد أن باتت مؤيدة لهذه الفظائع السمجة, بل أنها لم تقف عند هذا الحد, فانها جندت جنودا من الكلاب ومرنتهم على مطاردة الجنس البشري والتغذي بلحومه, أني لا أدري هل كان الوزير الاسباني يفقه أن هؤلاء الناس يحســون ويشعرون ويمشون على قدمين كالاسبان أنفسهم أم لا ولم تقف هذه الكارثة عند الهنود الحمر بل تعدتهم, ففي القارة الجديدة كان المسيحيون يملكون أرقاء مسيحيين مثلهم, فكونوا في ممالك اسبانيا- تلك الدولة التي حازت قصب السبق في التمسك بالتعاليم الكاثوليكية- هيئة اجتماعية دامت الى أواخر القرن التاسع عشر مقامة دعامتها على امتلاك المسيحي لاخيه في المسيحية([52]). ولا ننسى ضحايا مسلسل الحروب الدينية الدامية والاضطهاد الديني التي عانى منها الاوروبيون مئات السنوات, وضحايا كوارث الحربين العالميتين الاولى والثانية التي حصدت أرواح الملايين من البشر. ونحن لا نستغرب ارتكاب تلك المذابح وانتهاك حقوق الانسان الصارخ في ذلك الزمن عندما نشاهد اليوم وبالنقل الحي على شاشات التلفزيون, المذابح الجماعية المرعبة التي يرتكبها الصرب بحق الاقلية المسلمة في البوسنة وكوسوفو والروس بحق الاقلية الشيشانية المسلمة فأين وصلت حقوق الاقليات والانسان غير الاوروبي في الدول الاوروبية في هذا العصر! عصر منظمة الامم المتحدة والديمقراطية وحقوق الانسان والنظام العالمي الجديد. فهل نحن نعيش حقا في عصر الديمقراطية وحقوق الانسان أم انها خرافة كررناها فصدقناها وشعار حق يراد به باطل, لا ندري, أنه سؤال حائر يبحث عن جواب؟