رجال حول جمال الدين محمد عبده نموذجاً جلال الأنصاري كاتب وباحث اسلامي اذا ما انسقنا وراء المقولة التي تؤكد بأنه لايمكن لنا أن نفهم السيد جمال الدين ما لم نفهم اساتذته، كما اشار الشهيد مطهري([330]). فان من نافلة القول ان نستحضر حقيقة، في هذا الاتجاه هبوطا، اذ لا يمكن أن نقف على معالم مدرسة السيد جمال الدين ما لم نقف على افكار هذا المصلح، الذي يعد – بحق – رائد المدرسة الفكرية العربية – الاسلامية النهضوية الحديثة ومؤسسها الفعلي. فخلال اقامته في مصر والمشرق العربي مارس السيد جمال الدين ابلغ التاثير على لفيف من التلامذة الذين اتيح لهم أن يؤسسوا – الى جانبه – او بعد وفاته تيارا نهضوياً عريضاً بمصر والشام، تحرك في اطار المشكلات والقضايا التي اثارها او صاغها »السيد« درساً وشرحاً في »الازهر« والصحافة... الخ. واذا كان محمد بعده قد تداول ما أرسى السيد جمال مداميكه النظرية (وبصرف النظر عن طبيعة المواقف السياسية التي اتخذها قبل او بعد) فان جيل رشيد رضا ثم اللاحقين يتصل انتاجاً وتفكيرا بموضوعات المؤسس. وهذا انما يراد به القول إن الاطار الذي رسمه السيد جمال الدين لموضوعات التفكير النهضوي ظل الاطار الاشكالي الجامع لعمل المريدين المباشرين ومن يعمل في نطاق مدرستهم الفكرية من الاتباع([331]). ولما كان موضوع اساتذة »السيد« يتعذر علينا الخوض فيه، لاسباب خاصة، الا أن مالا يدرك كله لا يترك جله، وباختصار شديد؛ انطلق السيد جمال الدين في دراسته في مدارس مدن قزوين وطهران والنجف، ودرس هناك على يد الشيخ الانصاري والاخوند ملا حسين مكي الهمداني، والدرجزيني السوندي ، والملا هادي السبزواري، وكان صديقاً لاحمد الطهراني الكربلائي، ولمحمد سعيد الحبوبي. وينبغي لنا لكي نحيط بالسيد جمال الدين، أن نحيط بالاخص بشخصية الاخوند الهمداني الاخلاقية والسلوكية والفلسفية، حيث تتلمذ السيد جمال الدين على يديه وترك في شخصيته ابعاداً جديدة ومهمة([332]). وليس من شك، إن هذه الابعاد الجديدة والمهمة قد تلاقت وتلاقحت مع مكامن العبقربة التي تفجرت في داخله، فافاضت تشخيصاً للواقع، وتمرداً عليه، وطموحاً لاصلاحه. فبعد خمس سنوات من الدراسة في النجف يعود الى بلدته، وفي نيته الذهاب للهند، لاكمال دراسة العلوم والمعارف التي لم يستطع دراستها في العراق، وقد سأله والده البقاء والاكتفاء بما تعلّم، ولكن طموحه العظيم كان يدفع به الى قدره، قال: »انني كصقر محلق، يرى فضاء هذا العالم الفسيح ضيقا لطيرانه! وانني اتعجب منكم اذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الضيق الصغير«([333]). في غضون ذلك، كان القرن التاسع عشر قد بدأ في قطع سنوات نصفه الثاني، حين بدأ جمال الدين رحلته الطويلة المرهقة، وكانت اوربا قد سارت شوطاً هائلاً في مشروعها التصنيعي الداخلي ومشروعها الاستعماري الخارجي، لقد زحف الغرب الاستعماري على العالم فاحتل معظم اجزاء افريقيا والهند وشمال افريقيا اسلامي – ما عدا ليبيا – وكان يطمح الى أن يدمر ما تبقى من الوطن الاسلامي بتدمير الدولة العثمانية، وبالتالي بسط هيمنته على كل العالم القديم. ومع ادراكه لفوات الاوان في اصلاح ماسبق من اخطاء، الا انه كان يملك رؤية لتغيير واقع الحال، وكانت رؤيته تعتمد على فهمه التاريخي الواقعي والاجتماعي لبلاد المسلمين. ولا يمكن على الاطلاق أن نقول – كما يؤكد الاستاذ هادي خسروشاهي – إن السيد جمال الدين عاش حياة، وترك رؤية صائبتين بلا أخطاء فقد كان مثله مثل كل عظام التاريخ اخذ قيمته من أن عموم مسيرته ورؤيته كانت صحيحة الى حد كبير وأنه حاول حتى الرمق الاخير أن يحقق ما آمن به. لقد فهم السيد جمال الدين جوهر الغرب الاستعماري، فقاتل ضده بصلابة، في الهند ومصر واسطنبول وايران ومع الحركة المهدية في السودان، وادرك اهمية وحدة الامة من جديد، فحمل راية الوحدة في كل قطر حل به وأمام كل حاكم التقاه. وأدرك سر التخلف والتهاوى في العالم الاسلامي ، ولذا فقد كان نقدياً متقدماً وحضارياً مبدعاً. كان بلاشك مدافعاً صلباً عن الحرية وعن دور الشعوب في ادارة شؤونها([334]). شخصية غير عادية في زمن غير عادي ورغم كل الحشد من الآراء المتضاربة حول سيرة السيد جمال الدين، فان ماهو متفق عليه إن هذا الرجل شخصية غير عادية وجدت في زمن غير عادي، وفي ظروف غير عادية ايضا، واذا كان تنوع الآراء فيه يعكس تنوع التيارات السياسية التي درست هذا الرجل وبنت على اساسها – كما هو قديماً – راهناً مواقفها منه، فان فكره وسيرة حياته طبعا العصر الذي وجد فيه لناحية ما سبر من اغوار لهذا الفكر([335]). ومهما يكن من أمر هذا الرجل فان الانصاف يدعونا الى الاعتراف بانه كان شخصية فذة، استطاع بما يملك من علم وحنكة ان يصبغ عصره بأفكاره وان يترك بصماته على التيارات الفكرية والسياسية حتى اوائل القرن العشرين، وبقي ملهماً لمعظم الحركات الدينية الاسلامية التي ظهرت في العالم الاسلامي حتى الحرب العالمية الاولى. اما المفكرون المسلمون الذين عاشوا بين الحربين، فقل ان أفلت احد منهم من تأثيره او الهامه او توجيهه او الاحالة اليه([336]). جاء جمال الدين ، اذن، في »زمن التناقض« او فيما يسميه هو نفسه »زمن الاستعمار« وزمن »تحرير الارقاء واسارة الاحرار«.. فأدرك فوراً ان في هذا العالم داء ينبغي تشخيصه وتحري دوائه، وان هذا الداء ليس الا انقسام اهله وتشتت ارائهم واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف([337]). وكما هم صانعو التاريخ، كان جمال الدين يسبح ضد هذا التيار، فقد كان رجل الامل واليأس، رجل الثورة والهدأة، رجل الواقع والحلم، لذا كان فكره – كعمله – حافلاً، بشتى المواقف والنزعات، مشتملا على بذور كثيرة لم يهيأ له ان ينميها واحدة واحدة فكان على الذين جاءوا من بعده أن يتعدوا هذه البذور حتى تنضج وتؤتي أكلها، وقد تم فعلاً، وعلى درجات متفاوتة. فانه ما من بذرة القاها جمال الدين في بلاد العرب خاصة، الا ووجدت من يلتقطها ويعيد غرسها عاقداً على نمائها ونضوجها آمالاً لا حدود لها([338]). وعن خدمات هذا المصلح الكبير وما قدمه من عطاء، قارن الشيخ الرفسنجاني رئيس الجمهورية، في جانب من كلمته في الذكرى المئوية لرحيل جمال الدين، بين شخصية السيد جمال الدين وشخصية الامام الخميني الراحل (رض)، فاوضح: »إن السيد جمال الدين لم يكن قائداً في اية ثورة او أي تحرك، وانما كان المحرك لتلك الثورات والانتفاضات، وبصورة غير مباشرة، وقد اتسمت نشاطاته بالتنقل من مكان لآخر، وعدم الاستقرار، بينما كان الامام الخميني(رض) قائدا سياسيا مباشرا للثورة الاسلامية في ايران وموجها لها في كافة تفاصيلها ومراحلها«([339]). وتأسيساً على ذلك، يستطيع الباحث اليوم أن ينظر الى القرن الاخير من تاريخ امتنا فيجد إن جيلاً بأكمله من رواد النهضة الاسلامية الحديثة.. كانوا جميعاً من تلاميذه، وان الثورة العرابية في مصر، وثورة الدستور في ايران كانتا أثراً من آثاره، بل اننا نستطيع القول إن النهضة الاسلامية المعاصرة من ايران الى افغانستان الى مصر، تنتمي جميعها الى السيد جمال الدين انتماء شرعياً([340]). ولم تقف مديات التأثير على صعيد الاسلاميين من تلامذته، بل انطلقت في آفاق اوسع، اذ تأثر بالسيد جمال الدين عدد من المفكرين العرب والمسلمين من الاجيال اللاحقة، فكان من اشهر تلامذته والمتأثرين به في مصر: الشيخ محمد عبده، ابراهيم المويلحي، عبد الله النديم، محمود سامي البارودي، محمد فريد وجدي، قاسم امين، مصطفى كامل، سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، عبد العزيز جاويش. وفي بلاد الشام: الشيخ طاهر الجزائري (1851 – 1920) صاحب الفضل في انشاء المكتبة الظاهرية بدمشق، والشيخ حسين الجسر (1845 – 1909) مؤسس المدرسة الوطنية الاسلامية في طرابلس الشام، التي كانت تدرس العلوم العصرية باللغات العربية والفرنسية والتركية، ومؤلف »الرسالة الحميدية« ، وعبد القادر المغربي الذي قضى عدة سنوات بصحبة السيد جمال الدين في الاستانة، ومحمد كرد علي، وجمال الدين القاسمي، وعبد القادر البيطار، وعبد الحميد الزهراوي، ومحمد زاهد الكوثري، وعبد القادر الترمانيني، ومحمد رشيد رضا، والامير شكيب ارسلان. وسار على نهجه في شمال افريقيا محمد بيرم التونسي، والشيخ محمد النخلي، والشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ سالم بوحاجب (المدرسون في جامع الزيتونة)، والشيخ محمد ابن الخوجة([341]). على أن ثمة نصارى تحلّقوا حول جمال الدين، وخاصة خلال مكوثه في مصر، وفي طليعة هؤلاء، اديب اسحق، وفرح انطون.. وآخرون. وبهذا نجد جمال الدين قد انفتح على الواقع بكل ابعاده الانسانية، وحتى حركته الاصلاحية تتضمن كل القيم العليا من: الحرية والعقل، والانسان، والمساواة. والعدالة الاجتماعية والعلم، والتقدم.. وقد وردت هذه المفاهيم جميعاً، إن لم تكن بألفاظها فبمعانيها ومضامينها([342]). وهذا ما حدا بكاتب يساري لبناني أن يؤكد بان: »حركة الاصلاح الديني، التي برزت خصوصا في اعمال السيد جمال الدين ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، تشكل جزءاً اساسياً وطليعيا في حركة سياسية تحررية واسعة، فلا يمكننا أن نرى المضمون (الديمقراطي) والتقدمي لما قدمه هؤلاء المصلحون الثلاثة من تعاليم وافكار على صعيد الاصلاح الديني، وصعيد التربية، والعمل الثقافي، والنشاط العملي، الا اذا وضعنا هذا كله في أفقه السياسي العام، وفي معناه السياسي – النضالي. بل لعلنا نقول: ان الكثير من افكارهم وتجارب نشاطاتهم العملية تكتسب الان اهمية راهنة ليس على الصعيد المعرفي الثقافي فقط، بل وخصوصاً على الصعيد السياسي الكفاحي ضد الظلم الاجتماعي، والاسبتداد، والتخلف والرجعية، وضد الامبريالية، ومن اجل التحرر والتطور لشعوب هذه البلدان، وسائر الشعوب الاسلامية والشعوب المظلومة«. ويواصل هذا الكاتب كلامه: »ولسنا نريد تحميل الاشياء (من اقوال وافعال ومواقف) اكثر مما تحتمل، ولا نحن نريد تقويل افكار هؤلاء المصلحين غير ماقالته هي او استشرفته، بل كل ما نحاوله هنا هو اعادة قراءة هذه الافكار، واستقراء تلك الاعمال، في ضوء حاضرنا، وكذلك في ضوء تلك الظروف نفسها التي برزت فيها هذه الافكار والاعمال، وتطورت، ومارست فعلها«([343]). ورغم تحفظنا على بعض الاراء والمصطلحات المذكورة آنفاً، فان مما لاشك فيه ان السيد جمال الدين قد لعب دورا اساسيا في انطلاق حركة الوعي، بكل ما اتسمت به من مواجهة الاستعمار والعدوان الخارجي والتخلف والتسلط الداخلي، محاولاً تخليص الامة من عدويها الرئيسيين. ثم جاء الكواكبي داعيا الى تأسيس دولة عربية اسلامية في الشام تحيي الخلافة وتحيا بها الامة، وقامت حركات مشابهة في كل انحاء العالم الاسلامي: المهدية في السودان. والسنوسية في ليبيا، وعبد القادر الجزائري في المغرب، وعلماء الجزائر وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، والالوسي في العراق، والشوكاني في اليمن، لبحث اسباب انهيار الامة وضعفها وتحديد شروط الاصلاح ووضع مناهجه من اجل استئناف دورة ثانية للحضارة الاسلامية، بعد خمسة قرون من التوقف، وتأخذ الدورة الاولى في القرون السبعة الاولى نبراساً لها، كعصر ذهبي وكشاهد تاريخي على انه لا يصلح هذه الامة الا ما صلح به اولها، فنشأت حركات الاحياء المعاصرة، من اجل بعث الامة ونضتها من جديد([344]). التيار التجديدي وحيث ان المسألة تتخذ هذا المنحى السياسي: نستطيع القول دون تضخيم او مبالغة ان السيد جمال الدين هو رجلها الاجدر، من ضمن مفكري النهضة وجدارته وأهليته للخوض في قضية كهذه، متأتية من تكوينه السياسي الفذ والموسوعي، ومن معايشته الدقيقة والتفصيلية لتطورات الحياة السياسية والفكرية في مجموع العالم الاسلامي، بل ومن واقع انخراطه في الصراع كمناضل سياسي ضد الاستعمار عرف – معرفة الخبير – موقع ومكانة الاسلام في ذلك الصراع([345]). ولكن الاسلام الذي تحدث عنه السيد جمال الدين هو الاسلام القرآني الاصيل لا الاسلام العامي الممسوخ، وهو الاسلام الحي الفعال والمربي الذي يذم الاستسلام والانعزال، وفي جوابه على التساؤل عن سبب تأخر الشعوب المسلمة مع امتلاكها نظاماً حياتياً حياً ومتحركاً كالاسلام، وانهزامها امام الغرب، يعتبر عامل هذه الهزيمة وذلك الجمود كامنا في المعتقدات الجبرية، وفي الابتعاد عن العمل والسعي في حين أن الاسلام دين العمل والحركة حيث يقول القرآن: »ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فالاسلام الذي كان سائدا في المجتمعات الاسلامية في فترة انحطاطها كان فاقدا الحيوية والانتاج والاعمار، فتأكيد عنصر العمل من خصائص كل ابطال حركة العودة الى الاسلام في عصرنا، حيث أكد هذا العنصر كل من: محمد عبده، واقبال، ورشيد رضا، وحسن البنا، والامام الخميني، وشريعتي، ومطهري. وكان شأن السيد جمال الدين شأن سائر الذين جاءوا من بعده من رواد النهضة الاسلامية المعاصرة في دعوة المسلمين الى اعادة بناء الفكر الاسلامي ومكافحة التقاليد غير المعقولة وغير الاسلامية المترسبة في أفكار المسلمين، وفي اعداد مختلفة من مجلة »العروة الوثقى« التي كان يصدرها في باريس سعى الى مكافحة روح اليأس لدى المسلمين وجعلهم يكتسبون صفة الاعتماد على النفس، وفي الوقت نفسه هاجم الاستعمار الانجليزي وبقية القوى الغربية بشدة. لقد كان السيد جمال الدين يسعى طوال حياته لتشجيع المسلمين على مقاومة »الاستعمار الخارجي« و»الاستبداد الداخلي« و»الاستحمار الديني« وان يثبت لهم أن النصر حليفهم اذا توحدوا، لقد رأى السيد جمال الدين أن الاسلام دين العمل والمثابرة، وأكد فريضة الجهاد بشدة، وهذه نقطة اشترك فيها رواد النهضة الاسلامية المعاصرة كافة. ورأى ان ليس امام المسلمين سوى استخدام القوة لمواجهةالحكومات التي قررت القضاء على الاسلام. وقد امتدح التعصب الديني الذي لا يؤدي الى ضيق الافق والتطرف، ورأى ان لا التزام لمن لا يتعصب لمدرسته الفكرية. بهذه المفاهيم الثورية بدأ السيد جمال الدين نمطا من التفكير، أفقد في النهاية موجةالتغرب الخطرة زخمها، وجعل الاسلام الاصيل يزدهر من جديد، ولقد تربى في مدرسة السيد جمال الدين كل من: محمد عبده، ورشيد رضا واقبال، وحسن البنا، والمودودي، وشريعتي([346]). من هنا، تتضح لدينا معالم التيار التجديدي – النهضوي، وأعلام هذا التيار كثيرون، وانتشارهم بالذات او بالفكر، قد غطى انحاء العالمين العربي والاسلامي، وقد يتميز واحد منهم بقسمة فكرية عن آخر، وقد تدعو البيئة او الاولويات او طبيعة التحديات الى ان يكون تركيز بعضهم على قضايا بعينها دون القضايا الاخرى، لكنهم في مجموعهم، قد جمعتهم القسمات العامة التي ميزت هذا التيار التجديدي عن غيره من التيارات. وأول هؤلاء الاعلام ورأس هذا التيار هو جمال الدين فيلسوف الاسلام وموقظ الشرق، وتجسد فكره وخاصة ماتعلق بتحرير العقل والاصلاح الديني في الاثار الفكرية والجهود العملية للامام محمد عبده، وكان جناحه في المشرق العربي المفكر عبد الرحمن الكواكبي، وفي المغرب العربي عبد الحميد بن باديس.. ومن حول هؤلاء جميعا عرفت الامة أقوى تيارات التجديد واليقظة في العصر الحديث، وأكثرها أصالة، ومستقبلية ايضا([347]). ويطول الحديث عن اولئك الرجال الذين التفوا حول جمال الدين. ومن المتعذر استقصاؤهم ، خاصة وان بينهم مشهورين ومغمورين، وايضا هناك تلاميذ مباشرون وآخرون لم يلتقوا بجمال الدين، او ممن جاءوا بعده، ولكنهم يعتبرون انفسهم تلامذة فكريين للسيد جمال الدين، ينهجون خطاه، ويكملون مشروعه النهضوي. كما واننا لا نعدم من بين صفوف التلاميذ والمريدين، الوفي للسيد جمال الدين، حتى النهاية، او الذي قلب له ظهر المجن، في حياته او حتى بعد مماته! وربما ساهم البعض اوانساق – عن علم او من دون علم – وراء المحاولات الرامية لتشويه صورته. ولاسباب عديدة ، سنقف ازاء نماذج منتقاة من اولئك الرجال الذين كانوا حول السيد جمال الدين، على امل أن تتاح الفرصة لباحث جاد أن يشمر عن ساعد الجد، لدرسة الموضوع بصورة وافية واشباعه، خدمة للحقيقة، وانصافاً لهذا الرجل الذي لم يعرف بعد. سلاطين.. وساسة في سن التاسعة عشرة قرر السيد جمال الدين التوجه الى افغانستان، حيث استقر في كابل، ليبدأ حياته العامة هناك، وفيها كتب أول كتاب حول افغانستان وكتبه بالعربية وسماه »تتمة البيان في تاريخ الافغان«. وما بين عامي 1862 – 1868م تولى منصب الوزير الاول في حكومة محمد اعظم خان، وخاض حرب 1862 ضد دوست محمد خان الموالي للانجليز. وفي عام 1868م عزل عن جميع مناصبه في افغانستان بعد هزيمة جيش محمد اعظم، ثم وافقت الحكومة الافغانية على مغادرته البلاد مشترطة عدم ذهابه الى ايران لمنعه من الالتحاق بمحمد اعظم الذي كان قد نفي اليها([348]). كانت »التجربة الافغانية« هي أول ممارسة سياسية لجمال الدين، وكان محمد اعظم أول السلاطين حول جمال الدين، ولو قدر للتجربة أن تستمر لعادت بالنفع العظيم على الوطن الاسلامي. اما ثاني السلاطين الذين التقاهم جمال الدين فهو خديوي مصر. ويروي السيد جمال الدين في خاطراته حوارا دار بينه وبين الخديوي اذ قال الاخير: »انني احب كل خير للمصريين ويسرني أن ارى بلادي وأپناءها في اعلى درجات الرقي والفلاح، ولكن اكثر الشعب خامل جاهل.. إن دروسكم وأقوالكم المهيجة ستؤدي بالشعب والبلاد في تهلكة« فرد السيد جمال الدين بأدب: »ليسمح لي سمو أمير البلاد أن اقول بحرية واخلاص إن الشعب المصري كسائر شعوب العالم لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين افراده ولكن هذا لا يمنع من وجود العالم والعاقل ايضا فبالمنظار الذي تنظرون به الى الشعب المصري..ينظر به لسموكم!... واذا قبلتم نصحي وأسرعتم لاشراك الامة في حكم البلاد فتأمرون بأجراء انتخاب نواب عن الامة تسن القوانين.. فان ذلك اثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم« وقد سأله شاه ايران غاضبا: »أيصح ان أكون ياحضرة السيد وانا ملك ملوك الفرس كأحد أفراد الفلاحين؟«. فرد السيد جمال الدين: »اعلم يا حضرة الشاه إن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري اعظم وأثبت مما هي الان. لاشك يا عظمة الشاه انك رأيت وقرأت عن امة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكا عاش بدون أمة ورعية؟« وفي كل لقاءاته بالسلطان عبد الحميد، كان جمال الدين يحثه على فتح الابواب من حوله وتوثيق علاقته المباشرة بالناس ويوضح له الصلة الوثيقة بين الشورى والقرآن وحكمة تنظيم امورالبلاد على اساس دستوري ثابت. »لاريب لو تيسر ذلك لكان اعادة عصر الرشيد للمسلمين ميسوراً، وجمع شتات الممالك الاسلامية، تحت لواء سلطان عادل همام، مثل الفاتح او السلطان سليمان، او السلطان سليم، غير عسير...«. وشرح السبب الثاني الذي كان يراه لا يقل في تأثيره عن الاول بأن جعلت القسطنطينية عاصمة للدولة، وهي ارض فتحت حديثاً وليست مركز الدولة. و»لان المستعمرة مهما عظم موقعها وطاب هواؤها، لا يصح ان تتخذ قاعدة او عاصمة للملك، لاسباب أهمها: ان المستعمرة كالثوب العارية، قابلة للاسترداد، والممالك لا تسقط ولا تتبعثر أجزاؤها الا من ضعف السلطان في عواصمها، ومنها ، بعد المستعمرة على الغالب، عن مجموع القوة واحاطتها بأعداء الملك وأعوانه..« ([349]). وأثناء مكوثة في روسيا التقى جمال الدين بالقيصر، ودار بينهما حوار ساخن خرج بعده من موسكو وتوجه الى بطرسبرغ، وهناك استفسر القيصر عن سبب خلافه مع الشاه الايراني »ناصر الدين« . وكان جواب السيد جمال الدين »انه الحكومة الشورية (من الشورى) أدعوا اليها ولا يراها«. فقال القيصر »الحق مع الشاه، فكيف يرضى ملك أن يتحكم فيه فلاحو مملكتة!« فرد عليه جمال الدين قائلا: »أعتقد يا جلالة القيصر، انه خير للملك أن تكون ملايين رعيته أصدقاء له من أن يكونوا أعداء يترقبون له الفرص!« وقد اعتبر القيصر ان عبارة السيد جمال الدين موجهة ضده مثلما هي موجهة ضد الشاه ناصر الدين، مما ادى الى ارفضاض الاجتماع بين الاثنين دون التطرق الى أية مسائل اخرى([350]). وبسبب مواقفه الجريئة والمبدئية.. ناصبه العديد من السياسيين العداء، فيما ضاق وعاظ السلاطين بدعوته للاصلاح، وكان اشدهم عليه »ابو الهدى الصيادي« شيخ الاسلام الذي كاد للسيد وحاربه ووصمه بالزندقة والكفر، وتبقى عداوة الانجليز للسيد جمال الدين في طراز اخر. تلامذته .. ومريدوه ولئن اعرض السلاطين ووعاظهم عن السيد جمال الدين.. فقد التف حوله الناس والمريدون. وتطرقنا الى اسماء عديدة من تلامذته، وسنكتفي بأبرزهم »الشيخ محمد عبده« نموذجاً. والشيخ محمد عبده (1849 – 1905) من مواليد محافظة الغربية، وتعلم القراءة والكتابة في منزل ابيه، وبعد ان جاوز العاشرة من عمره أتم حفظ القرآن ثم ذهب الى الجامع الاحمدي في طنطا، ليتعلم تجويد القران وقواعد اللغة العربية. وفي سنة 1866 التحق بالجامع الازهر([351]). فظل محمد عبده يلتقى علوم الازهر دون سواها حتى قدوم جمال الدين الى مصر في اذار 1871 فبدأ يلتقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمة (الفلسفية) والكلامية([352])، ومنذ اتصال محمد عبده بالسيد جمال الدين لازم مجلسه وقد جر ذلك عليه، بالاضافة الى ارائه الجريئة غضب الازهريين، فحاول بعض اعضاء لجنة الامتحان اسقاطه في امتحانات العالمية([353]). والشيخ محمد عبده الذي تتلمذ على يد السيد جمال الدين اشتهر بتركيزه على الاصلاح الديني، وان لم يبلغ شأو استاذه في السياسة.. وهو فلاح مصري، فقير، بلغ بعقله وفكره الى مكان هابته فيه الملوك، فقال عنه خصمه الخديوي عباس: »أنه يدخل علي كفرعون!!« وداعبه استاذه السيد جمال الدين متسائلا: »قل لي: ابن اي ملك من الملوك انت؟!«. دخل الازهر صغيراً، فصده عن علومه جمود شيوخه وعقم وسائل التعليم فيه.. ثم أعانه لنهج الصوفية المتنكسين على مواصلة الدراسة، حتى كان لقاؤه بالسيد جمال الدين سنة 1871م فحدث له وفيه التحول الكبير فمن التصوف النسكي تحول الى التصوف الفلسفي.. ومن افق طلاب الازهر المحدود انطلق الى حيث استشرف الآفاق التي كان يستشرفها استاذه.. وفي صحبة السيد جمال الدين بمصر كان ابرز مريديه، ثم اصبح، بعد نفيه، ووفق عبارته »روح الدعوة« الى التجديد.. وأسهم، من موقع الاعتدال، في الثورة العرابية.. ثم نفي فيمن نفي عن قادتها.. فعاش زمنا في باريس، يحرر (العروة الوثقى)، وينوب عن السيد جمال الدين في رحلات سرية لشؤون الجمعية التنظيمية.. ثم اقام في بيروت.. فلما سمح له بالعودة الى مصر، هجر العمل السياسي وركز على محاولة اصلاح القضاء والاوقاف والازهر، وتحرير العقل المسلم من اسر التقليد، وتجديد اللغة العربية. فأصاب الكثير من النجاح في العديد من المبادئ، وتبلورت حوله معالم هذا التيار التجديدي ومدرسته.. لكن صدامه بالخديوي. عباس حلمي (1874 – 1914م) قد أعاق الكثير من اصلاحاته، كما أن جمود اغلب شيوخ الازهر قد منع جهوده الاصلاحية من بلوغ ما أراد لها في الاصلاح، حتى لقد مات كمدا بسبب هذا الاخفاق في 11 يوليو سنة 1905([354]). وبهذا يمكن القول؛ انه لايمكن دراسة فكر محمد عبده بشكل علمي وموضوعي بمعزل عن تأثير استاذه ومعلمه السيد جمال الدين، اذ أن سيرة هذا السيد وفكره وحركته صبغت القسم الاكبر من حياة وشخصية محمد عبده، حتى بدت مواقفهما متشابهة في كثير من الاحيان. وبشيء من الدقة المنهجية نستطيع القول إن هذين الرجلين كانا من القرب، في الفترة التي عايشاها معاً، بمكان انهما شكلا تيارا متميزا في ذلك العصر، حتى إن اشد الناس عداوة لهما لم يكن يستطيع أن يتخطى انتاجهما والانجازات التي حققاها([355]). وقد اتسمت العلاقة بين الاستاذ والتلميذ بنوع من الرفعة والسمو، والى الحد الذي جعل السيد جمال الدين فيه حياة محمدعبده شبيهة بحياة اولئك الانبياء العظام كابراهيم وموسى وعيسى ومحمد. وغيرهم من الاولياء والقديسين: »إن ابي وهبني حياة يشاركني فيها علي ومحروس (وهما اخوان له كانا يعملان بالزارعة) والسيد جمال الدين وهبني حياة اشارك فيها محمدا وابراهيم وموسى وعيسى والاولياء والقديسين«([356]). على حد تعبير محمد عبده نفسه. ورغم ذلك، فان الخط البياني للعلاقة بين الرجلين شهد منحنيات طبعت مجريات سيرة حياة الشيخ محمد عبده، فهي انحكمت في ثورتها وهدوئها وارتقائها واحجامها بمدى تقاربها مع افكار السيد جمال الدين وابتعادها عنها، وبمعنى اخر – وبموضوعية متناهية – لايمكن فهم شخصية محمد عبده دون مقارنتها بشخصية استاذه السيد جمال الدين([357]). وفي ضوء ذلك قسم بعض الباحثين حياة الشيخ محمد عبده الى ثلاثة اقسام: الاول: قبل معرفته بالسيد جمال الدين، وهي الفترة المتراوحة بين ولادته (اي سنة 1849م) حتى مجيء السيد جمال الدين الى مصر، وتعرف الشيخ عليه سنة 1871م. الثاني: من 1871 حتى سنة 1885 وهو تاريخ افتراق الشيخ عن السيد. الثالث: فترة مابعد السيد جمال الدين وتبدأ سنة 1885 سنة عودته الى بيروت بعد اغلاق (العروة الوثقى) حتى سنة الوفاة 1905م([358]). وما يهمنا التوقف عنده هو المرحلتان الاخيرتان، اذ تطورت علاقة الشيخ محمد عبده بالسيد جمال الدين من الاعجاب (1871 – 1879م) الى العمل المشترك (1884 – 1885) حيث تم انشاء »جمعية العروة الوثقى« واصدار مجلة »العروة الوثقى« لتدعو المسلمين الى النهوض ببلادهم والثورة على المستعمرين والتحرر من الاستعباد والاضطهاد السياسي الداخلي. بعد كل هذه الحياة المليئة بالصخب السياسي والحركة والنفي والعودة والاصدار والاستصدار.. سكن الشيخ محمد عبده بيروت، فانقطع عنه مدد الثورة والهياج السياسي الذي كان يمده به السيد جمال الدين – وكانت المرحلة الثالثة – (مرحلة الجفاء): وعاد الى طبيعة من ميله الى الاصلاح العقلي والديني وتجنب السياسة، وكانت الظروف حوله تدعو الى ذلك، فقد اخفقت »الثورة العرابية« وحجبت الجريدة »العروة الوثقى«، ولم تنجح مفاوضاته مع الانجليز، وهو يقيم في بيروت، حيث الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد، الذي يخنق الحرية، ويملأ البلاد بالجواسيس يحصون على الناس انفاسهم. وبعد ابتعاده عن التأثر المباشر بالسيد جمال الدين يلاحظ تغيير في فكره وطريقة عمله، فقد بدأ يصرف جهوده الى النواحي العملية في الاصلاح، وسعى لتحقيق هذا الاصلاح عن طريق التعاون مع السلطة الحاكمة لا عن طريق مناهضتها، ولعل هذا ما دعا السيد جمال الدين الى اليأس كون ثمرة عمره من تلامذته كالشيخ محمد عبده وغيره لم يستطيعوا الثبات على النهج الذي رسمه لهم، ولم يكونوا دعاة ناجحين، لذلك رأى انه »لابد من تربية جيل جديد تربية دينية صحيحة يتولى أمرها اناس يأخذون على انفسهم عهد الا يقرعوا باباً لسلطان، ولا تضعفهم الحدثان، ولا يثني عزمهم الوعيد، ولا يغرهم الوعد بالمنصب، ولا تلهيهم التجارة ولا المكسب بل يرون في المتاعب وتحمل المكاره لنجاة الوطن من الاستعباد غاية المغنم، وفي عكسه المغرم«([359]). ارهاصات الافتراق بعد أن توقفت مجلة »العروة الوثقى«، وانقضت السنوات الثلاث المحكوم عليه أن ينفى خلالها من مصر، وتسرب اليأس الى نفسه من جدوى العمل السياسي – المباشر – والثوري – الذي لم يكن موافقا لطبعه وتكوينه ومزاجه – بدأ محمد عبده مسعاه في العودة الى مصر، فغادر باريس الى بيروت، عن طريق تونس، سنة 1885م.. وهناك تفرغ للتربية والتعليم والتجديد الديني. وفي سنة 1889م نجحت مساعي اصدقائه وتلاميذه بمصر، فسح له بالعودة اليها، بعد التأكد من انه لن يحترف العمل السياسي مرة اخرى! ([360]). واثناء وجوده في بيروت كان محمد عبده يزداد ايمانا بعقم المحاولات السياسية، وضعف الامل في الملوك والامراء، ووجوب التعويل بعد هذه المحاولات العقيمة على الامم دون غيرها، وحصر الامل كله في اعداد هذه الامم للنهضة والمقاومة بعدة العلم الصحيح والتربية الاجتماعية الصالحة، وقد ابرأ ذمته وأعطى سياسة استاذه كل حقها من الرعاية والاخلاص، ولكنه اتخذ من الارزاء التي ابتلي بها استاذه على أيدي الامراء والملوك حجة جديدة على ضعف الامل فيهم، ووجوب التحول بالجهود الى اممهم، فقد شهّر به خديوي مصر ونفاه، وعذبه شاه ايران واهانه وطرده من بلاده على شر حال وخيّب راجوات الهند رجاءه وأعرضوا عنه مجاملة للسادة المستعمرين، واعتقله السلطان العثماني في قفص من ذهب، كما قال عنه بعض المعجبين به من المستشرقين، ولم يبق أمامهما أحد غير هؤلاء ينوطان به الرجاء ويشدان اليه الرحال، فمن صيانة الجهد عن الضياع أن يتوقف عن هذا الجهد من هذا الجانب وينصرف الى ماهو اصلح واجدى. وظل الشيخ محمد عبده على هذا الرأي يزداد ايماناً به يوماً بعد يوم، ويضيف اليه من تجاربه مع الامراء والرؤساء كل يوم ما يعززه تعزيزا لا سبيل فيه الى الشك عنده، وقد كان يقول لتلاميذه الفقهاء والادباء من أمثال العالم الديني السيد »رشيد رضا« والشاعر الوطني »حافظ ابراهيم« ان السياسة ضيعت علينا اضعاف ما أفادتنا و»ان السيد جمال الدين كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجهه للتعليم والتربية لافاد الاسلام اكبر فائدة، وقد عرضت عليه حين كنا في باريس ان نترك السياسة ونذهب الى مكان بعيد عن مراقبة الحكومات، ونعلم ونربي من نختاره من التلاميذ عن مشربنا، فلا تمضي عشر سنين الا ويكون عندنا من التلاميذ الذين يتبعوننا في ترك اوطانهم والسير في الارض لنشر الاصلاح المطلوب، فينتشر احسن الانتشار، فقال: انما انت مثبط«. وأراد التلميذ بعد عودته الى القاهرة واستقرار استاذه بالاستانة ان يعاود الكرة، ويتلطف في الاشارة الى السيد بما تقضي به الحيطة في مقره المضطرب بين دسائس الحاشية المتربصين، ومكائد الحساد المنافسين، وغدرات الوزراء والسلاطين فجاء الرد عنيفا غاية العنف من السيد يقول فيه: »انك تكتب لي ولا تمضي ونعقد الالغاز.. من اعدائي؟ وما الكلاب كثرت او قلت؟.. فكن فيلسوفا يرى العالم العوبة، ولا تكن صبيا هلوعا«. ثم يقول عن رسالة اخرى: »ان الرسالة ما وصلت ولا بينت لنا موضعها وجلاً منك، قوى الله قلبك«. وقد امسك الشيخ محمد عبده بعد ذلك عن الكتابة الى السيد في الاستانة، لان الرسائل لا تصل احيانا، وما يصل منها في القليل من الاحايين تراقبه الشرطة وترفع خبره الى المراجع العليا، ولا حيلة في صراحة القول مع ضررها المحقق المرسل اليه دون المرسل، ولا حيلة كذلك في التوريةلان السيد على عادته من الجرأة البالغة يحسبها هلعا صبيانيا، ويؤنب الكاتب عليها ذلك التأنيب الحكيم([361]). وهكذا دار الصراع داخل مدرسة جمال الدين، وبذا انتقلت الى دور جديد مع عودة محمد عبده الى مصر (وخلافه مع استاذه السيد جمال الدين) وتعاونه مع اللورد »كرومر«، وتمهيده الفعلي لولاية تيار سعد زغلول وطه حسين وأحمد لطفي السيد وأمثالهم. ذلك ان عبده لم يكن »على طريقة استاذه« في الحقيقة الا لفترة قصيرة (هي الفترة التي سبقت ورافقت ثورة عرابي باشا ونفي عبده الى بلاد الشام ومشاركته في باريس في اصدار العروة الوثقى وتأسيس الجمعية التي تحمل الاسم نفسه او الحزب الوطني) ولكن ما ان عاد عبده الى مصر حتى انقطع عن »ثورية« و»شعبوبية« السيد جمال الدين وانكفأ في موقف »لاسياسي« على حد قوله وتصوره »مادخلت السياسة في شيء الا افسدته أعوذ بالله من السياسة، ومن كل ارض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم او يتعلم او يجن او يعقل في السياسة، ومن ساس ووسوس وسائس ومسوس«([362]). وقد اشار الى هذا الافتراق المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه »الثورة العرابية«، فكتب قائلا: »ونقطة الضعف في شخصيته – أي شخصية محمد عبده – هي تخلفه عن الكفاح السياسي واختلافه في هذه الناحية مع استاذه جمال الدين، وقد بدأ انقطاعه عنه منذ عودته الى مصر سنة 1889، فترك استاذه يعاني متاعب الكفاح السياسي والآمه ومرارته، وكان من قبل عضده وساعده الايمن، وانك لتلمح تراخي الصلات بينهما، حتى الصلات الشخصية منذ ان عاد الى مصر حتى وفاة السيد جمال الدين من قراءة منتخبات الاستاذ الامام، فانك لاتجد فيها رسالة واحدة كتبها الى السيد في محنته ومنفاه، بل إن جمال الدين توفي سنة 1897 فلا تجد للاستاذ الامام كلمة في رثاء استاذه الروحي والفلسفي، وزميل جهاده في العروة الوثقى، وهذه الناحية هي أثر من آثار الاختلال في اخلاق الامة ونفسيتها«([363]). اذن، ثمة فروق اساسية بين الاستاذ والتلميذ، بالامكان رصدها – بوضوح – على الاصعدة التالية: أولاً: النضوج الذي تميز به وعي الاستاذ للمسألة السياسية، وقد يكون تفرد في عصره اذ كان هاجسه ايجاد حالة من الوحدة والتماسك داخل المجتمع الاسلامي الذي احس بالخطر الذي يتهدده من قبل الدولة الاوربية ومشروعها التفتيتي، فسعى لدى الحكام الى هذه الوحدة وحاول جهده ان تكون هناك سلطة واحدة ينضوي تحتها كل العالم الاسلامي، ولكنه لم ينجح في ذلك لما كان يعانيه هؤلاء الحكام من خلافات شديدة وتضارب في المصالح بحيث لم يكن لجمه بالامر السهل اضافة الى جهل هؤلاء بحجم الاخطار التي تتهدد العالم الاسلامي، فحاول ان تكون هناك سلطات متعددة مستقلة في قرارها السياسي عن التدخلات الاجنبية ويجمعها رابط او جامع واحد يؤلف بينها ويشكل حالة تعاضد وممانعة في مواجهة الاخطار الخارجية، وأيضا لم يفلح بانجاز هذا المشروع لنفس الاسباب التي واجهت التوجه الاول. وعلى خط مواز حاول جمال الدين جاهدا أن يبعث في العقيدة روحاً جديدة تخرجها من رتابتها التي اثقلتها الاوهام والخرافات وباتت عبئاً ثقيلا امام مواكبة حركة الحياة والواقع، سيما وان خطر الفكر الغربي بدأ ينفذ من خلال هذه الثغرات ويطلق من خلالها احكاما على الاسلام ينسب اليه فيها عدم امكانية مواكبته للعصر، نتيجة تخلفه وسلفيته ونصوصه الجامدة والبالية. فيما الشيخ محمد عبده ركز نشاطه الاصلاحي على المسألة التربوية والثقافية واهمل الجانب السياسي من اهتماماته وحصر حدود مهمته في امور تجديد العقيدة وتصويب اللغة والدعوة الى فتح باب الاجتهاد واصلاح الازهر. ثانيا: لقد كانت الاممية طابع حركة السيد جمال الدين الذي لم يحصرها في اطار بلد معين او منطقة محدودة بل جعل ساحة حركته كل العالم الاسلامي والعالم الغربي. فيما تركزت حركة الشيخ محمد عبده ضمن حدود وطنه مصر ولم يتعدها الا في اطار النشاطات المشتركة بينه وبين استاذه السيد جمال الدين. ثالثا: تميز جهاد السيد جمال الدين بجرأته وحزمه في مواجهة الحكام والانظمة التي كانت تستبد في احكامها وتعاند المصالح العليا للامة وتهمل العمل لاجلها. فيما الشيخ محمد عبده ترك اصلاح الانظمة والحكام لـ »القدر يقدره« بل هادن الحكام في مراحل عديدة من حياته وصادق الانجليز وسالمهم([364]). واذا كان لابد من تعقيب على ما آلت العلاقة بين السيد جمال الدين وابرز تلاميذه، فلا يذهبن بنا الظن أن الشيخ محمد عبده كان النموذج الامثل لهؤلاء، وان كان الخلاف في وجهات النظر امراً يعد من منطق الاشياء، غير أن المتصور هو الاندكاك بنهج السيد جمال الدين، والمضي فيه حتى النهاية. ورغم كل محاولات التشويه والملاحقة والمضايقة والمراقبة.. فاننا لا نعدم من بين صفوف تلامذة السيد جمال الدين من ظل وفياً حتى الرمق الاخير، وكان عبد الله النديم (1845 – 1896) نموذجاً فذا في الاستقامة على الحق والثبات في مواجهة الاستبداد والبقاء الى جانب استاذه جمال الدين، حتى لقي ربه، في ظروف غامضة، قبيل استاذه بعام. ثمة ملاحظة اخرى ننهي بها البحث، هي إن البعض للاسف، الشديد، مايزال يصر على تجاهل امتدادات السيد جمال الدين في الوسط الشيعي، مع أن افكاره قد فعلت فعل السحر في الاذهان والمشاعر، فمثلا على صعيد الساحة العراقية كان هناك العديدون من رواد الوعي يقيمون علاقات وثيقة مع السيد جمال الدين اما بفعل الزمالة الدراسية يوم كان في النجف او بسبب التأثر – الى حد الاعجاب – بأفكاره وصلابته ووعيه، وفي طليعة هؤلاء: السيد محمد سعيد الحبوبي (1850 – 1915) والسيد هبة الدين الشهرستاني (1884 – 1967) والشاعر عبد المحسن الكاظمي (1876- 1935) ومحمد رضا الشبيبي (1887 – 1966) الخ، وهو الامر الذي دعا احد الباحثين العراقيين الى تأليف كتاب بعنوان »ذكرى الافغاني في العراق«.