موقظ الشرق قراءة في المشروع الإحيائي لجمال الدين عبدالجبار الرفاعي استاذ الفلسفة والأصول في الحوزة العلمية، رئيس تحرير مجلة قضايا اسلامية لم يكن جمال الدين استثناءً من المصلحين والثوار والمجددين الذين تتعرض صورتهم باستمرار للتزوير والتشويه، لأن المصلح والثائر والمجدد يدعو لأفكار غالباً ما تتقاطع والرؤية الساكنة التي ألفها الجمهور بتوارثها جيلاً بعد جيل، وطالما تجاوز هؤلاء الدعوة للأفكار الجديدة فراحوا يعملون على تهيئة شتى الوسائل واستخدام مختلف الأساليب من أجل تغيير الواقع الاجتماعي وتطهيره من المفاهيم التعطيلية المميتة، فينجم عن ذلك موجات عاصفة تثير اهتزازات اجتماعية عميقة وتكسر حالة الصمت وتحدث دوياً هائلاً. آنئذ ينقسم المجتمع الى عدة طوائف، تبرز على السطح منها اثنتان، واحدة تنحاز الى القديم الذي ورثته عن السلف، فيما تلتحق الأخرى بقافلة المصلح او الثائر والمجدد وتتبنى أفكاره الجديدة وتجاهد من اجل اعادة بناء المجتمع في اطار هذه الأفكار وتحريره من مفاهيمه القديمة، بينما تتترس الطائفة الاولى وتقاوم بعنف أية محاولة لمراجعة الماضي وقراءة وتحليل مكونات الرؤية التقليدية، وتوظف كل ما لديها من وسائل لاجهاض مثل هذه المحاولة، ولعل تزوير أفكار المصلح وتشويه صورته واثارة الشبهات حول دعوته هي دائماً أول وأيسر الوسائل التي يتوكأ عليها المنحازون للماضي. وقد كانت شخصية ودعوة السيد جمال الدين الحسيني المعروف بـ (الافغاني) من أوضح المصاديق لذلك، فقلما نجد مجدداً ثائراً في العصر الحديث التبست شخصيته وطمست معالم مشروعه كجمال الدين، وهذا ما نعانيه في اختلاف الناس والباحثين في موطنه ومذهبه ونشأته وتعليمه وسلوكه والسياسي ومحطات حياته ورحلاته، وكل شيء يتصل به، فمثلاً ذهب تلامذته وأصحابه المقربون الى القول بأفغانيته من أمثال الشيخ محمد عبده([128])، وأديب اسحاق([129])، وعبدالقادر المغربي([130])، ومحمد باشا المخزومي([131])، وكذلك الذين كتبوا عنه في تلك الفترة ومن تلاهم من الباحثين العرب من قبيل محمد رشيد رضا([132])، ومحمد فريد وجدي([133])، وجرجي زيدان([134])، وعبدالرحمن الرافعي([135])، وشكيب ارسلان([136])، وعباس محمود العقاد([137])، وعمر ابوالنصر([138])، واحمد امين([139])، وعثمان امين([140])، ومحمود قاسم([141])، وفيليب دي طرازي([142])، وعبدالله عنان([143])، ويوسف سركيس([144])، وفيليب حتي، وجبرائيل جبور([145])، واحمد عطية الله([146])، ومحمد عبدالفتاح([147])، وعبدالوهاب سكر([148])، وحيدر بامات([149])،واخيراً محمد عمارة([150])، ومحسن عبدالحميد([151]). وايضاً نص على أفغانيته مجموعة من الباحثين الغربيين، منهم جولد تسيهر([152])، وتشالرز آدامس([153])، وألفريد سكارن بلنت([154])، وادوارد براون([155])، ولوثروب ستودارد([156])، وادوارد جورجي([157])، وبعض المؤرخين الايرانيين والافغان، مثل محمد القزويني([158])، ومرتضى الجهاردهي([159])، وابراهيم الصفائي([160])، وعباس القمي([161])، ومحمد علي الاستانة([162])، وغلام حسين الموسوي([163]). مقابل هؤلاء وغيرهم ذهبت طائفة اخرى من الباحثين الى القول أن السيد جمال الدين ينحدر من اسرة ايرانية تقطن أسد آباد في همدان، ففي سنة 1889م نشر محمد حسن خان المعروف بـ (اعتماد السلطنة) سيرة موجزة لجمال الدين، ضمن كتاب كبير بعنوان (المآثر والآثار)([164])، ذكر فيها إنه ولد بأسد آباد قرب همدان وكان اعتماد السلطنة وقتئذ مديراً عاماً لدار الطباعة والترجمة، ثم اصبح وزيراً للمطبوعات والترجمة في حكومة ناصر الدين شاه. وفي سنة 1926م نشر في برلين كتاب (شرح حال وآثار سيد جمال الدين أسد آبادي معروف بالافغاني)([165]) بالفارسية، من تأليف شخص اسمه ميرزا لطف الله خان الاسد آپادي، ادعى انه ابن اخت جمال الدين. وفي عدد مايس من سنة 1925 نشرت مجلة المتقطف المصرية نص رسالة مترجمة عن الفارسية ارسلها جمال الدين لأحد اصدقائه الايرانيين، فعلق مترجم الرسالة الى العربية في الهامش بأن (السيد جمال الدين الافغاني، هو في الحقيقة ايراني صميم من بلدة أسد آباد من ولاية همدان بايران) ([166]). وقبل هذا التاريخ بأكثر من عقدين بعث مستشار السلطان عبدالحميد الشيخ ابو الهدى الصيادي ـ أشد أعداء جمال الدين في تأليب الرأي العام ضده ـ برسالة من الاستانة عام 1316 هـ / 1898م لمحمد رشيد رضا بالقاهرة. جاء فيها: (إن جريدتك طافحة بشقائق المتأفغن جمال الدين الملفقة .. وقد ثبت رسماً انه مازندراني من أجلاف الشيعة .. وهو مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية).([167]) واشار المستشرق بروكلمان الى أن جمال الدين (ايراني اخفى ايرانيته لاسباب سياسية)([168])، والى ذلك ذهب المستشرق ماسينيون فكتب انه (ايراني قح) ([169])، ثم ازداد انصار الرأي الذي يذهب الى انتسابه الى اسرة ايرانية بمرور الايام حتى تبناه جميع الباحثين الايرانيين المتأخرين الذين كتبوا عن جمال الدين إلا من شذ منهم([170])، وبموازاتهم دافع عنه غير واحد من الباحثين العرب كالسيد محسن الأمين([171])، والدكتور علي الوردي([172])، والسيد حسن الأمين([173])، والدكتور علي شلش([174])، غير أن هناك أكثر من رواية بهذا الشأن، وإن كانت الرواية الأشهر تؤكد انه ينحدر من اسرة حسينية علوية تقطن أسد آباد بهمدان، بينما تشير غيرها الى أن والد جمال الدين (من أهالي مازندران احدى ولايات ايران وكان ضابطاً في الجيش الايراني أوفدته حكومته الى بلاد الافغان لمهمة، فطابت له السكنى هناك وتزوج وولد له جمال الدين وحمله معه صغيراً الى ايران).([175]) ولا يهمنا كثيراً تمحيص موطن جمال الدين وملاحقة تاريخ اسرته والتنقيب عن جنسيته والبلد الذي ينتسب اليه، وانما ألمحنا الى هذا التضارب بين الباحثين في هذه المسألة كنموذج لعدد لا حصر له من الأحكام المختلفة حول هذا الرجل وأفكاره، والتي ألقت بظلالها على مشروع جمال الدين واكتنفت شخصيته بالغموض واحاطت مهمة الباحث حوله بضباب كثيف يعيقه عن التوغل في آفاق حياة جمال الدين ومشروعه بيسر وسهولة. ومن المؤسف أن يستنفذ طائفة من الباحثين جهوداً واسعة في الانتصار لأفغانيته او ايرانيته، او تحقيق مسائل ثانوية اخرى لا تتصل بوشيجة عضوية بمشروعه الثوري، ولا تسعى لانجاز قراءة تحليلية جادة لأفكاره واصداء دعوته في ارجاء العالم الاسلامي. لقد نأى جمال الدين عن التراب وهمومه المحدودة وتسامى بشموخ وثقة، متخطياً هموم الأقليم المحدود الى الوطن الاسلامي حينما امتد بل تجاوز الهموم الاقليمية المحلية الى التفكير بالشرق بأسره، وتحررت دعوته من الاطار الطائفي المغلق وارتقت نحو آفاق اممية تتسع لتغطية آلام المسلمين في اسيا وافريقيا وآمالهم. فكان يحمل امال الأمة الاسلامية، ويطوف ديار المسلمين منتقلاً من بلد الى بلد، وحيثما حل يرصد المشكلات الاجتماعية والسياسية، ويدرس مظاهر التخلف، ويتأمل في عوامل الانحطاط، ثم يبدأ مهمته في تثقيف الجماهير وتنبيههم على اسباب مشكلاتها، وتوجيه وعيها نحو حلول تلك المشكلات، ولاسيما مشكلة الاستبداد السياسي التي تنبثق عنه الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية، والتي ظلت ثاوية في ضمير جمال الدين، وتفزعه في كل موطن يقيم فيه من ديار الاسلام. ولذلك أصر منذ اول تجربة له في العمل السياسي حتى وفاته على تبني المنهج الثوري في التغيير الاجتماعي، وعدم الاقتصار على المنهج التربوي الاصلاحي، الذي تمسك به ورفض سواه بعض تلامذته والذين خلفوهم. خلافاً لجمال الدين الذي جسد أكثر من تجربة للعمل الثوري في الاقطار الاسلامية التي اقام بها او توغلت دعوته فيها، وظل يغذي الروح الثورية لدى الجماهير حتى آخر لحظة من حياته. ملامح شخصية جمال الدين تنطوي شخصية جمال الدين على جملة أبعاد باهرة أتاحت له الاضطلاع بدور رائد في ايقاظ الشرق من غفوته، فقد التفت تلامذته وأصحابه الذين عاشوا مدة طويلة على تميزه وعبقريته. وبوسعنا القول أن رجال الاصلاح الذين ظهروا في الشرق تجلّى دائماً في شخصياتهم احد بعدين، اما الفكري او القيادي العملي، الا استثناءات نادرة تكامل فيها البعدان في شخصية واحدة، فهذا محمد عبدة تلميذه طفح في حياته البعد الفكري النظري، وهكذا تلميذه محمد رشيد رضا، اما الشهيد حسن البنا فسطع في سمائه البعد القيادي العملي، فكان زعيماً فذاً يستولي على قلوب الجماهير، وكان ذلك احد اهم العوامل في انتشار حركته ونفوذها في حياة المجتمع، اما الشهيد سيد قطب فاشتهر مفكراً غزير الانتاج عكف على تأصيل فقه قرآني حركي تستهدي به الطلائع الاسلامية في فعالياتها الدعوية، غير ان البعدين النظري والعملي اندمجا معاً في شخصية جمال الدين، ففي الوقت الذي عمل فيه على تحريض الجماهير المسلمة على الثورة وخبر اساليب تحريكها، والأخذ بيدها نحو الهدف، واضحى محوراً لالتفاف الجماهير في البلاد التي اقام فيها، كذلك نجده في الوقت نفسه يرسي اسس مدرسة فكرية جديدة، تعمل على تجديد فهم الاسلام، وتأصيل مواقف نظرية للفكر الاسلامي حيال العصر ورهاناته. وربما يحسب بعضهم ان قلة الانتاج الفكري المدون لجمال الدين وزحمة مشاغله وتمحور جهوده على القضايا العملية، يجعل القول بتوفره على قدرة فائقة في التنظير مجانبة للصواب، لكن قراءة آثاره المحدودة بتبصر وامعان تحكي لنا عن غناها باشتمالها على شبكة دقيقة من المقولات التأسيسية والأسس المنهجية التي نهل منها الفكر الاسلامي الحديث. وقد رسم لنا تلميذه محمد عبده معالم صورته ومكانته العلمية لما وصفه بقوله: (كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، او قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله، والرجل في صفاء جوهره، وذكاء مخبره، لم يصبه وهم الواهمين، ولم يمسسه حرز الخراصين .. أما منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدها قلمي إلا بنوع من الاشارة اليها. لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وابرازها في صورها اللائقة بها. كأن كل معنى قد خلق له. وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها. كل موضوع يلقى اليه، يدخل للبحث فيه وكأنه صنع يديه، فيأتي على اطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه، فيظهر المستور منه .. وكفاك شاهداً على ذلك انه ما خاصم أحداً إلا خصمه، ولا جادله عالم إلا ألزمه، وقد اعترف له الاوروبيون بذلك بعدما اقر له الشرقيون. وبالجملة فإني ـ والكلام لمحمد عبده ـ لو قلت ان ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة هو أقصى ما قدر لغير الانبياء لكنت غير مبالغ (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)([176]). وافاض الباحثون في وصف خصاله وبيان صفاته، واتفقوا على ذكائه الفائق وفطنته وغزارة علمه وسعة ثقافته وتنوعها، فكتب عنه جرجي زيدان: (كان حاد الذهن سريع الملاحظة، يكاديكشف حجب الضمائر ويهتك اسرار السرائر، دقيق النظر في المسائل العقلية، قوي الحجة، ذا نفوذ عجيب على جلسائه فلم يباحثه احد في موضوع إلا شعر بانقياد الى برهانه، وربما لا يكون البرهان بحد ذاته مقنعاً، وكان مع ذلك قوي الذاكرة حتى قيل انه تعلم الفرنساوية او بعضها وصار يقدر على الترجمة منها ويحفظ من مفرداتها شيئاً كثيراً في اقل من ثلاثة اشهر بلا استاذ إلا من علمه حروف هجائها يومين).([177]) ولم تلبث معارفه في حدود التراث وعلومه، وانما اطلت على الفكر الاوروبي الحديث بفضل معرفته باللغات الفارسية والعربية والتركية والفرنسية، والمامه بالانجليزية والروسية، واشتهر بشغفه بالكتاب وادمانه على المطالعة (فلم يفته كتاب كتب في آداب الأمم وفلسفة اخلاقها إلا طالعه).([178]) مضافاً الى ذلك تمكن جمال الدين من ناصية الكلام وجزالة القول فكان (خطيباً مصقعاً لم يقم في الشرق أخطب منه)([179]). شاهده شبلي شميل في احد الايام يخطب بالاسكندرية، وكان قريب العهد بمصر (فوقف ساعتين يتكلم بلسان عربي فصيح، والقاء حسن الكلام مفيد، حتى ادهش الناس)([180]). وروى محمد رشيد رضا عن حفني ناصف قائلاً: (حدثني حفني بك ناصف ـ وهو من الرعيل الأول من تلامذة الإمام [ محمد عبده ] ـ قال: كنا إذا قيل لنا: إن السيد [ الافغاني ] سيخطب الليلة، نفضل سماع خطبته على سماع أطرب المغنين، فنؤثرها عليها، حتى كان المدعو منا الى وليمة عرس يترك الإجابة اليها، وكنا نجد من انفسنا من سماع خطبته .. إن الواحد منا جدير باصلاح مديرية أو اصلاح مملكة)([181]). بهذا الاسلوب كان السيد جمال يوقظ العزيمة ويبعث الهمة في روح الجماهير، ويصقعهم برؤاه النافذة ونظراته العميقة للواقع وبيانه المفعم بالشجاعة والثقة والغيرة الملتهبة على الدين وتعاليمه المنتهكة، فإن (حميته الدينية لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله)([182]). واقترنت هذه الحمية والغيرة بروح فداء وتضحية في سبيل الله، فقد كان (شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه)([183]). وكان يبادر لردع اي تجاوز لحدود الله ولا يتوانى في ذلك ولا يتردد، فمثلاً ذكر (بعض خاصته انه سمع رجلاً كبيراً تكلم كلمة في حق النبي، فأمر (السيد) من معه من الافغانيين بضربه، فضربوه حتى خرج يزحف)([184]). وربما عنّف حالات المروق والزيغ الصادرة من بعض الاشخاص بكلمات موجزة تفصح عن حكمة وايمان راسخ، فقد حكى عنه محمد باشا المخزومي الذي سجل لنا مادة هامة من يومياته وخواطره في الاستانة، وقائع مجلس مناظرة في منزل الافغاني بينه وبين رجل جاءه زائراً، فقال الرجل: »إني قرأت كتب الفلاسفة فثبت لي إن الله غير موجود ولا يعقتد به إلا حيوان، فضاق صدر السيد، ولم يجبه، ودعا الحاضرين الى حديقة البيت، وكان فيها انواع من الطيور والدجاج، فتصايحت الديكة وغردت الطيور، فقال السيد: (كيف لا يفضل اضعف حيوان اعجم يذكر الله انساناً ناطقاً ينكر وجود الله؟! كيف يجرؤ على انكار واجب الوجود من يأكله الدود؟! إذا لم يتعض الانسان بما فوقه من أجرام فليتعظ بما تحته من رفات الاجسام!). فخرج الرجل الملحد خجلاً من غير أن يودّع«([185]). هكذا كان يقرع أسماع من ينتهك المقدسات ببيان يشف بالحكمة ويكشف ضعف الانسان وعجزه في هذا العالم الفسيح المترامي الاطراف. أما عبادته فقد أكد معظم الذين كتبوا عنه مثابرته الشديدة على اداء الفرائض([186])، وتجذر النزعة الصوفية في نمط حياته([187])، فقد كان يكتفي بوجبة طعام واحدة في النهار([188])، يتناول فيها أبسط ما يؤكل، ومع ما عرف عنه من سخاء وكرم مع ضيوفه الذين يقدم لهم مائدة فخمة، يعبر عنها هو بأنها (مائدة سلطانية) غير انه (كان يقنع بلقيمات من الخضروات او المخللات)([189]). كذلك لم يعبأ بنوع لباسه مع حرصه على نظافته دائماً، فبالرغم من كثرة اسفاره وتجواله الدائم بين البلدان لكنه لم يصطحب معه حتى حقيبة صغيرة يحتفظ بها بثياب اضافية او مستلزمات اخرى، مما اثار ذلك في احدى زياراته للاستانة فضول مبعوث السلطان عبدالحميد الذي كان في استقباله عندما وفد الى الاستانة سنة 1892م بدعوة من السلطان، فسأله المبعوث: (اين صناديقك ايها السيد؟! فقال: ليس معي غير صناديق الثياب وصناديق الكتب، فقال (المبعوث): حسناً! اين هي؟ فقال السيد: صناديق الكتب هنا (واشار الى صدره) وصناديق الثياب هنا (واشار الى جبته))([190]). إن مسألة عدم اكتراث جمال الدين بلباسه واهماله بهذا النحو يشابه سلوك المتصوفة الذين يضمحل اهتمامهم بالظاهر، ويتوغلون في عالم الباطن لتطهير الروح وتزكيتها من الارجاس، من هنا يمكن فهم هذا السلوك الذي عبر عنه بقوله: (كنت في اول عهدي استصحب جبة ثانية، ولكن لما توالى النفي صرت استثقل الجبة الثانية، فأترك التي علي الى ان تخلق فأستبدل بها غيرها)([191]). وإن كان هذا لا يعني اقتباس السيد جمال الدين التجربة المتصوفة بحذافيرها وتقليد سلوكهم في العزلة والانزواء عن المجتمع، وإنما كان جمال الدين في عبادته وارتياضه الروحي متنسكاً على طريقة المتصوفة، لكن لم يحجبه ارتياض المتصوفة عن حمل مشعل الثورة وتحريض الجماهير على الطواغيت في منافيه العديدة، فظل يخوض غمار الحياة الاجتماعية ويغور في لججها على الدوام، لأن الثائر الذي يخوض صراعاً عنيفاً مع الطواغيت اشد الناس حاجة الى النسك والارتياض([192]). ويعود الفضل لتنسك جمال الدين وعبادته في انتهاجه اسلوباً في العمل السياسي يلتزم بالوصول الى الحق عن طريق الحق، تجسيداً لخطى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فقد كان (أشبه الناس في سياسته بعلي لا بمعاوية، كانت سياسة معاوية عنوانها: (أنا لا نصل الى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل، أما علي فلا يريد الخوض في الباطل ليصل الى الحق، بل لا يريد إلا الحق من طريق الحق وإلا فلا)([193]). ولولا عبادة جمال الدين وارتياضه لانزلق عن الحق مثلما ينزلق كل الذين يخوضون لجج السياسة من دون تقوى. محطات حياة جمال الدين دخل العالم الاسلامي في القرن التاسع عشر مرحلة انحطاط، ذبلت فيها مظاهر الحياة في المجتمعات الاسلامية، وتراجع دور العقل، وتلبس الدين بالعديد من البدع والخرافات التي حجبت صورته الاصلية وطمست معالمه المقدسة، واستنفذت طاقة المسلمين وحيويتهم في طقوس ومفاهيم لا تتصل بحياتهم ومشكلاتهم، ولا تنبثق من جوهر الدين والوحي المحمدي. وتبلور ذلك كله في مجموعة امراض حضارية مزمنة استحالت اثرها الأمة المسلمة الى جثة هامدة لا حياة فيها، فمهد ذلك لنفوذ الاستعمار الاوروبي وتغلغله بالتدريج حتى بسط هيمنته على معظم ديار المسلمين، وأحكام سيطرته على ثرواتهم، وتسلط على حياتهم ومؤسساتهم التقليدية بمختلف أشكالها، وصار يعمل على تفتيت ما تبقى منها، ويبقي بموازاتها نماذج بديلة تحكي مفاهيمه وحضارته. في هذا الواقع ابصر السيد جمال الدين النور عام 1838، وتلقى تعليمه الأولي على يدي أبيه ثم تنقل بين عدة حوزات علمية، بدءاً بحوزة قزوين مروراً بحوزة طهران فالنجف الاشرف، ومكث في الاخيرة اربع سنوات، ثم غادرها عام 1856م بعد أن اثيرت ضجة حول افكاره، فنصحه استاذه بمغادرة النجف. ومنذ ذلك الحين عاش جمال الدين متنقلا من بلد الى بلد، ففي الاعوام 1866 – 1868م مكث في افغانستان، ولمع نجمه فيها كناشط سياسي في صناعة الاحداث، وانتهى به المطاف الى تسنم الوزارة، وبعد ذلك نفي منها. ووصل الى بومباي بالهند وأقام فيها عدة أشهر، من كانون الاول »ديسمبر« 1868 الى نيسان »ابريل« 1869م، ثم سافر الى القاهرة، وبقي فيها مدة اربعين يوما، وغادرها الى الاستانة وأقام هناك حتى مطلع عام 1871م، وابعد منها بسبب تأليب الشيخ ابوالهدى الصيادي للرأي العام عليه، لما القى خطابا في دار الفنون، فوصل القاهرة في نيسان »ابريل« 1871م وقضى فيها تسع سنوات، أضحت اخصب مرحلة في حياته، وتمخضت عن منجزات هامة ظلت مصر بل والبلاد العربية مدينة لها الى اليوم، وفي 24 آپ »أغسطس« 1879م نفي من مصر، فأبحر صوب الهند ورسا في بومباي اواخر عام 1879م، وتنقل بين بومباي وحيدراباد وكلكتا، وهناك ألف بالفارسية كتابه »الرد على الدهريين«، وابحر من الهند في تشرين الثاني »نوفمبر« 1882م ووصل لندن في كانون الثاني »يناير« 1883م عبر قناة السويس، حيث توقف في بورسعيد، وكتب رسائل الى اصحابه بمصر، ومن لندن وصل الى باريس مطلع عام 1883م وأسس هناك »جمعية العروة الوثقى« التي أصدرت مجلة »العروة الوثقى« ، ثم غادر باريس في تموز »يوليو« 1885م، وحل ضيفاً على بلنت في لندن الذي استضافه في بيته حتى تشرين الثاني »نوفمبر« 1885م، واخيراً انتهى به المطاف الى ايران فرسا في بوشهر في مايس »مايو« 1886 ولبث هناك الى آپ »أغسطس« 1886م فبلغ طهران نهاية تلك السنة عبر شيراز واصفهان، وفي نيسان »ابريل« 1887م غادر طهران – بعد أن ضاق به ناصر الدين شاه ذرعا – الى موسكو التي أخلد فيها بضعة أشهر، ومنها ذهب الى سان بطرسبرج بروسيا، فاستقر هناك من شباط »فبراير« 1888م الى منتصف عام 1889م، ومنها سافر الى ميونخ بالمانيا ثم عاد الى روسيا في نفس العام، وعاد الى طهران مرة اخرى في اواخر هذا العام، بناء على دعوة من ناصر الدين شاه، وبعد عدة أشهر تلبدت الاجواء في طهران وحدس جمال الدين وقيعة ناصر الدين به، فتحصن بمقام شاه عبد العظيم الحسني في تموز»يوليو« 1890م ولبث فيه حتى طرد منه في كانون الثاني »يناير« 1891م، وجرى تهجيره بطريقة شنيعة قاسية الى العراق مرورا بكرمانشاه، فانتهى الى بغداد في آذار »مارس« 1891م ومنع من زيارة العتبات المقدسة في العراق، واستقر بالبصرة الى صيف 1891م، ومنها شخص الى لندن التي أقام فيها الى مطلع صيف 1892م، وجهر بصوته ضد فساد ناصر الدين شاه واسبتداده، فسعى ناصر الدين شاه الى السلطان عبد الحميد كي يدعوه الى العاصمة العثمانية، فدعاه عبد الحميد ورغب اليه أن يساعده في مشروع »الجامعة الاسلامية« التي هي احد مرتكزات مشروع جمال الدين الاحيائي، فنزل على رغبة السلطان ووصل الاستانة صيف 1892م، وقطن فيها مرغماً في المحبس »الذهبي« تحت أعين السلطن الى وفاته 9 آذار »مارس« 1897م([194]). معالم المنهج الاحيائي لم يكن تجوال جمال الدين بين البلدان عفوياً او نابعاً من هواية السياحة والاسفار مثلما يفعل الكثير من الناس، بل كان جمال الدين ينفى ويهجر مرة تلو الاخرى، وقلما سافر طواعية الى بعض البلدان، وعادة ما تقع مثل هذه الاسفار في اطار مشروعه الاحيائي. ومما يلفت النظر أن منافي جمال الدين لم تعد كمنافي اللاجئين السياسيين التي غالبا مايخلدون فيها للراحة وينفصلون بمرور الزمن عن قضيتهم، وان ظل بعضهم وفياً لقضيته، فغالبا ما تستحوذ هي على تفكيره ومشاغله، فتحول بينه وبين الانخراط في المشكلات السياسية والاجتماعية التي تعانيها الجماهير في منفاه، بينما تميّز جمال الدين عن غيره في انه كلما ابعد من قطر الى آخر، يبادر فور وصوله الى منفاه الجديد بتبني قضايا هذا الشعب الكبرى، وينخرط في الدفاع عن مظلومية ابنائه، ويعمل على مقاومة الاستبداد السياسي ، مما يستتبع دائما اندلاع حركة مقاومة تبدأ بالنمو تدريجياً حتى تفضي خاتمة المطاف الى الثورة، التي يقودها ويوجهها جمال الدين، فيما يبرز على الواجهة في القيادة الميدانية واحداً من رجاله، لان جمال الدين تبعده السلطات قبل اوان الثورة دائما، فبمجرد احساسها بتصاعد حركة المقاومة تعمد الى نفي جمال الدين الى قطر آخر، كما نرى ذلك بوضوح في ثورة عرابي باشا في مصر([195]). وهكذا تقلب جمال الدين من بلد الى آخر من دون أن يكبو او يقنط او يتمهل، وفي غمرة استغراقه بمشاغل المقاومة وانهاض الامة وتنويرها، كانت تتبدى يوما بعد آخر مرتكزات مشروعه العظيم لاحياء العالم الاسلامي، وتتكشف شيئا فشيئا معالم منهجه الاحيائي، واطروحته في تجديد الفكر الاسلامي التي نهلت منها »معظم الحركات الدينية الاسلامية التي ظهرت في العالم الاسلامي حتى الحرب العالمية الاولى، اما المفكرون المسلمون الذين عاشوا بين الحربين فقل أن أفلت احد منهم من تأثيره او الهامه او توجيهه او الاحالة اليه«([196]). وليس من المبالغة القول ان غير واحدة من المقولات الاساسية في الفكر الاسلامي الحديث ترتد الى افكار جمال الدين، وتنبثق من فهمه الجديد للدين ووظيفته في حياةالانسان. وبغية التدليل على هذه الدعوى نوجز الكلام في معالم هذا الفهم ومرتكزاته الاساسية: أولا: الفهم الاجتماعي للاسلام شاع بين المسلمين في عصور الانحطاط فهم ملتبس للدين الاسلامي راح يجرّد الاسم من آثاره الاجتماعية ويحيله الى مجموعة ممارسات طقوسية ساكنة منفصلة عن الحياة، وتمتص فاعلية المسلم وتوجه طاقته نحو عوالم اخرى تنأى به عن واقعه وآلامه وآماله، وأفرغت العبادات من مضامينها الاجتماعية، فلم تعد الصلاة مثلا (تنهى عن الفحشاء والمنكر)، واضحى العابد من يمارس غير واحدة من الصلوات المأثورة، ويقرأ جملة أوراد واذكار آناء الليل واطراف النهار، من دون أن تجد لها مدلولا في سلوكه ومعاملاته مع الآخرين. في ظل هذا الفهم طلع جمال الدين على المسلمين بتفسير مختلف لوظيفة الدين في الحياة، ينبع هذا الفهم من روح القرآن الكريم والسنة الشريفة، أكد في هذا التفسير ان تحقيق السعادة والامن في المجتمع يتوقف على تجسيد الدين في الحياة، لان قوام حياة الامة بالعقائد والاخلاق التي يمنحها الدين للمجتمع، فقد »أكسب الدين عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع نفوسهم ثلاث خصال، كل منها ركن لوجود الامم، وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية، وأساس محكم لمدنيتها، وفي كل منها سائق يحث الشعوب والقبائل على التقدم لغايات الكمال، والرقي الى ذرى السعادة، وفي كل واحدة وازع قوي يباعد النفوس عن الشر، ويردعها عن مقارنة الفساد، ويصدها عن مقاربة ما يبيدها ويبددها«([197]). والعقائد الثلاث هي: الروح الملكوتية الالهية للانسان التي جعلته اشرف المخلوقات، والهوية العقائدية للامة المتمثلة بالتوحيد، والايمان بالعالم الآخر. »وينشأ منها ثلاث خصال اخلاقية هي: الحياء، والامانة، والصدق. تلك هي اسس سعادة المجتمع، واركان حياة الامة وعوامل تقدمها«([198]). إن مراجعة آثار جمال الدين تفصح عن ممارسته للفهم الاجتماعي للدين، والذي يتجلّى بوضوح في مايلي: أ- المدلول الاجتماعي للعقيدة كان للفصام النكد بين العقيدة والحياة الاجتماعية آثار معيقة ساهمت مساهمة اساسية في تخلف الامة وتداعي مقوماتها الوجودية، فان حبس عقيدة التوحيد في دائرة العقل فقط، ينجم عنه افقار شديد للروح، وانقطاع الصلة بين الايمان والحياة، بينما اعتبر القرآن الكريم التوحيد من معطيات الفطرة، ومثلما ينير التوحيد الوعي فانه يضيء الحياة، حين يتجسد بصورة عمل صالح([199]). ويعود الفضل لجمال الدين في تجلية هذه الحقيقة، فقد »وطن جمال الدين نفسه على التدليل على أن الفاعلية الاصلية لعقيدة التوحيد هي فاعلية اجتماعية تمدنية«([200])، وان آثاره المحدودة تحكي لنا ذلك، اذ يصرح في رسالته »الرد على الدهريين« بأن الايمان بالله والاعتقاد بيوم الجزاء المرتكز الذي يستند اليه الأمن الاجتماعي، والمنهل الذي تستقي منه العلاقات الاجتماعية صورتها المثلى »وبدون هذين الاعتقادين،لا تقرر هيئة للاجتماع الانساني، ولا تلبس المدنية سربال الحياة، ولا يستقيم نظام المعاملات، ولا تصفو صلات البشر من شائبات الغل، وكدورات الغش. فلو خليت القلوب من هاتين العقيدتين، لسكنتها الشياطين الرذائل، وسدت عليها طرق الفضائل، ومن أين لمنكر الجزاء أن يكف نفسه عن خيانة، او يترفع عن كذب وغدر وتملق ونفاق«([201]). اما الاعتقاد بالعدل الالهي فيجد مدلوله الاجتماعي في فكر جمال الدين بوضوح، لان العدل في نظره »اساس الكون وبه قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم.. العدل هو الحكمة التي امتن الله بها على عباده، وقرنها بالخير الكثير فقال: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثرا) هي مظهر من أجلّ مظاهر صفاته العلية، فهو الحكم العدل، وهو اللطيف الخبير([202]). وهكذا أبرز جمال الدين البعد الاجتماعي للاعتقاد بالقضاء والقدر، فجعله منطلقاً للثورة، ورفضاً للمذلة والهوان، واطلاقاً لقوى الجماهير الحبيسة، وزعزعة الخوف من نفوسها، فعقيدة القضاء والقدر لا تؤدي الى القبول بل الى الرفض، ولا تبعث على الاستكانة والرضى بل تبث روح النضال والثورة([203])، ومن يؤمن بهذه العقيدة »كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه واعلاء كلمة امته، او ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك؟ وكيف يخشى الفقر من ينفق من ماله في تعزيز الحق، وتشييد المجد، على حسب الاوامر الالهية، وأصول الاجتماعات البشرية«([204]). في ضوء ذلك يتجلى ان جمال الدين لم يهدف الى استئناف الاعمال العتيدة للمتكلمين المسلمين، وانما سعى لاعادة بناء علم التوحيد واستكشاف الفاعليات المختلفة التي تختزنها العقيدة. ب – التفسير الاجتماعي للقرآن الكريم نجم عن عصور الانحطاط التي عاشها المسلمون تهميش لموقع القرآن الكريم في الحياة الاسلامية، حتى افضى الموقف في خاتمة االمطاف الى هجر القرآن وانطفاء جذوته في وجدان المسلم، وبموازاة ذلك تبلورت جملة أساليب مبتدعة في التعاطي مع كتاب الله تعالى، فبينما لجأت طائفة من الناس لاستخدام سوره وآياته المقدسة في الرقى والتعاويذ فقط، قامت طائفة آخرى باختراع طريقة سلبية والاستناد الى ادوات مختلفة وعلوم غريبة في تحديد مداليله، فمثلا استعان بعضهم بالطلسمات وعلم الحروف وغيرها من التمارين الذهنية في تفسير الايات الكريمة، واتخذت حياة المسلمين لنفسها مسارا لا يلتقي بكتاب الله ولا يعرف كيفية الافادة منه في معاركهم وجبهاتهم العديدة مع التخلف الاجتماعي والاقتصادي والاستبداد السياسي في الداخل، ومع الاستعمار ورجاله في الخارج. وغرب النور الذي يبصر به المسلم واقعه([205]) ويكتشف من خلاله طبيعة التحديات والمشاكل التي تكتنف حياته واقصر الطرق في حلولها. في هذا الواقع انطلق المشروع الاحيائي لجمال الدين، فانعطف صوب القرآن، واستند اليه كمرجعية يصدر عنها في دراسة واقع المسلمين والتبصر بمشكلاته وأمراضه، وفي تحديد الوسائل والادوات اللازمة لتقويم هذا الواقع وبناء المقومات الاساسية لايقاظه ونهوضه. فزحف كتاب الله من جديد ليستعيد موقعه في تنمية وعي الامة، وتطهير أفكارها من الاوهام، وتوجيه طاقاتها نحو التحديات المتنوعة التي تحيط بها. وأصبح القرآن من جديد أضرى سلاح في مقاومة الاستعمار والاصلاح السياسي والاجتماعي بعد ان لبث مدة طويلة مهجورا. وكان جمال الدين أول مفكر مسلم في العصر الحديث يؤكد بصراحة أن السبيل الوحيد لنجاة الاسلام والمسلمين هو بالعمل باحكام القرآن وتطبيقها تطبيقاً دقيقاً([206]). من هنا »لابد اذن من بعث القرآن، وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور، وشرحها على وجهها الثابت، من حيث يأخذ بها الى مافيه سعادتهم دنيا وآخرة«([207]). وشرح جمال الدين ما تهدف اليه دعوته لبعث القرآن واشاعة وصاياه بين الجمهور، بكونها محاولة لانجاز فهم جديد لعقيدة التوحيد ومايتفرع عليها من مفاهيم عقائدية، وهذا لا يتأتى الا »بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها، مثل حملهم نصوص القضاء والقدر على معنى يوجب عليهم أن لا يتحرموا الى طلب مجد او تخلص من ذل! ومثل فهمهم لبعض الاحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان او قرب نهايته، فهماً يثبط هممهم عن السعي وراء الاصلاح والنجاح، مما لا عهد للسلف الصالح به!« ([208]). وتنبه جمال الدين باكرا الى العلة التي حالت بين المسلمين وصياغة تفسير اجتماعي للقرآن الكريم يواءم مستجدات الزمان ويستجيب لرهانات العصر، ورأى أن هذه العلة تكمن بتقديس التفاسير الكثيرة التي تراكمت حول النص القرآني عبر مختلف عصور الحضارة الاسلامية، وحملت ملابسات الزمان والمكان وعقيدة المفسر ورؤيته المبثقة من بيئته الخاصة وما تمور به من اسئلة ومعارف لا تتجاوز الفضاء الداخلي للبيئة. فحين يتعامل البعض مع رأي المفسر كما يتعامل مع الوحي، يتحول هذا الرأي الى نص ثان يطمس النص الاول »القرآني« ويحول دون استنطاقه واستيحاء دلالاته المتجددة. لقد حذر جمال الدين من الخلط بين النص القرآني »وما تراكم عليه، وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطاتهم ونظرياتهم«، ووضع حداً فاصلاً بين آراء الرجال هذه والنص القرآني، وبلور منهجاً واضحاً للتعاطي مع الثاني (كوحي) والاول الذي »نستأنس به كرأي« فحسب، ولذا يجب أن »لا نحمله على اكفا مع القرآن«([209]). ولم يتوقف جمال الدين عند هذا الحد بل عمل على تطبيق منهجه هذا على الايات الكريمة التي كان يستهل بها مقالاته في مجلة »العروة الوثقى« والتي تدور حول قضايا الامة الاسلامية وهمومها، كقضية التخلف والانحطاط الحضاري، وغلبة الاستعمار وهيمنته على ديار الاسلام، والعجز النفسي وذبول العزيمة، والانبهار وعقدة الحقارة حيال الآخر. وحينما نطالع مجموعة أعداد مجلة العروة الوثقى يلوح لنا اسلوب جديد في التفسير انتهجه جمال الدين ، لا نرى ما يماثله لدى من سبقه او عاصره من المفسرين، ذلك أن جمال الدين عمل على استلهام الرؤية السياسية والموقف من الاحداث من روح القرآن الكريم، وهكذا كرر هذه التجربة في كل قضية اجتماعية او غيرها طرقها في مقالاته، فقد تصدرت مقالات جمال الدين في العروة الوثقى آيات قرآنية، وتدلت المفاهيم والرؤى المنبثة في كل مقال من معين الآية التي يستهله بها، وما يتصل بها من آيات تضيء مدلول تلك الآية، فأضحى المقال تفسيرا باسلوب مختلف للاية، تفسيرا لا يتورط في نقض وابرام أقوال المفسرين والاستغراق في متاهات لفظية لا تتصل بالحياة الاجتماعية، وانما هو تفسير اجتماعي يقنن مواقف المواطن والامة المسلمة حيال قضاياها الحياتية المتنوعة، ويصوغ رؤيتها من منظور القرآن، فمثلا افتتح مجلة العروة والوثقى بقوله تعالى: (ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير) ([210])، وفي المقال الذي يليه بدأ بالآية (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) لما تحدث عن (ماضي الامة وحاضرها وعلاج عللها) ([211])، وفي معرض حديثه عن (انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك) استهل مقاله بالآية (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) ([212])، وفي مقال (رجال الدولة وبطانة الملوك) قدم له بالاية (يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا..) ([213])، وأورد الاية (الم، احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) في كلامه حول (امتحان الله للمؤمنين) ([214])، ولما بحث (سنن الله في الامم وتطبيقها على المسلمين) جاء بالآية (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)([215]). وعندما بحث اثر الخوف في هزيمة الامة وذوبانها تحت عنوان (الجبن) جاء بالآية (اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، قل إن الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم) ([216]).. وفي بيان موقف (الامة وسلطة الحاكم المستبد) استوحى الاية (وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون) ([217])، وحين نفح في الامة (الامل وطلب المجد) استهلم افكاره من (انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون) (ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون)([218]). هكذا دأب جمال الدين على استيحاء رأي كتاب الله في مشكلات الامة وحلولها([219])، فباشر بذلك تجربة رائدة في رسم أسس (التفسير الاجتماعي للقرآن) ([220]) وتدشينه في خطابه النهضوي. واستأنف لاحقاً تلميذه الشيخ محمد عبده الامتداد بتجربة استاذه في اسلوب التعامل مع التراث التفسيري ومنهجه في الكشف عن المداليل الاجتماعية لكتاب الله، وهو ما يتجلى في رسالة سياسية بعث بها محمد عبده الى احد أعضاء جمعية العروة الوثقى، يكتب فيها »وحاذر النظر الى وجوه التفاسير الا لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، او ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب الى ما يشخصك القرآن اليه، واحمل بنفسك على ما يحمل عليه، وضم الى ذلك مطالعة السيرة النبوية، واقفاً عند الصحيح المعقول، حاجزا عينيك عن الضعيف والمبذول«([221]). وانتهج محمد عبده في تفسيره اسلوبا (طبق فيه منهج استاذه الافغاني)([222])، ونفذ هذا المنهج في بعض التفاسير المؤلفة بعد هذه الفترة([223])، واكتسى حلة اخرى حين توكأ عليه مفسرون عظام انجزوا مشاريعهم التفسيرية في فضاء الدعوة الى الله وشجونها وكرباتها، فاستفاق وعيهم لما تغذى من منهل القرآن، وحمل بين يديه هموم الدعوة، وتبلور ذلك في رسم شخوص الدعاة وتحديد مسارهم واهدافهم في هدي القرآن. غير إن سائر التجارب المتاخرة في التفسير التي أفادت من جمال الدين اجتزأت منهج التفسير الاجتماعي واستبعدت بعض أبعاده، فيما أكدت بعضها الآخر فحسب، ذلك ان مشكلاتها تمحورت في اطار وشؤون وشجون الدعوة، فاستنفذت التفسير في مدياتها، بينما عطلته في مديات تمدينية اجتماعية اخرى. ثانياً: التفسير السنني لنهوض الامة وانحطاطها تنبه المؤرخ المسلم ابن خلدون منذ عدة قرون الى مجموعة القوانين والسنن التي تضبط المسار الحضاري للامة وتتحكم في نصرها وهزيمتها، وتقدمها وتخلفها، ونهوضها وانحطاطها، وخلص الى أن الاجتماع البشري في شبكة علاقاته المتشعبة وظواهر حياته المتنوعة، يخضع في ذلك كله لعلل محددة فأية ظاهرة اجتماعية تنبع من سلسلة اسباب وترتبط في بقائها واندثارها بتلك الاسباب وجوداً وعدماً، وانما نجح المسلمون في القرون الاولى في انجازاتهم الحضارية الباهرة لانهم سلكوا سبيل الاسباب التي انتهت بهم الى تلك المنجزات، ولما اضطربت رؤية المسلم وتبلد وعيه لم يستطع ادراك الاسباب وقراءة السنن، فانكفأت الحضارة الاسلامية بعد ان تهشمت مقومات وجود الامة، ودخل المسلمون عصور الانحطاط. وطيلة هذه العصور لم ينتج العقل المسلم قراءة جديدة للسنن تستأنف قراءة ابن خلدون، بل أهملت هذه القراءة نفسها ولبث كتاب »مقدمة ابن خلدون« منذ تأليفه الى القرن التاسع عشر ملقى على رفوف المكتبات وبات كأي عمل من الاعمال الهامشية المهجورة، ويبدو ان دخول الامة مسار الانحطاط يرافقه تبلدا في رؤيتها، فتنهار معاييرها الفكرية وتغرق حياتها الثقافية بسلسلة من القيم المزورة، التي تخفي ابداعها وذخائرها الفكرية، خلافا للامة التي تواصل مسار النهوض والبناء، فانها تقرأ بعمق تراث السلف وتقتبس وتجدد ما يلزمها في نهضتها، وقد ظل التفسير السنني الخلدوني ثاوياً في ثنايا الكتب كغيره من الذخائر الفكرية، ولم تبذل اية جهود للعودة اليه واحيائه حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقتئذ سطع نجم جمال الدين في سماء المسلمين، وأطل على الامة بمشروعه الاحيائي ، فاستفاق على يده هذا التفسير، وراح يعمل على اغنائه بتطبيقات معاصرة في الاجتماع الاسلامي. وخصّ لهذه المسألة اكثر من مقال في العروة الوثقى، مضافاً الى الاشارات والتطبيقات السننية في تمام كتاباته، غير ان ابرز ماكتبه في ذلك هو بحث معمق بعنوان »سنن الله في الامم وتطبيقها على المسلمين«([224]) ذكر فيه (ان الله سبحانه وتعالى بحكمته قد وضع لسير الامم سنناً متبعة، قال: »ولن تجد لسنة الله تبديلا« ارشدنا تعالى في محكم اياته الى ان الامم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحي اسمهامن لوح الوجود، الا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على اساس الحكمة البالغة، ان الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان، ورفاهة، وخفض عيش، وأمن وراحة، حتى يغير اولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر واشراق البصيرة، والاعتبار بافعال الله في الامم السابقة، والتدبر في احوال الذين حادوا عن صراط الله فهلكوا، وحل بهم الدمار، ثم الفناء لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحزم والحكمة. حادوا عن الاستقامة في العمل، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصره والتعاون على حمايته. تركوا الحق ولم يجمعوا هممهم على اعلاء كلمته، واتبعوا الاهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية، واتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين، هكذا جعل الله بقاء الامم ونماءها في التحلي بالفضائل التي اشرنا اليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الامم، ولا تتبدل بتبدل الاجيال، كسنته تعالى في الخلق والايجاد، وتقدير الازراق، وتحديد الآجال)([225]). وأكد في معرض حديثه عن »حقيقة الاستعمار«([226]) إن: (لحياة الأمم والدول ادوار وآجال، ولحدوثها وتكونها، وتعاليها، ثم توقفها وانحطاطها، اسباب وعوامل.. متى ضعف ماكان سبباً في الصعود، يحصل الهبوط والانحطاط، ومتى زال ماكان سبباً في السقوط، يحصل الصعود، دور للحاكم والمحكوم، وقاعدة هي بحكم اللازم والملزوم)([227]). وفي ضوء هذا التفسير السنني للنهوض والانحطاط، اوضح جمال الدين ان (حقيقة الاستعمار تعبّر عن سنة ثابتة في حياة الامم، حيث تتغلب الشعوب القوية العالمة على الاخرى الضعيفة الجاهلة، لان (القوة والعلم يحكمان ويتحكمان بالضعف والجهل، سنة ثابتة وقانون متبع في الكون) ([228]). وتتكرر تطبيقاته لفقه السنن عند حديثه عن مختلف قضايا المسلمين ومشكلاتهم، فمثلاً يصرح ان ماهية الظلم لا تتبدل وان سعى الظالم لتغيير قشرته الخارجية وتبديل اسمائه، وهكذا القول في الخيانة فان خونة الاهل والاوطان لا تتبدل حقيقتهم مهما حاولوا تلميع صورهم والاعلان زوراً وبهتاناً عن صدق طويتهم، والامر كذلك في المجاهدين في سبيل اوطانهم الناهضين من اجل تخليص امتهم، وخلص الى أن هذه »سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً«([229]). وفي مورد آخر صاغ قانون »السعي« وكشف عن تحكمه بانتصار الامة وهزيمتها، ذلك ان النصر يصنعه سعي الابناء وليس التفاخر بامجاد وفتوحات الآباء التي طواها التاريخ. فان الابناء (لو عملوا بالقانون الالهي، وبقوله »وان ليس للانسان الا ماسعى« لكان أوفر خيرا للامة ، والسعي أدل السبل على النجاح) ([230]). ولانجد في هذا المقال متسعاً لرصد مجموعة الصياغات والتطبيقات السننية في آثار جمال الدين، وسنكتفي بالنماذج السالفة لعلها تضيء هذا البعد المجهول في فكر هذا الرجل، مع العلم إن مراجعة عاجلة لما كتب جمال الدين تكشف بجلاء عن السنن التي عمل على صياغتها، ومن ثم طبقها على غير واحدة من هموم الامة الكبرى، واسباب الانحطاط التي شخصها، وسبل نهوضها واحيائها وانخراطها من جديد في مسار التقدم التي ارشد اليها. وفي فترة لاحقة نهض تلميذه محمد عبده لتطوير هذا المنحى في فكر استاذه، فتوسع في بيان جذور السنن في القران الكريم من خلال التفسير الذي بدأ بتدريسه ثم دونه ونشره وتواصل معه تلميذه محمد رشيد رضا، ولم يقتصر محمد عبده على ذلك بل دعى لتدوين علم جديد يعنى بفقه السنن، ووجدان متطلبات العصر تسوغ تدشين أسس هذا العلم، فكما أن حاجة الامة في الماضي بررت تدوين علم الاحكام وعلم العقائد وغيرهما، كذلك تدعو حاجات هذا العصر لتدوين علم (لك أن تسميه علم السنن الالهية او علم الاجتماع الديني او علم السياسة الدينية، سمّ بما شئت فلا حرج في التسمية) ([231]). حسب تعبير محمد عبده. ثالثا: فتح باب الاجتهاد كان اغلاق باب الاجتهاد وحصر المذاهب الفقهية بأربعة خاصة، من الظواهر الفكرية الخطيرة التي عملت على تعطيل حركة نمو الفقه وبالتالي تقهقهر كافة المعارف الاسلامية ذات الصلة الوشيجة بالفقه، فلما توقف العقل الفقهي توقف معه ايضا العقل الاصولي، وهكذا اضمحل الابداع، في العلوم الشرعية الاخرى، وانتقلت وظيفة العلم الشرعي من الابداع والبناء الى الجمع والتكديس، وتبعاً لذلك تراجع حضور الشريعة في الحياة الاجتماعية والسياسية للمسلم، لقصور الفقه الموروث عن الوفاء بمستجدات هذه الحياة. وبموازاة ذلك عمل الفقهاء على ترسيخ مفهوم التقليد وقمع كل محاولة لتجاوز أفق رؤية السلف، فحبس العقل المسلم في مدارات الموروث فحسب، وصار يكرر نفسه، بل ربما غادر الحاضر متوغلاً في هموم الامس التي اخرجها الزمان من التداول. وكان لشيوع نزعة التقليد والتعسف في توظيف الفقه التقليدي اثر بالغ في تعميق الصراعات المذهبية وتأجج الخصومات الطائفية وذوبان وشائج الاخوة الاسلامية يوماً بعد يوم. ومع أن بعض الفقهاء بادروا للاعلان عن ضرورة فك الحصار عن العقل الفقهي وباشر غير واحد منهم تجارب موفقة في الاستنباط، غير أن تغلب نزعة التقليد لدى العلماء كان يحول بين هذه التجارب وبين بلوغها مدياتها المترقبة، فانطفأت أو أجهضت معظمها وهي لما تزل في طورها الاول، وتحول تقليد آراء السلف بالتدريج من احترام وتقدير الى انبهار وتقديس، حتى راجت شعارات واقوال جرت مجرى الامثال، من قبيل »لم يترك الاول للاخر«، واستحالت فتاوى الاول الى نصوص مقدسة بمثابة القران الكريم وصحيح السنة الشريفة. لكن جمال الدين نبذ التقليد([232])، واعلن عن قصور فقه السلف بالوفاء بحاجات العصر، واصر على ضرورة (أن تتمشى احكام الاسلام وتتلاءم تعاليمه مع ظروف كل زمن وحاجاته، خوفاً عليه من الزوال) ([233]). وناهض بشدة غلق باب الاجتهاد وأبان تخلف وعي الذاهبين لهذا القول ودحض منطقهم، فقال (ما معنى باب الاجتهاد مسدود، وبأي نص سد، او أي امام قال لا يصح لمن بعدي ان يجتهد ليتفقه في الدين، ويهتدي بهدى القران وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه؟!) ثم يشير بعد هذا الاستفهام الاستنكاري الى ان القدماء لم يستنفذوا مداليل كتاب الله، لان معاني القرآن لا تنضب، فيقول (ان الفحول من الائمة اجتهدوا واحسنوا، ولكن لا يصح ان نعتقد انهم احاطوا بكل اسرار القرآن، واجتهادهم فيما حواها القرآن ليس الا قطرة من بحر، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده) ([234]). وكان يعنّف من يبالغ في تبجيل آراء القدماء، ويفند قوله، ويسفه رأيه، مع احترام اشخاص القدماء، فمثلاً ذكر في مجلسه يوماً قول للقاضي عياض وتعصب له راووه، فأجابهم جمال الدين: (سبحان الله! ان القاضي عياضاً قال ماقاله على قدر ما وسعه علمه وتناوله فهمه، وناسب زمانه، أفلا يحق لغيره ان يقول ما هو اقرب للحق وأوجه وأصوب من قول القاضي عياض وغيره من الائمة؟ اذا كان القاضي عياض وامثاله سمحوا لانفسهم ان يخالفوا أقوال من تقدمهم، فاستنبطوا وقالوا ما يتفق وزمانهم، فلم لا نستنبط ونقول ما يوافق زماننا؟!)([235]). ولم يتوقف جمال الدين عند الدعوة لكسر الحصار على العقل المسلم، وانما مارس الاجتهاد في أكثر من حقل من العلوم الاسلامية، وانبسطت مسألة الاجتهاد لديه فتجاوزت المفهوم التقليدي الذي يرتهنها بالفقه خاصة، وهذا ما لاحظناه في طريقته الجديدة في تقنين »الفهم الاجتماعي للاسلام« وابداعه في استئناف المنجز الخلدوني في فقه السنن، مضافاً الى رفضه للتقليد وتعاطيه مع مختلف قضايا العقيدة والشريعة من منظور اجتهادي، يجتنب استنساخ آراء السلف. كذلك عمل جمال الدين على تدريب تلامذته واصحابه على مخاصمة التقليد وغرس المنحى الاجتهادي في التفكير، وجرى على يديه تأهيل بعضهم لدرجة الاجتهاد، فكان قصب السبق لمحمد عبده الذي اقتبس المنهج الاجتهادي من استاذه، وراح يصدح بدعوته لفتح باب الاجتهاد، وهذا ما نراه جلياً في تأكيد محمد عبده (أن الحياة الانسانية للمجتمع الانساني حياة متطورة، ويجد فيها من الاحداث والمعاملات اليوم مالم تعرفه امس هذه الجماعة، والاجتهاد هو الوسيلة المشروعة الملائمة بين احداث الحياة المتجددة وتعاليم الاسلام، ولو وقف الامر بتعاليم الاسلام عند تفقه الائمة السابقين لسارات الحياة الانسانية في الجماعة الاسلامية في عزلة عن التوجيه الاسلامي، وبقيت احداث هذه الحياة في بعد عن تجديد الاسلام اياها، وهذا الوضع يحرج المسلمين في اسلامهم) ([236]). ووجدت دعوة جمال الدين اصداء لها في مختلف انحاء العالم الاسلامي بعد وفاته، واضطلعت الحركات الاسلامية بالاجتهاد من طرائق العمل الاسلامي وفقه الدعوة، وسعى طائفة من المفكرين لتعميم منهج في سائر المعارف الاسلامية. رابعاً: انتهاج المنحى النقدي في التفكير عندما تدخل الامة مسار الانحطاط تهرب من مراجعة تاريخها وتقويم تراثها والتبصر بواقعها، وتعمل على ابقاء ماكان على ماكان، واستصحاب الماضي - حسب تعبير الاصوليين – وحمله معها للحاضر وتحنيطه كشبح مقدس يجب ان تطوف الامة من حوله ابدا، ولا يجوز أن تنفلت من اسره في المستقبل، وانما تظل تستنسخ صورته في حركتها التاريخية، وتعد اية محاولة لاشاعة التفكير النقدي وتقويم الواقع او نقد تجارب السلف جناية لا تغتفر ربما تسوق صاحبها الى القطيعة مع الناس والهجران من غالبية القوم، غير أن المنعطفات الكبرى في مسار الحضارات تبدأ دائما بولادة تيار نقدي عميق يدشنه واحد او أكثر من رواد النهضة، ثم مايلبث أن يأخذ بالاتساع حتى يتحول الى ظاهرة تسود وعي النخبة وتحرر عقل العالم من سلطة السلف وتتيح له افقاً ممتداً للتفكير، وهامشاً واسعاً للحرية الفكرية، فينبثق في فضاء ذلك الابداع، بعد ان يستقل العقل، ويباشر وظيفته من دون قيود وأغلال. فان التفكير النقدي بوابة الابداع، واذا اريد تنمية العقل وترسيخ العقلانية فلا بد ان يكون التفكير النقدي حاكماً. وقد تصدر هذا اللون من التفكير الحياة العقلية في اروبا ابان ارهاص عصر النهضة، فاتجه وعي الفلاسفة نحو تقويم التراث وقراءة اثار الاغريق وآثار آپاء الكنيسة والفلسفة المدرسية، وقاموا بتحليلها وتفكيكها، وبناء منهج فكري بديل على انقاضها، وهذا ما تنطق به اعمال »فرنسيس بيكون« و»رينيه ديكارت« وغيرهما من فلاسفة اوربا في عصر النهضة. لذلك حاول جمال الدين أن ينحو منحى نقديا في تفكيره، فقد تسلح جمال الدين ببصيرة نافذة أتاحت له أن يعاين واقع المسلمين وما انتهى اليه فكرهم بدقة ووضوح، فأنزعه ما وصلت اليه هذه الامة التي قدمت للبشرية الكثير في سالف عصورها، ووجد الامة تغط في نوم عميق لا تدري معه بما آل اليه حالها، اذن لابد من عويل مدو يكسر حالة السكون ويفجر حالة الصمت المطبق. فانطلق عويل جمال الدين من دون خشية من ردود فعل المتحجرين، ولم يعبأ بالرأي الذاهب الى التكتم على ميراث السلف وعدم الاعلان عن العناصر المندثرة في ثناياه، والتستر على الممارسات والبدع والخرافات المنتشرة في الواقع، تحت ذريعة »عدم التحرش بطقوس الناس«. وبدأ بنقد التراث ونقد الواقع والمجاهرة بما ينطوي عليه من ظواهر وعلاقات واساليب باطلة. ولم يرهب جمال الدين الملوك والسلاطين، ولم يسكت عن أية ممارسة او موقف او مفهوم فاسد مهما تطاولت قامة الشخص او الجهة والمؤسسة التي تتبناه. فبينما كان الناس تختفي اصواتهم ويخرسون بشأن ما يتصل بالسلطان والسلطة وظلمها وجورها، يتقحم جمال الدين مجلس السلطان، ويوجه نصال سهامه الى السلطان عبد الحميد نفسه وعائلته من امراء آل عثمان، ويوبخه على تفشي عاهات لا اخلاقية فيما بينهم نظير (القعود مع النساء، وتربية الخصيان) ([237])، وانغماسهم في اللهو والمجون، وادبارهم عن مشكلات الدولة والامة، بل تصل الجرأة بجمال الدين ان يؤنب السلطان ويلومه على الاحتجاب عن الجماهير خلف ستار كثيف من بطانة الحرس، ويطالبه بالظهور للملأ والتخلص من حالة الهلع من الموت، لان (نعم الحارس الاجل »فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون«)([238]). ومن الطريف ان بطانة السلطان عبد الحميد فوجئوا بطريقة تعامل جمال الدين معه، فراعهم يوما عدم اكتراثه في محضر السلطان وعبثه بين يديه بمسبحته، فلما خرج جمال الدين ابدوا دهشتهم من سلوكه هذا، فرد عليهم قائلا: »سبحانه الله!.. ان جلالة السلطان يلعب بمقدارت الملايين من الامة على هواه، وليس من يعترض منهم، أفلا يكون لجمال الدين حق أن يلعب في سبحته كيف يشاء؟!«([239]). وكان جمال الدين يجهر بغضبه من رسوم ومراسم وتقاليد قصور السلاطين، والالقاب الفارغة التي اسطنعها هؤلاء لانفسهم تعويضاً عن فشلهم وهزيمتهم أمام أوربا، ويصف هذه الحالة بدقة قائلا: »قنعوا بالقاب الامارة واسماء السلطنة وما يتبع هذه الاسماء من مظاهر الفخفخة وأطوار النفخة ، ونعومة العيش مدة من الزمان«([240]). ثم يواصل حديثه عن ترفهم وتهافتهم على البرتوكولات المزيفة فيقول: »يحرصون على طيب في المطعم، ولين في المضجع، وتطاول في البنيان، وتفاخر بالخدم والخول، ولا يراعون في حرصهم ما بعد يومهم، ويحافظون على لقب موضوع، ورسم متبوع، يقنعون منه بالاحتفال لهم في المواسم والاعياد، وهز الرؤوس، وثني الاعطاف تعظيما وتبجيلا، ثم تذييل الاوراق الرسمية بأسماء ليس لها مسميات، هؤلاء الساقطون يرضون لتخيل هذه المواثل [ يعني الرسوم ] بكل دنيئة.. اولئك صاروا في اعناق المسلمين سلاسل وأغلالا، يحبسون هذه الاسود عن فريستها، بل يجعلونها طعمة للثعالب، لا حول ولا قوة الا بالله«. بعد ذلك يصرخ موبخاً لهم بعنف (أيا بقية الرجال، ويا خلف الابطال، ويا نسل الاقيال، هل ولّى بكم الزمان؟ هل مضى وقت التدارك؟ هل آن أوان اليأس؟ لا، لا معاذ الله ان ينقطع أمل الزمان فيكم) ([241]). ويمضي جمال الدين في تشخيص بعض الامراض الاجتماعية في المجتمع الاسلامي فيرصد طبقة جديدة ظهرت في المجتمعات الاسلامية وقتئذ، اصطف فيها جماعة من النخب الذين انحازوا لنمط الحياة الاوربية وثقافتها ورموزها ولغاتها، فيحذر منهم، ويفضح نزعة التقليد المنحطة لديهم لكل ماهو افرنجي، ويعبر عنهم بانهم »المتسربلون بسرابيل الافرنج، الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط، لا يميزون بين حق وباطل«([242]). ويستهجن بشدة سلوك بعض هؤلاء، ممن يتبجحون بتعلمهم شيئا من اللغات الافرنجية، فيتوهم كل شخص منهم »أن ماتعلمه من الرطانة الاعجمية هي منتهى ما يمكن الوصول اليه من المدركات البشرية؟!«([243]). ويشير الى مايطبع سلوك هؤلاء من انبهار بكل ماهو افرنجي، فتضطرب رؤيتهم، ويغدو سلوكهم ملتبساً، ولسانهم هجيناً، حتى انهم »اذا رموا شخصا للحط من شأنه اردفوه للتوضيح بلفظ افرنجي ، فان عهدوا بشخص نوعا من المخالفة لمشربهم عدوه متعصبا«([244]). وهنا ينبه الى ما يجره موقف المقلدين للافرنج في كل شيء، من نتائج خطيرة وآثار مدمرة وتؤول الى هيمنة الغرب على الامة، ذلك ان المقلدين من كل امة المنتحلين اطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الاعداء اليها، ويصير اولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات، يمهدون لهم السبيل ويفتحون الابواب، ثم يثبتون اقدامهم ويمكنون سلطتهم. ذلك بأنهم لا يعلمون فضلا لغيرهم ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم«([245]). لكن رفض جمال الدين تقليد الغرب لا يعني انه يدعو الى الانكفاء على الذات وعدم الافادة من العلوم الحديثة، لانه في طليعة الداعين للتوفيق بين الدين والعلم، فقد ذهب الى »إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية، فان كان ظاهره المخالفة وجب تأويله«([246]). وكان، يشجب منطق بعض من يدّعون انهم علماء ممن اتهم القرآن بسب جهلهم بانه يخالف الحقائق العلمية الثابتة، مع ان »القرآن بريء مما يقولون، والقرآن يجب ان يجل عن مخالفة العلم الحقيقي خصوصاً الكليات«([247]). وقد بلغت معاناة جمال الدين حدا لا يطاق من أدعياء العلم المنتحلين لصفة العلماء، وضاق بهم ذرعا، فكان يندد بأساليبهم التي تنفر الناس من الدين، ولما همّ السلطان عبد الحميد ان يرسل مجموعة من العلماء الاتراك الى اليابان استجابة لطلب امبراطورها بايفاد بعثة من علماء الاسلام كيما يتعرف باليابانيون على الاسلام، قال له جمال الدين: »إن العلماء نفّروا المسلمين من الاسلام، فأجدر ان ينفروا الكافرين! والرأي أن ترسل الى الامبراطور هدايا مع كتاب تعدونه فيه بتلبية طلبه، ثم نجتهد في تخريج طائفة من العلماء يصلحون للدعوة ويدخلون اليها من باب المعقول«([248]). وطالما ضجر جمال الدين من انحدار المستوى العلمي لطلاب العلوم الشرعية، وطغيان الاهتمام بالمظاهر والالبسة، فكان يقول متندرا: »كان مقر الفقه في الرأس والصدر ثم انحدر الى الجبه والسطر«([249])، ويردف قائلا: »عمامة كالبرج وجبة كالخرج«([250]). ومما اثار حنق جمال الدين حالة التدابر والقطيعة بين العلماء، وهم القائمون على هداية الناس ورعاية شؤونهم ، بينما »لا تواصل بينهم ولا ترسال، فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي، فضلا عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن شؤون العالم الافغاني، وهكذا، بل العلماء من اهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا صلة تجمعهم.. وكل ينظر الى نفسه ولا يتجاوزها، وكأنه كون برأسه«([251]). ولم يقصر جمال الدين على نقد الاستبداد السياسي، والمتغربين، والمرتدين برداء العلماء، بل تجاوز ذلك الى نقد الاستعمار وبيان شتى اساليبه، ومكره ومخاتلته، وسبل التحرر من هيمنته، وهكذا عنى بشخيص الامراض الاجتماعية التي طفحت على السطح، كالوهن، والجبن، والانبهار بالآخر، والتجزئة... وغيرها، وأوصى بجملة مقترحات للخلاص منها. بقيت ثلاثة مرتكزات في المشروع الاحيائي لجمال الدين ، هي: خامسا: العقلانية المتعاضدة مع الوحى. سادسا: التحريض على الثورة (مناهضة الاستبداد السياسي والاستعمار). سابعا: الجامعة الاسلامية (الوحدة الاسلامية). نرجئ الحديث عنها لمناسبة اخرى، مع العلم ان بعض ابحاث الملف تكفلت دراسة هذه المرتكزات. كذلك نؤجل الحديث عن مجموعة الشبهات والتهم التي شاعت حول جمال الدين، مثلما شاعت من قبل حول المجددين والمصلحين.