خطاب جمال الدين الأفغاني في استانبول وما احدث هذا الخطاب من ردود فعل خير الدين كارامان إن الذين يُكفّرون السيد جمال الدين ويرمونه بالزندقة فهم الذين يعتمدون في زعمهم على ثلاثة أدلة رئيسية: فالأول منها هو »انتسابه إلى الماسونية« ، والثاني رده أو ماقال في رده لمقالة رُنان، والثالث قوله في خطاب له وذلك في ليلة من ليالي شهر رمضان (عام 1871/ 1287) إن النبوة صنعة من الصنايع التي تنبع من شخصية النبي لها. ونحن بهذه المناسبة في مقالتنا هذه نود أن نتعرض إلى دليلهم الثالث فقط معرضين عن الاشتغال بالدليل الأول والثاني وتاركين لهما إلى مقالات لباحثين آخرين قد يتعرضون إليهما. قصة الخطاب كما حكاها لنا الشيخ محمد عبده: »وصل الاستانة، وبعد أيام من وصوله أمكنه ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة وعرف له الصدر فضله وأقبل عليه بمالم يسبق لمثله، وهو مع ذلك بزيّه الأفغاني قباء وكساء وعمامة عجراء؛ وحوّمت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء وعلا ذكره بينهم، وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وادبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم . وبعد ستة أشهر سمّي عضواً في مجلس المعارف فأدى حق الاستقامة في آرائه وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه. ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الاسلام لتلك الأوقات حسن فهمي أفندى لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه فأرصد له العنت حتى كان رمضان سنة 1287 ، فرغب إليه مدير دار الفنون تحسين أفندى أن يلقي فيها خطاباً للحث على الصناعات فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه تحسين أفندي فأنشأ خطاباً طويلاً كتبه قبل إلقائه وعرضه على وزير المعارف وكان صفوت باشا وعلي شرواني زاده، وكان مشير الضابطية، وعلي دولتلو منيف باشا ناظر المعارف وكان عضواً في مجلس المعارف، واستحسنه كل منهم وأطنب في مدحته. فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب تسارع الناس الى دار الفنون واحتفل له جم غفير من رجال الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب الجرائد، وحضر في الجمع معظم الوزراء، وصعد السيد جمال الدين على منبر الخطابة وألقى ماكان أعدّه، وأرسل حسن فهمي أفندى أشعة نظره في تضاعيف الكلام ليصيب منه حجة للتمثيل به. وما كان يجدها لو طلب حقاً، ولكن كان الخطاب في تشبيه المعيشة الانسانية ببدن حي، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن تؤدي من المنفعة في المعيشة ما يؤديه العضو في البدن. فشبه الملك مثلاً بالمخ الذي هو مركز التدبير والارادة. والحدادة بالعضد والزراعة بالكبد والملاحة بالرجلين، ومضى في سائر الصناعات والأعضاء حتى أتى على جميعها ببيان ضافٍ وافٍ، ثم قال: هذا ما يتألف منه جسم السعادة الانسانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة؛ ولكن يفرق بينهما بأن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب يختص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. أما الحكمة فمما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات، وبأن النبي معصوم من الخطأ والحكيم يجوز عليه الخطأ بل يقع فيه، وأن أحكام النبوات آتية على مافي علم الله لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فالأخذ بها من فروض الايمان. أما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها إلا من باب ماهو الأولى والأفضل على شريطة أن لا تخالف الشرع الإلهي. هذا ماذكره متعلقاً بالنبوة، وهو منطبق على ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية؛ إلا أن حسن فهمي أفندي أقام من الحق باطلاً ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن الشيخ جمال الدين زعم أن النبوة صنعة، واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة (وهكذا تكون حجج طلاب العنت) . ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفاً بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه واثبات براءته مما رمي به، ورأى أن ذلك لا يكون إلا بمحاكمة شيخ الاسلام (وكيف يكون ذلك)، واشتد في طلب المحاكمة، وأخذت منه الحدة مبلغها، وأكثرت الجرائد من القول في المسألة، فمنها نصراء للشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الإسلام. فأشار بعض أصحاب السيد عليه أن يلزم السكون ويُغضي على الكريهة، وطول الزمان يتكفّل باضمحلال الإشاعات وضعف أثرها. فلم يقبل، ولج في طلب المخاصمة فعظم الأمر وآل الى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الاستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب ثم يعود إن شاء. ففارق الاستانة مظلوماً في حقه مغلوباً لحدته«([273]). هذا هو ماكتبه الشيخ محمد عبده فيما يتعلق بحادثة الخطاب([274]) . غير أنه لم ينقل نص الخطاب بل رواه بمعناه مع تأويله وتوجيهه، واتبعه في مسألة الخطاب كل من يؤديون السيد ويحبونه من العرب والأتراك والعجم وغيرهم ويحتمل أن يكون أعداء السيد ومعارضوه إما قد اعتمدوا على النص الفارسي للخطاب المذكور والمنسوب إلى السيد جمال الدين، وهو الخطاب الذي ورد ذكره في كتاب السيوف القواطع لمن قال إن النبوة صنعة من الصناع لأحمد خليل الفوزي، وكيل الدرس (أي ناظر المدارس) لشيخ الاسلام حسن فهمي؛ ونصه كما يلي: ( هر صناعتي كه موضوع آن كلي ونفع آن بر كل راجع بوده باشد آن صناعت اشرف وافضل از سائر ارباب صنايع است مانند پيغمبري و فيلسوف وخليفة وفقيهي چنان بيان شد. آن قوة فاعلة راسخ است در موضوعي از موضوعها با فكر صحيح از براي غرض از اغراضها محدود ذات بوده باشد چه وهبي بوده باشد چه كسبي. موضوع صناعت يا كلي است وبحث متعلق بعلم وعمل است وصلاح در هر دو حال تابع غرض وآن صناعت پيشة انبيا وفلاسفه است. هم ميتوانم از براي صناعت كنم بس مكويم صناعت صفة فاعله است در موضوع از موضوعها درين هنكام جائز است نسبت آن حضرت ميدهم وليكن از موضوع مسئله خارج ميشوم. ميتوانم بكويم كه شرافت صناعت بر حسب شرافت موضوع آن انسان ويا افعال ويا متعلقات آن بوده باشد و مقصود آن اصلاح بوده باشد اشرف از سائر صنائع خواهد پس پيغمبري و فيلسوفي وخليفه ي وفقيهي وطبيبي اشرف از سائر خودها بود اين در صناعت شريفه يعني پيغمبري وفيلسوفي. اكر موضوع كلي بوده باشد وغرضي صانع فساد موضوع بوده باشد اين صنعت ارزل واخس واشنع صنايع است وصانع آن اخس وارزل ومستوجب قطع وقتل وحبس است مانند مبتدعان واباحيان چون اصحاب مژدك وانبياء كذبه كه غرض اينان هدم قواعد حكمت وانتظام وآسايش است. بايد دانست كه هر روز كاري وقرني بصاحب ناموس وپيغمبر احتياج نه دارد چه يك نظم وشريعت اهل ادوار بسيار را كفايت كند و اما هر روزكاري عالم مدبر بايد اكر تدبير منقطع شود نظام مرتفع كردد وبقاي نوع انسان بر وجه اكمل صورت نه نبود و اين مدبر را ولايت تصرف بود در جزئيات ناموس در هر روزكار. بس بدان آنحه فرق در ميان نبي وفيلسوف حكيم از سه وجه تواند بود يكي آنكه نبي را حقيقت اشياء ومصالح افعال عباد بر وجه الهام ووحي حاصل ميشود وفيلسوف را از روي استدلال وبرهان دوم آنكه نبي را خطا واقع نه شود وحكيم را باشد كه خطا كند وسوم انكه حكم حكيم بر نهج كلي است واصلا نظر بر اجزاء زمان نه دارد وحكم نبي بر حسب اجزاء زمان است از ان جهت است كه احكام انبياء مختلف است بلكه يك نبي را نيز احكام مختلفه باشد چونانكه در زماني حكمي فرمايد ودر زمان ديكر بر حسب مصلحت وقت وزمان آن را نسخ فرمايد وحكيم احكام را يبان ميكند كه با اخلاف احوال وتبدل رجال ومرور زمان اختلاف نه پزيرد واين از نقص حكيم است كه انحراف كلي را از حد اعتدال نه داند وعلاج انحراف را نه فهمد بلكه هميشة حفظ صحت فرمايد والسلام علي من اتبع الهدي).([275]) لقد نقل أحمد فوزي هذه العبارات الفارسية في أجزاء متفرقة في كتابه المذكور ثم حكم بكفر السيد قائلاً: 1ـ سوى بين النبي والفيلسوف ، وهذا كفر. 2- عدّ النبوة صناعة، والصناعات كسبية، ويلزم من هذا اعتقاد أن النبوة كسبية، وهذا كفر. 3- المعنى العرفي للصناعة والصنعة هو العمل الكسبي، ونسبة الصناعة إلى الله غير جائزـ يستوجب أن يكون الله عزوجل محلا للحوادث، وهذا الاعتقاد كفر. 4- بقوله »أنبياء كذبه« أنكر عصمة الأنبياء وافترى عليهم بنسبة الكذب إليهم، وهذا كفر (وغنى عن البيان أن السيد قصد بقوله »أنبياء كذبه« المتنبؤن الكذابون فقط). 5- بقوله »هر روزكاري پيغمبر احتياج ندارد« أنكر الأنبياء كلهم إلا واحداً، وهذا كفر لأن الأنبياء أكثر من واحد. 6- إن عباراته في الفقرة الأخيرة التي تبين الفرق بين النبي والفيلسوف ويقرر بأن النبي يوحى إليه ويلهم وأنه لا يوجد الخطأ في تبليغات الأنبياء؛ هذه كلها تقية أراد بها ستر كفره وزندقته. ونحن نلاحظ: أـ أن المؤلف ينطلق من حكمه المسبق على السيد، فيحرّف كلامه ويرتب المقدمات لينتج ما يقصده من النتائج ويلزم الرجل ما لا يلزم شرعاً وعقلاً ويغالط أو يخطئ في فهم كلامه كما أخطأ في معنى »أنبياء كذبه« فيكفره بما لا يستوجب التكفير. 2- أن النص الذي ساقه المؤلف في كتابه مؤلّف من أجزاء متفرقة وانقصة لانجد فيها النص الكامل للخطاب. 3- أن الثابت تاريخيا هو كون السيد قد ألقى خطابه هذا باللغة التركية؛ والنص الفارسي لم يحصل عليه أحد فيما وصل إلينا من مؤلفات السيد، كما لم يكن عند أحد دليل ولا يوجد لنسبته الى السيد دليل. 4- عرض السيد مسوّدة خطابه إلى الوزراء والباشوات قبل أن يلقى، فاستحسنوه ولم ير فيه أحد منهم ما ينافى العقيدة السليمة؛ ويستبعد في المنطق السليم أن يقبل الوزراء خطاباً فيه نص ينافى العقيدة الإسلامية السمحة. 5- وعشية ليلة إلقاء الخطاب، قد دعا صفوت پاشا، وزير المعارف، جودت پاشا وزير العدل إلى قصره، فكان السيد حاضراً في المجلس. وعندما رأى جودت پاشا نص الخطاب المكتوب سأله عما يعنى بالصناعة، فقال السيد: »أعنى بالصنعة والصناعة هنا الشغل والعمل عموما« . قال جودت پاشا: لو كنت لجأت إلى كلمة الصنع بدل الصنعة لكان أولى وأحسن، وكنت قد استبعدت عن نفسك سوء الفهم أو الايقاع فيه من قبل السامعين. وهذا يعني أن جودت پاشا لم يرَ في النص من بأس غير هذا في الإلقاء. وقد كتب في تقريره العريض إلى السلطان عبد الحميد الثاني في عهده كما يلي: لم يكن هناك سبب لنفي وإبعاد السيد جمال الدين وتغريبه غير استعماله كلمة الصنعة – المنافية لعرف المملكة – بدل كلمة الصنع أو العمل أو الشغل ([276]). 6- ذكرت الجهة الرسمية والمختصة قرار النفي بالعودة إن شاء، كما أشار إليه الشيخ محمد عبده، وذلك بعد سكون الفتنة. وقد دعاه عبد الحميد الثاني إلى الوطن العثماني بعد سنين من منفاه؛ ورجوع السيد إلى الوطن كان سبباً لتكريمه من قبل السلطان وحاشيته، فلم يدّع أحد حينذاك بأنه قد ارتد عن دينه وكفر بسبب خطابه المذكور، كما لم يذهب أحد إلى انه يجب عليه العقاب الشرعي. هذا، وقد ترجم كتاب السيوف القواطع إلى اللغة التركية من قبل خير الدين الفيضى ، (وهو ابن المؤلف)، وطبعت الترجمة سنة 1298 (أي بعد عشر سنوات من الحادثة) بالحروف العثمانية، وبعد ذلك نرى أحد الصحفيين قد طبع الكتاب مرة أخرى بالحروف اللاتينية في استانبول سنة 1976 وقد ألف شاب درس الطب في الولايات المتحدة كتاباً سماه المقالات حول جمال الدين الأفغاني (استانبول، 1996م) فجمع فيه أسماء كل من كتب حوله من المقالات. وقد رد فيه المؤلف كل من حاول الدفاع عن السيد وتأييد إخلاصه في العقيدة، مؤيداً فيه الآراء التي تتهمه وتذمه وتحكم عليه بالكفر. ومن الجدير بالذكر إن جمال الدين الأفغاني قد لقى قبولاً وترحيباً منذ عهده وحتى اليوم في تركيا من قبل هؤلاء الذين يحترمون آراءه ويؤيدون في دعواه. فمنهم الشاعر الوطني والمفكر الشهير محمد عاكف أرسوى، وهو الذي ترجم عدداً غير قليل من مقالات جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده إلى اللغة التركية. وكذلك الشيخ أحمد حمدي آقسكي (رئيس شؤون الديانة السابق بجمهورية تركيا) الذي ترجم كتاب محاورات المصلح والمقلد لرشيد رضا إلى التركية أيضا. وعندما كلّفتني اللجنة العلمية بالموسوعة الإسلامية لوقف الديانة التركية أن أكتب للموسوعة مادة »جمال الدين الأفغاني« قبلتها عن ظهر قلب، فحاولت أثناء التأليف أن أقف على حقائق ملموسة فيما يتعلق بواقع السيد وحياته العلمية وشخصيته الجبارة؛ فاستنتجت أثناء البحث العلمي الشاق أنه كان ولايزال عبقرياً من عباقرة العالم الاسلامي عبر تاريخنا المشرق. فكان رجلاً صادقاً في ايمانه، مخلصاً في همته العالية ومقاصده الرفيعة، اذ ضحّى حياته لها، فعاش في دائرة الاسلام من أجل الاسلام والمسلمين حتى تكون كلمة الله هي العليا وعزة المسلمين هي راية المجتمع الانساني المعاصر. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ويستقر في تاريخ بنى البشر. والسلام عليكم