المتبقية من أتباعه، ولإيجاد مساحة أخرى يمكن أن توفّر له نوعاً من الحماية الضرورية لأفراده، فكان أن وجّههم(صلى الله عليه وآله) إلى الحبشة، الدولة المسيحية المجاورة. ومن هنا كان لزاماً على الأفراد المهاجرين أن يتوافروا على مقدار من الوعي الفكري والثقافي، خاصةً وهم يقصدون بلداً مختلفاً تماماً عن طبائعهم وأخلاقهم، والتعامل مع شعب مسيحي يحكمه ملك يعتقد بالمسيحية، ويؤمن بمبادئ السيد المسيح(عليه السلام). وقد سجّل هؤلاء المهاجرون بقيادة الصحابي جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) موقفاً شجاعاً أمام الملك، ترك بصماته على وجوه أتباع الملك وعلماء الحبشة من المسيحيين، بعدما عرّوا وفد قريش المشرك من مسحته القدسية الزائفة التي كان متلبّساً بها، وردّوا طعونه المسمومة إلى نحره حينما أراد الوفد أن يثير الغبار على الصورة النقية التي يحملها الإسلام والمسلمون تجاه شخص عيسى المسيح(عليه السلام)، وينقل الأقوال المقزّزة التي كان اليهود يثيرونها والتي تنال من منزلة وجلالة هذا السيد وأُمّه العذراء، وراح يلصقها بهؤلاء المهاجرين أمام الملك، لغرض طمس الحقائق، واستجابةً لأهوائهم المنكرة. وقد أثارت غضب الملك فعلاً الذي طلب من المسلمين توضيح الأمر، وأن يبدوا وجهة نظرهم تجاه هذا المسألة بشفافية... والقصة معروفة. ولعلّ هذه الحادثة كانت أكثر تجلّياً للموقف الإسلامي تجاه هذا السيد الجليل وأمّه القديسة، حيث قاد الأمر إلى أن شهد الملك بأصالة الإسلام ونقائه، وأنّه والمسيحية يشكّلان رافدين جاريين من منبع واحد. بل تعدّ الحادثة ـ بكلّ تداعياتها ـ رصداً للاهتمام الإسلامي بشخصية المسيح وشريعته المقدّسة، وكشفاً لمدى التقدير والاحترام الذين يكنّهما المسلمون لهذا النبي المرسل وأمّه البتول(عليهما السلام)، فأجهضت كلّ محاولات اليهود الرامية إلى زرع الفتنة والاقتتال بين المسيحية والإسلام وهو يخطو خطواته الثابتة في الحياة. والحقيقة الثانية التي يجب الإشارة إليها هنا: أنّ هذا الاهتمام البالغ من الإسلام تجاه عيسى المسيح(عليه السلام) لم يكن ناشئاً عن مصلحة طارئة، ووليد ظروف معيّنة، بل كان يمثّل جانباً من المشروع الإسلامي الكبير تجاه الإنسان والمجتمع والبيئة والحياة، وحلقةً من