فأعداء الماديّة التاريخيّة ـ على زعمه ـ هم أعداء علم التاريخ، أعداء الحقيقة الموضوعيّة. والواقع أنّ الماركسيّة أهملت حلقة مهمّة في البين بهذا الاستناد وذلك لأنّ ما استنتجته لا يتم مطلقاً إلاّ إذا أثبتت إنّ الإيمان بالأمرين السابقين يستلزم الإيمان بالماديّة التاريخيّة حتى يكون إنكار النتيجة مستلزماً لإنكار المقدّمات أو إحدى المقدّمات وهذا الاستلزام أمر لا يمكنها إثباته مطلقاً. فالإيمان بوجود المجتمع وتطوّراته مستقلا عن شعورنا بتلك الأحداث أمر نتّفق عليه جميعاً وليس هو من مزايا الماديّة التاريخيّة فحسب بل يؤمن به كل من يفسّر أحداث التاريخ أو تطوّراته بالأفكار أو بالعامل الطبيعي أو الجغرافي وغير ذلك. فكل تلك التفسيرات تؤمن أوّل ما تؤمن بالحقيقة الإجتماعية الموضوعيّة. ثمّ إنّ أي بحث في التاريخ سوف لن يكون له أي معنى إن لم يقم على أساس أنّ أحداث التاريخ بصفتها جزءً من أحداث الكون تخضع للقوانين المسيطرة على العالم ومنها قانون العلّية. فكل باحث علمي إذن يعتقد بتينك الحقيقتين (الواقع الموضوعي للمجتمع، ومبدأ العلّية) وإنّما يدور النزاع بين التفاسير المختلفة حول العلل الأساسية التي تعمل في المجتمع، هل هي القوى المنتجة؟ أو الأفكار؟ أو العنصر؟ أو الأوضاع الطبيعيّة؟ أو كل هذه الأسباب مجتمعة؟ والواقع إنّ الماركسيّة من أغنى المبادئ التي تتاجر بالشعارات البرّاقة والألفاظ التي لها وقعها في نفوس الناس مستغلّة ذلك في إنجاح دعواها دون أن يكون هناك واقع وراء تلك الشعارات وذلك ما سيتبيّن في الفصول الآتية.