فصل في الإشارة إلى أطراف الأدلة في معرفة الله عز و جل في حدث العالم ـ العالم عبارة عن كل شيء غير الله هو جملة الأجسام و الأعراض و جميع ذلك موجود عن عدم بإيجاد الله عز و جل و اختراعه إياه قال الله عز و جل : { و هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } و سئل نبينا صلى الله عليه و سلم عن بدء هذا الأمر فقال : كان الله و لم يكن شيء غيره ـ ثم ذكر الخلق فإن قال قائل : فهل في العقل دليل على حدث الأجسام ؟ قيل : نعم و قد وجدنا الأجسام لا تنفك عن الحوادث المتعاقبة عليها كالاجتماع و الافتراق و السكون و الحركة و الألوان و المطعوم و الأرايح و ما لم ينفك من الحوادث و لم يسبقها محدث مثلها و إن قال : و هل فيه دليل على حدث الأعراض ؟ قيل : نعم قد وجدناها تتضاد في الوجود و لا يصح وجود جميعها معا في محل فثبت أن بعضها يبطل ببعض و ما يجوز عليه البطلان لا يكون إلا حادثا لأن القديم لم يزل و لا يصح عليه العدم فإن قال : فهل فيه دليل على أن الحوادث لا بد لها من محدث ؟ قيل : نعم حقيقة المحدث ما وجد عن عدم و لولا أن موجودا أوجده لم يكن وجوده أولى من عدمه و إنه يتقدم بعضها على بعض فلولا أن مقدما قدم ما تقدم منه لم يكن حدوثه متقدما أولى من حدوثه متأخرا و كذلك وجود بعضه على بعض الهيئات المخصوصة يدل على جاعل خصه بذلك لولاه لم يكن بعض الهيئات بأولى من بعض و لأنا نشاهد الأجسام يتنقل أسبابها و يتبدل أحوالها فلولا أن منقلا نقلها لم يكن انتقالها أولى من بقائها و في ذلك دليل على أن تعلقها بمن نقلها و حاجتها إلى من غيرها أنها مصنوعة و أن لها صانعا غيرها و نحن نصوره في الإنسان الذي هو في غاية الكمال و التمام فإنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما و لحما و دما و قد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال لأنا نراه في حال كمال قوته و تمام عقله لا يقدر على أن يحدث لنفسه سمعا و لا بصرا و لا أن يخلق لنفسه جارحة فدل ذلك على أنه قبل تكامله و اجتماع قوته عن ذلك اعجز و قد رأيناه طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا و قد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال ( فدل على أن ناقلا نقله من حال إلى حال ) و دبره على ما هو عليه و مما يبين ذلك أن القطن لا يجوز أن يتحول غزلا مفتولا ثم ثوبا منسوجا من غير صانع و لا مدبر و الطين و الماء لا يجوز أن يصيرا بناء مشيدا من غير بان و كما لا يجوز صانع لا صنع له لا يجوز صنع لا من صانع و قد نبهنا الله تعالى في غير موضع من كتابه العزيز على ما ذكرناه من العبر فقال عز و جل : { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون * ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } و إن قال قائل : و من لكم بأن أثر الصنع موجود في السماوات و الأرض ؟ قال الحليمي ـ C تعالى ـ قيل له إن السماء جسم محدود متناه و المحدود المتناهي لا يجوز أن يكون قديما لأن القديم هو الموجود الذي لا سبب لوجوده و ما لا سبب لوجوده فلا جائز أن يكون له نهاية لأنه لا يكون وجوده إلى تلك النهاية أولى به من وجوده دونها أو وراءها و لأن المتناهي لا يكون خالص الوجود لأنه إلى نهايته يكون موجودا ثم يكون وراء نهايته معدوما و القديم لا يعدم فصح أن المتناهي لا يجوز أن يكون قديما و السماء متناهية فثبت أنها ليست بقديم فإن قيل : و ما الدليل على أنها متناهية ؟ قيل : الدليل على أنها متناهية عيانا من الجهة التي تلينا فدل ذلك على أنها متناهية من الجهات التي نراها و لا نشاهدها لأن تناهيها من هذه الجهة قد أوجب أن لا يكون ما يلينا منها قديما موجودا إلا لسبب فصح أن ما لا يلينا منها فهي كذلك أيضا لأنه لا يجوز أن يكون شيء واحد بعضه قديم و بعضه غير قديم و أيضا فإن السماء جسم ذو أجزاء و كل جزء منه محدود متناه فدل ذلك على أن جميعها محدود متناه ثم ساق الكلام إلى أن قال ـ و ما قلته في السماء فهو في الأرض مثله و أبين لأن أجزاء الأرض تقبل في العيان أنواعا من الاستحالة و كذلك الماء و الهواء لأن أجزاء كل واحد من هذه الأشياء يجتمع مرة و يتفرق أخرى و ينتقل من حال إلى حال فصار حكمها حكم غيرها من الأجسام التي ذكرنا في الحاجة إلى مغير غيرها و ناقل نقلها و هو الواحد القهار قال البيهقي ـ C ـ فإن قال قائل : و هل في العقل دليل على أن محدثها واحد ؟ قيل : نعم و هو استغناء الجميع في حدوثه بمحدث واحد و الزيادة عليه لا ينفصل منها عدد من عدد و لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظم و دلا على أحكام كما قال الله عز و جل : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله } و لكان العجز يلحقهما أو أحدهما و ذلك أنه لو أراد أحدهما أحياء جسم و أراد الآخر إماتته كان لا يخلو من أن يتم مرادهما و هذا مستحيل أو لا يتم مرادهما أو مراد أحدهما دون صاحبه و من لم يتم مراده كان عاجزا و العاجز لا يكون الها قديما و عبارة أخرى و هي أن حال الاثنين لا يخلو من صحة المخالفة أو تعذر المنازعة فإن صحت المخالفة أو تعذرت المنازعة بأن صحت المخالفة كان الممنوع من المراد موصوفا بالقهر و أن تعذرت المنازعة كان كل واحد منهما موصوفا بالنقص و العجز و ذلك يمنع من التثنية و قد دعانا الله عز و جل إلى توحيده في غير موضع من كتابه بما أرانا من الآيات و أوضح لنا من الدلالات فقال عز من قائل : { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } قرأها إلى قوله ـ { لآيات لقوم يعقلون } إلى سائر ما ورد في الكتاب من الدلالات على صنعه و توحيده