/ صفحه 181 /
على الأكثر علل تختلف قرباً وبعداً من معلولها عند النظر، ولكن لابد منها جميعاً في إحداث هذا الأثر، وإيجاد تلك النتيجة، ولنتبين ذلك نقول كلمة في أثر كل منها على حدة:
أما طبيعة بلادهم، فكل ما فيها معنوي شعري، يداخل ثنايا النفس، ويتغلغل في باطن الشعور، ويوحي بشديد التأمل، ويرسل الفكر من كل قيد، ويمس أوتار القلب، ويصيب مباعث الوجدان، ويبعث الخاطر قوياً حاداً.
آثارها في النفس مفصّلة غير مجملة، واضحة غير مبهمة، متميزة غير مختلطة، يعدّها العادّ إذا شاء، فهي سبيل إلى الصفاء، بل هي الصفاء عينه، وذلك مما يرحّب به الطبع، ويتلقاه القلب بأحسن القبول ويتركز في النفس، وتنتقش آثاره في الحافظة، ولا أدل على عكس هذا من حياتنا الحاضرة في تزاحمها وتداخلها واضطرابها.
وأما نظامهم الاجتماعي: فإن الحكم القبلي يستتبع من الفرد الناشئ فيه حياة خاصة غير تلك الحياة التي يحياها أفراد الشعوب المحكومة بحكومات منظمة، لأن أثره في تربية الفرد وتقوية الذات ـ بالاعتماد على النفس حرة طليقة ـ أشد وأمعن من النظام الحكومي الواسع الذي تكون فيه السيطرة للقوانين المدوّنة، محوطة بعوامل الإرهاب، فالوازع فيها أجنبي ضاغط مخوف، بخلاف الحكم القبلي الذي كانت عليه العرب في جاهليتها، إذ هو أقرب إلى نظام الأسرة في بساطته، إلا بما يؤثر في عشيرته أو قومه من عرف موروث، أو عادة متبعة، وما هذا بالوازع الأجنبي، لأنه وليد بيئته التي يعيش فيها فيشعر شعورها، ويتجه اتجاهها بدون استيحاش أو نفار، على أن سائر وجوه الارتباط فيهم بين الأفراد والجماعات بسيطة، لا كلفة فيها ولا تعاظل، وذلك مما يعين على الصفاء، ويهيء الأذهان للتأثر بما يرد عليها من المعارف والحوادث، وبخاصة معارف الحياة العربية وحوادثها، فإنها مما يهز النفوس، ويعلق بها أشد التعلق.